سوري يعيش مع إنجليزية في شقة واحدة.. تجربة إنسانية رائعة تعرَّف عليها
جو 24 : كتبت الفتاة البريطانية هيلين بيد عن تجربتها في استقبال لاجئ سوري للعيش معها في غرفة بشقتها، وتحدثت في مقال بصحيفة الجارديان البريطانية عن مخاوفها من ذلك السوري الذي جاء من عالم لا تعرفه وكيف يعيش بـ 5 جنيهات إسترلينية في اليوم بعيداً عن زوجته وابنته ذات ال16 شهراً، وكيف واجهت معه اختلافاتهما الفكرية والاجتماعية وكيف غيَّر من حياتها ومفاهيمها وصنع منها إنسانة تأسى لحال الآخرين وتقدِّر مشاعرهم.
وعلى نفس الصفحة وفي نفس المقال بالجارديان تحدَّث ياسر السوري مدرس اللغة العربية عن تجربة العيش مع فتاة في شقة وهو ما لم يتعود عليه في سوريا وبخاصة أنها فتاة إنجليزية تواجهه معها صعوبة اللغة وقسوة الظروف والبعد عن الأهل.
تجربة إنسانية لفتاة وشاب إنجليزية وسوري غربية وشرقي، أكدت أنه ممكن أن يعود الإنسان لآدميته وينسى كل منا عرقه ونسبه وجنسه ويحيا مع ابن آدم.
أولاً: هيلين بيد
"لن تحبي ما سأقوله لك؛ ولكنك ستحتاجين لوضع قفل على باب غرفة نومك، وقفل على باب غرفة الاستحمام. فالرجال من الممكن أن يتصرفوا بطريقة لعوبة عندما يكونون بعيدين عن زوجاتهم"، هكذا قال والدي.
أدرت عيني وأغلقت الخط بذعر، بعد أن كنت اتصلت لأخبر والدي أن ياسر، اللاجئ السوري سوف يأتي ليعيش معي بينما يرتب أمر انضمام زوجته وطفلته إليه ببريطانيا.
لقد كنت قلقة بعض الشيء بشأن ترتيب الأمر، ولكن بين كل الأشياء العديدة التي كانت تقلقني، كانت هناك تساؤلات "هل سيقبل نمط الحياة الوثنية التي أعيشها؟ هل بإمكاني أن أحصل على لحم الخنزير المقدد في عطلة نهاية الأسبوع؟ هل علي أن أغير من خزانة المشروبات الخاصة بي؟ احتمالية أن أتعرض للتحرش من قِبل المستأجر بمنزلي لم تكن قد خطرت لي بعد.
كانت أول مرة أتناول فيها الغداء مع ياسر بأحد أيام أغسطس/ آب، بعدما أخبرتني صديقة تركية مشتركة بيننا أنه سيصل إلى مانشستر وليس لديه رفاق هناك. لم تخبرني بأنه سوري، أو كيف وصل إلى جزيرتنا الممطرة. لذا كنت شديدة الدهشة عندما أخبرني بلغة إنجليزية ضعيفة جدًا أنه أمضى 37 يوماً في رحلة عبر البر والبحر.
فقد أبحر على متن قارب مطاطي في البحر المتوسط في هدأة الليل، على الرغم من عدم قدرته على السباحة، ومشى من اليونان إلى مقدونيا، وعبر أوروبا إلى أن وصل إلى مخيم أدغال "كاليه" الفرنسية، حيث صعد هناك على متن شاحنة لمدة 6 أيام قبل أن يصل إلى إنجلترا مختبئاً في ظهر شاحنة لوري. عقب 17 ساعة أمضاها بين صناديق الألعاب، طرق الباب الشاحنة.
سائق الشاحنة كان غاضباً، إذ قد يتعرض لغرامة تصل إلى 2000 جنيه إسترليني إن اكتشفت شرطة الحدود حمولته البشرية، أما ياسر فلم يكن حتى متأكداً أنه في إنجلترا في ذلك الحين، حتى مرّت سيارة تقود على اليسار. ومشى إلى أقرب محطة بنزين وطلب منهم استدعاء الشرطة، وحينها بدأت حياته الجديدة.
تساءلت كيف بإمكاني أن أساعده، فقد كان يعيش على 5 جنيهات إسترليني يومياً تقدمها شركة سيركو، والتي تعاقدت معها وزارة الداخلية لدراسة طلبات اللجوء.
وبينما كان ياسر منتظراً، دون التمكن من الحصول على عمل مدفوع، وكان يعيش في منزل تابع للشركة خارج منطقة "كاري ميل" جنوبي مانشستر مع 5 آخرين من طالبي اللجوء، سوريين، إريتريين، ورجل من السودان. طلبت منه القدوم لمساعدتي في لصق ورق الحائط في عطلة نهاية الأسبوع، ووافق، ولكن بعدها اضطررت إلى الذهاب لتغطية فعاليات بطولة العالم في المصارعة الحرة في باكوب، ولذلك تركته ينجز العمل.
عندما عدت، كان على وشك الانتهاء. تناولنا وجبة معاً بارتباك، ثم حاولت إعطاءه بعض المال، حينها رد ياسر فزعاً: "لا.. لا. لا أريد مال، أريد أن نكون أصدقاء".
بعدها بيومين، غرق الطفل السوري آلان على سواحل تركيا. تغير المزاج في بريطانيا، وفجأة صارت الصحف التي كانت تنشر قصصاً عن أن المهاجرين يتناولون بجع البحيرات بدت تظهر الرحمة. وديفيد كاميرون وافق على إعادة توطين 20 ألف لاجئ سوري، وأنا عرضت غرفة منزلي الخالية على ياسر.
كانت موافقته بطيئة، ولكنه سرعان ما حاز اللجوء وتأشيرة لمدة 5 سنوات، فاحتفلنا بتناول كعكة اشتراها من خباز باكستاني بمنطقة كاري ميل بتكلفة 3 أيام من راتبه اليومي.
أراني خطاب الموافقة على لجوئه: لديه 28 يوماً قبل أن يتم ترحيله من منزل سيركو، وأقل من شهر للحصول على رقم ضمان وطني، للتوقيع مع مركز تأمين الوظائف وإيجاد مأوى جديد يعيش فيه. إنه لأمر شاق حتى لبريطاني، فما بالك بسوري لغته الإنجليزية ضعيفة وليس لديه مال.
قبل أيام قليلة من موعد ترحيله عن المسكن، أرسل لي رسالة يتساءل ما إذا كان بإمكانه البقاء حتى وصول زوجته وابنته. كان قد حاول إيجاد مسكن، لكنهم قالوا له أن رجلاً أعزب يبلغ من العمر 34 عاماً دون أطفال يعيشون في المملكة المتحدة لا يمكن أن يحصل على الأولوية في السكن.
كان بدل السكن الذي سيحصل عليه حوالي 280 جنيهاً إسترلينياً في الشهر، لتغطية تكلفة غرفة في منزل مشترك مع مالك خاص (ولا فرصة لذلك من دون وجود وديعة)، أو عليه إيجاد مكان في مسكن للمشردين، حيث كان من المرجح أن يشارك غرفته مع مدمن على الكحول أو المخدرات.
أخذته من مسكن سيركو بعدها بأيام قليلة، وكان كل ما بحوزته لحاف، وسادة وحقيبة صغيرة. عندما أفرغ حقيبته رأيت كم هو قليل ما لديه: جاكيت واحد، قميص واحد، بنطالان من الجينز، سترتان وزوجان من الملابس الداخلية. كان ذلك كل ما يرتديه منذ اختبائه في الشاحنة، فضلًا عما أُعطي منذ وصوله.
اعتقدت أن إقامة ياسر لدي ستكون بمثابة نوع من التكفير عن الأخطاء التي فعلتها بحياتي، ولكن وجوده جعلني أشعر بالذنب، الذنب حيال ما أملك وتلك الحياة السهلة التي أعيشها، والشكوى من أشياء تافهة.
ذات يوم؛ كنت منفعلة بسبب عدم ملاءمة ستائري الجديدة للون نافذتي. "في بلدي، يقلق الناس حيال برميل متفجر قد يُرمى على منزلهم، وفي إنجلترا الناس تقلق حيال الستائر"، قال ياسر ذلك بينما يضحك على المزحة التي أطلقها. "جميعنا لديه مشاكله الخاصة".
ضحكنا كثيراً، ولكن تعايشنا لم يكن يخلو من القلاقل، حاجز اللغة كان أكبر المشكلات (المجد لتطبيق الترجمة من جوجل)، فضلاً عن حقيقة أنه ليس لديه مال ولذلك فهو يمكث في المنزل كثيراً. كذلك وجدت هوسه بالحرب مزعجاً، رغم كونه مفهوماً. أنا لا أحب رؤية صور الجثث، ولذلك أطلقنا مبادرةَ "لا حرب على مائدة العشاء".
كان من المحبط قليلاً أيضاً مسألة عدم استعجاله في الحصول على عمل. ياسر ليس كسولاً؛ فهو يتطوع للعمل يومياً في مؤسسة خيرية تساعد السوريين في مانشستر، وهو حريص جداً على العمل. باعتباره مدرساً للغة العربية، يريد التدريس، ولكنّه ليس مؤهلاً للعمل بمدارس المملكة المتحدة. ذهبت إلى مركز التوظيف معه لمقابلة "مرشدة العمل" وحذرته من وقوع عقوبة عليه ما لم يبدأ في التقديم للعديد من الوظائف على الرغم من تعقيد الموقع الحكومي على الإنترنت، والذي أجد تصفحه مستحيلاً حتى بالنسبة لي.
وقلت له أيضاً إنه سوف يفقد مكاسبه إذا ظل يتابع التقدم لوظائفَ ليس لديه فرصة للحصول عليها. ذات ليلة؛ اضطررت أن أمنعه من التقدم لوظيفة مسؤول لمواقع التواصل الاجتماعي لدى صحيفة the Sunday الرياضية، ولكن بدى الأمر كأن عليه أن يبدأ من الأول مجدداً. فحقاً هو في حاجة لقضاء 3 أشهر بدورة تدريبية مكثفة لتعلم الإنجليزية، ليلائم ما يطلبه سوق العمل، ولكن مرشدته تصر أن العمل يأتي أولاً.
صبر ياسر كان مدهشاً بالنسبة لي. قبل 10 دقائق من وصول المصور لالتقاط صورٍ لأجل هذا المقال، تلقى ياسر رسالة من زوجته عبر تطبيق WhatsApp، تقول إن المهربين قد أتوا لأخذها وطفلتهما البالغة من العمر 16 شهراً لعبور الحدود من سوريا إلى تركيا.
ولم يسمع أي شيء منهما حتى الساعة 3 في صباح اليوم التالي، حيث قالت زوجته في الرسالة التالية إنهم مشوا 9 ساعات في الظلام، وهم الآن في منزل لا تعرف بالتحديد مكانه. وبعد مرور 48 ساعة أخرى بلا أخبار، أرسلت زوجته لتقول إنهم وصلوا إلى منطقة غازي عنتاب بتركيا. وبينما أكتب؛ فإن ياسر يعد تحليل الحمض النووي لإثبات الأبوة، حتى لا تتمكن وزارة الداخلية من رفض طلب لم شمل الأسرة.
ما الذي فعله بحياتي البرجوازية؟ فهو لا يفهم هواجس الطبقة الوسطى بالألواح الأرضية الرملية ما دام بإمكاننا أن نستخدم سجادة بوسع الغرفة. ولم يكن يصدق أنني أملك كتاباً للطبخ. كتب الطبخ في حد ذاتها مضحكة في رأيه. فالمرأة في حياة ياسر دائماً ما تطبخ، (وهو بالمقابل غسال أطباق بارع). وكانت أولى غزواته بعالم الطبخ مفزعة ومرحة بالنسبة لي على حد سواء.
ذات صباح، سألني كيف بإمكانه أن يشعل الفرن. وأريته وسألت ما الذي يرغب في تسخينه. فأجاب "بيض سفاري"، وما استطاعت الترجمة والتنقيب عبر جوجل من إفهامي. في النهاية عرفت أنه يقصد "بيض سافوري"، فقلت له: "اثنان من الأشياء عليك أن تعرفهما بشأن هذا البيض يا ياسر، أولاً هو أننا نأكله بارداً، وثانياً أنه يحتوي على لحم الخنزير، وأنت لا تأكل لحم الخنزير".
ياسر يأكل اللحم الحلال عادةً. وهو ما يمثل مشكلة عندما أتى وقت عيد الميلاد، ورافقني إلى بيت والدي في لانكشاير. لا يوجد مسلمون هناك، وكانت والدتي تكافح للحصول على لحم ديك رومي حلال. وشرحت ذلك لياسر، ففكر في الأمر وقال إن والدي مسيحيان وعيد الميلاد عيدٌ للمسيحيين، أي أنه مقدس، واللحم الحلال يعني اللحم المقدس، لذا فالديك الرومي المتوفر سيكون حلالاً، لذا فبإمكانه أن يتناوله، ولكنه تجنب لحم الخنزير، وأعدت له أمي سجقاً من نوع ليندا مكارتني.
دعوت ياسر من باب الواجب، ولكن ذلك جلب إلينا الفرح. فطوال فترة طفولتنا كان والداي يغضبان من إشارتي أنا وأختي إلى المدعوين لدينا باسم "الشاردين والضالين" الذين يصحبونا بعشاء حفل عيد الميلاد. وهم طلاب صينيون عشوائيون من القسم الذي يدرس به والدي بالجامعة، والأطباء المبتدئون الذين تشرف عليهم أمي، وسيدة غريبة الأطوار من الكنيسة تُدعى "فاليري"، وكانت الأخيرة مهووسة بغسل الصحون.
والآن جاء دوري، فأمي دعت عائلة أوكرانية التقتها في جولة للمشي، وكان لقاء غريباً ولكنه محبب، وهيمنت عليه نشاطات تتطلب القليل من اللغة الإنجليزية أو لا شيء منها. وأمي جعلتني أعزف موسيقى أغنية "المشي في الهواء" على البيانو. وقالت لي عن ذلك "أنت تزدادين سوءاً في العزف عاماً بعد آخر"- "شكراً يا أمي"- وذلك قبل أن نشاهد جميعاً رجل الثلج ولعبنا جميعاً لعبة "جينجا العملاق" قبل أن نلحقها بلعبة "أين والي؟".
ياسر حريص جداً على التماهي، فقد لاحظ أن الناس بمانشستر يقولون "مرحباً" بلفظ خاص وينادون بعضهم البعض بكلمة "حب"، وبدأ يستخدم الاثنين في رسائلة النصية.
لقد مزحت من مناداته لي "طفلتي" خلال عيد الميلاد، ولكنه يطور لهجته الشمالية بشكل رائع. نشاهد البرامج السخيفة على التلفزيون معاً، وذات مرة كُنا نشاهد برنامج "Don’t Tell The Bride". قال ياسر إنه لا يستطيع تصديق أن العروس كان يبدو عليها الحمل بوضوح خلال سيرها في الممر أثناء مراسم الزفاف، الأمر واضح أن لا أحد يمارس الجنس قبل الزواج في سوريا، وأنا لا أخبره عندما أذهب إلى موعد غرامي.
على الرغم من اختلافاتنا الثقافية، هو حريص جداً على المساهمة في الحياة المدنية. وعندما رأى الفيضانات في شمال إنجلترا على التلفزيون في اليوم العالمي للملاكمة، قام بتنظيم مجموعة من السوريين للمساعدة وصنعوا بذلك خبراً تم تداوله عالمياً.
يقولون إن "تربية طفل تتطلب القرية كلها". وأنا أظن أن الأمر يتطلب مجتمعاً كاملاً لدمج لاجئ. جميع أصدقائي انخرطوا في ذلك، فإما بتجاذب أطراف الحديث مع ياسر، أو تعليمه اللغة الإنجليزية أو إصلاح دراجته وتعليمه كيف يركبها بأمان، وعرضت شيلا، إحدى الأصدقاء، عليه المزيد من دروس اللغة الإنجليزية، ومحامية التقينا بها أحضرت له سريراً ومخدة ليأخذها معه عندما يمتلك منزلاً خاصاً به في نهاية المطاف.
حتى ذلك الوقت، بإمكانه المكوث معي، في منزلي ذي الأرضية الخشبية السخيفة في مانشستر، دون قفل على باب غرفة النوم أو غرفة الاستحمام.
ثانياً: ياسر الجاسم
كنت متوتراً قليلاً في بداية الأمر عندما انتقلت. هيلين بارعة، وسيدة إنجليزية تعمل بجد، ولديها طريقتها الخاصة لعمل الأشياء. فنحن أتينا من خلفيات مختلفة تماماً، ولكننا منسجمان معاً بشكل جيد. كانت مهذبه جداً لتطلب مني أن أبقى. أعتقد أنها عرضت الأمر 3 مرات قبل أن أقبله، لم أكن متأكداً من دوافعها.
ففكرة الحياة مع سيدة إنجليزية كانت غريبة، ولكني احتجت مكاناً لأبقى فيه، وستكون فرصة رائعة أن أتعلم الثقافة البريطانية، وأمارس اللغة. وهذا سيجعل الأمور أسهل لزوجتي وابنتي عندما تأتيان.
كان أول شيء غريب فكرت به عندما أخبرتني هيلين بالوقت الذي ستغادر فيه المنزل في الصباح التالي، وقالت إنها في حاجة لاستخدام الحمام في وقت معين قبل ذلك. في سوريا؛ استخدام الحمام لا يتم تنظيمه على الإطلاق، ولكنّي كنت سعيداً جداً لكونها واضحة، لكي أكون مراعياً قدر الإمكان.
الشيء الآخر غير المعتاد كان كتاب الطبخ الذي تملكه هيلين في مطبخها. ففي سوريا أمك تخبرك كيف تطبخ الطعام، وليس الكتاب. وأيضاً لاحظت أن الناس هنا يرتدون ملابسهم التي تلائم الخروج حتى وهم المنزل. فلماذا يرغب أي شخص أن يكون مرتدياً الجينز ما لم يكن مضطراً لذلك؟ كان أول أسبوعين غريبين بالنسبة لي بعض الشيء، مثل أول دقائق قليلة في مباراة كرة قدم حيث كلا الفريقين المشاركين حذران حيال بعضهما البعض.
العيش مع امرأة ليس شائعاً في سوريا، لدي صديقات نساء ونخرج سوياً، ولكن العيش معاً لم يكن ممكناً أبداً. الناس هنا لديها قيود اجتماعية أقل. لقد التقيت باثنين من أصدقاء هيلين وهما سيدتان متزوجتان من بعضهما البعض، ولديهما أطفال. كان هذا جديداً بالنسبة لي.
بعد فترة وجيزة من انتقالي، أقامت هيلين حفل هالويين، ارتدت لحية بيضاء صناعية، مع حلقات سوداء حول عينها وقالت "أنا جيرمي كوربين من حزب العمل" فقلت أنا حينها "إذاً فعليّ أن أكون ديفيد كاميرون"، لم أكن أقصد ما قلت حقاً؛ ولكن هيلين أعجبتها الفكرة. استعرت بدلة وحلقت لحيتي، وعلمتني بعض العبارات عن العائلات العاملة بجٍد، وشيئاً عن الضرائب المنخفضة، ومزايا السكن. فكرة تقمص لاجئ سوري لشخصية ديفيد كاميرون كانت مسلية جداً لبعض الأشخاص. البعض سكر كثيراً في الحفل، فلم أصدق ما وجدته في سلة المهملات في اليوم التالي.
قضينا وقتاً ممتعاً وخَفَّ الحرج. كل أصدقاء هيلين عرضوا علي المساعدة إذا احتجت لذلك. البعض عرض علي المساعدة في اللغة الإنجليزية. تسمع أشياء عن البريطانيين، مثل أنهم ربما يبتسمون، إلا أنهم لا يظهرون مشاعرهم الحقيقية أبداً. هذا لم يكن صحيحاً بالنسبة لي. على الرغم من أني أتيت من ثقافة مختلفة تماماً، إلا أني وجدت شيئاً مألوفاً جداً هنا. فالناس مُحبون، مهتمون ومتعاطفون سواء هنا في بريطانيا أو في سوريا.
دعتني هيلين لقضاء أول حفل عيد ميلاد بمنزل والديها في موركامب. إنهم يعيشون في أجمل منطقة رأيتها في إنجلترا، المنزل مرتفع وبإمكانك أن ترى البحر منه، كان رائعاً، لقد قضيت الليلة بأكملها أنظر خارج النافذة.
وعلى الرغم من أن هيلين لم تكن من مرتادي الكنيسة، إلا أنها قصدتها مع والديها لأنها قالت إن ذلك مهمٌ بالنسبة لهما، وذهبت أنا كذلك، وهيلين كانت تومئ لي لكي أعرف متى عليّ الجلوس ومتى عليّ الوقوف.
عشاء عيد الميلاد كان مرفهاً، الديك الرومي كان طيباً وتلقيت بعض الهدايا. فهيلين منحتني كتاباً لـ"دان روديس" باسم أنثروبولوجيا، مليء بالقصص الشيقة، ويشكل تمريناً جيداً للغتي الإنجليزية. كانت هدية مدروسة. كان اليوم بهيجاً حقاً لدرجة أن عيني اغرورقتا بالدموع.
طيبة وكرم ضيافة والدي هيلين جعلاني أفكر في عائلتي. تساءلت لماذا لا تزورهم هيلين أكثر إذ لا توجد مشاعر أدفأ من مصاحبة الأسرة، أعتقد إنها واحدة من تلك الأشياء التي نقدّرها فقط عندما يرحلون.
وعلى نفس الصفحة وفي نفس المقال بالجارديان تحدَّث ياسر السوري مدرس اللغة العربية عن تجربة العيش مع فتاة في شقة وهو ما لم يتعود عليه في سوريا وبخاصة أنها فتاة إنجليزية تواجهه معها صعوبة اللغة وقسوة الظروف والبعد عن الأهل.
تجربة إنسانية لفتاة وشاب إنجليزية وسوري غربية وشرقي، أكدت أنه ممكن أن يعود الإنسان لآدميته وينسى كل منا عرقه ونسبه وجنسه ويحيا مع ابن آدم.
أولاً: هيلين بيد
"لن تحبي ما سأقوله لك؛ ولكنك ستحتاجين لوضع قفل على باب غرفة نومك، وقفل على باب غرفة الاستحمام. فالرجال من الممكن أن يتصرفوا بطريقة لعوبة عندما يكونون بعيدين عن زوجاتهم"، هكذا قال والدي.
أدرت عيني وأغلقت الخط بذعر، بعد أن كنت اتصلت لأخبر والدي أن ياسر، اللاجئ السوري سوف يأتي ليعيش معي بينما يرتب أمر انضمام زوجته وطفلته إليه ببريطانيا.
لقد كنت قلقة بعض الشيء بشأن ترتيب الأمر، ولكن بين كل الأشياء العديدة التي كانت تقلقني، كانت هناك تساؤلات "هل سيقبل نمط الحياة الوثنية التي أعيشها؟ هل بإمكاني أن أحصل على لحم الخنزير المقدد في عطلة نهاية الأسبوع؟ هل علي أن أغير من خزانة المشروبات الخاصة بي؟ احتمالية أن أتعرض للتحرش من قِبل المستأجر بمنزلي لم تكن قد خطرت لي بعد.
كانت أول مرة أتناول فيها الغداء مع ياسر بأحد أيام أغسطس/ آب، بعدما أخبرتني صديقة تركية مشتركة بيننا أنه سيصل إلى مانشستر وليس لديه رفاق هناك. لم تخبرني بأنه سوري، أو كيف وصل إلى جزيرتنا الممطرة. لذا كنت شديدة الدهشة عندما أخبرني بلغة إنجليزية ضعيفة جدًا أنه أمضى 37 يوماً في رحلة عبر البر والبحر.
فقد أبحر على متن قارب مطاطي في البحر المتوسط في هدأة الليل، على الرغم من عدم قدرته على السباحة، ومشى من اليونان إلى مقدونيا، وعبر أوروبا إلى أن وصل إلى مخيم أدغال "كاليه" الفرنسية، حيث صعد هناك على متن شاحنة لمدة 6 أيام قبل أن يصل إلى إنجلترا مختبئاً في ظهر شاحنة لوري. عقب 17 ساعة أمضاها بين صناديق الألعاب، طرق الباب الشاحنة.
سائق الشاحنة كان غاضباً، إذ قد يتعرض لغرامة تصل إلى 2000 جنيه إسترليني إن اكتشفت شرطة الحدود حمولته البشرية، أما ياسر فلم يكن حتى متأكداً أنه في إنجلترا في ذلك الحين، حتى مرّت سيارة تقود على اليسار. ومشى إلى أقرب محطة بنزين وطلب منهم استدعاء الشرطة، وحينها بدأت حياته الجديدة.
تساءلت كيف بإمكاني أن أساعده، فقد كان يعيش على 5 جنيهات إسترليني يومياً تقدمها شركة سيركو، والتي تعاقدت معها وزارة الداخلية لدراسة طلبات اللجوء.
وبينما كان ياسر منتظراً، دون التمكن من الحصول على عمل مدفوع، وكان يعيش في منزل تابع للشركة خارج منطقة "كاري ميل" جنوبي مانشستر مع 5 آخرين من طالبي اللجوء، سوريين، إريتريين، ورجل من السودان. طلبت منه القدوم لمساعدتي في لصق ورق الحائط في عطلة نهاية الأسبوع، ووافق، ولكن بعدها اضطررت إلى الذهاب لتغطية فعاليات بطولة العالم في المصارعة الحرة في باكوب، ولذلك تركته ينجز العمل.
عندما عدت، كان على وشك الانتهاء. تناولنا وجبة معاً بارتباك، ثم حاولت إعطاءه بعض المال، حينها رد ياسر فزعاً: "لا.. لا. لا أريد مال، أريد أن نكون أصدقاء".
بعدها بيومين، غرق الطفل السوري آلان على سواحل تركيا. تغير المزاج في بريطانيا، وفجأة صارت الصحف التي كانت تنشر قصصاً عن أن المهاجرين يتناولون بجع البحيرات بدت تظهر الرحمة. وديفيد كاميرون وافق على إعادة توطين 20 ألف لاجئ سوري، وأنا عرضت غرفة منزلي الخالية على ياسر.
كانت موافقته بطيئة، ولكنه سرعان ما حاز اللجوء وتأشيرة لمدة 5 سنوات، فاحتفلنا بتناول كعكة اشتراها من خباز باكستاني بمنطقة كاري ميل بتكلفة 3 أيام من راتبه اليومي.
أراني خطاب الموافقة على لجوئه: لديه 28 يوماً قبل أن يتم ترحيله من منزل سيركو، وأقل من شهر للحصول على رقم ضمان وطني، للتوقيع مع مركز تأمين الوظائف وإيجاد مأوى جديد يعيش فيه. إنه لأمر شاق حتى لبريطاني، فما بالك بسوري لغته الإنجليزية ضعيفة وليس لديه مال.
قبل أيام قليلة من موعد ترحيله عن المسكن، أرسل لي رسالة يتساءل ما إذا كان بإمكانه البقاء حتى وصول زوجته وابنته. كان قد حاول إيجاد مسكن، لكنهم قالوا له أن رجلاً أعزب يبلغ من العمر 34 عاماً دون أطفال يعيشون في المملكة المتحدة لا يمكن أن يحصل على الأولوية في السكن.
كان بدل السكن الذي سيحصل عليه حوالي 280 جنيهاً إسترلينياً في الشهر، لتغطية تكلفة غرفة في منزل مشترك مع مالك خاص (ولا فرصة لذلك من دون وجود وديعة)، أو عليه إيجاد مكان في مسكن للمشردين، حيث كان من المرجح أن يشارك غرفته مع مدمن على الكحول أو المخدرات.
أخذته من مسكن سيركو بعدها بأيام قليلة، وكان كل ما بحوزته لحاف، وسادة وحقيبة صغيرة. عندما أفرغ حقيبته رأيت كم هو قليل ما لديه: جاكيت واحد، قميص واحد، بنطالان من الجينز، سترتان وزوجان من الملابس الداخلية. كان ذلك كل ما يرتديه منذ اختبائه في الشاحنة، فضلًا عما أُعطي منذ وصوله.
اعتقدت أن إقامة ياسر لدي ستكون بمثابة نوع من التكفير عن الأخطاء التي فعلتها بحياتي، ولكن وجوده جعلني أشعر بالذنب، الذنب حيال ما أملك وتلك الحياة السهلة التي أعيشها، والشكوى من أشياء تافهة.
ذات يوم؛ كنت منفعلة بسبب عدم ملاءمة ستائري الجديدة للون نافذتي. "في بلدي، يقلق الناس حيال برميل متفجر قد يُرمى على منزلهم، وفي إنجلترا الناس تقلق حيال الستائر"، قال ياسر ذلك بينما يضحك على المزحة التي أطلقها. "جميعنا لديه مشاكله الخاصة".
ضحكنا كثيراً، ولكن تعايشنا لم يكن يخلو من القلاقل، حاجز اللغة كان أكبر المشكلات (المجد لتطبيق الترجمة من جوجل)، فضلاً عن حقيقة أنه ليس لديه مال ولذلك فهو يمكث في المنزل كثيراً. كذلك وجدت هوسه بالحرب مزعجاً، رغم كونه مفهوماً. أنا لا أحب رؤية صور الجثث، ولذلك أطلقنا مبادرةَ "لا حرب على مائدة العشاء".
كان من المحبط قليلاً أيضاً مسألة عدم استعجاله في الحصول على عمل. ياسر ليس كسولاً؛ فهو يتطوع للعمل يومياً في مؤسسة خيرية تساعد السوريين في مانشستر، وهو حريص جداً على العمل. باعتباره مدرساً للغة العربية، يريد التدريس، ولكنّه ليس مؤهلاً للعمل بمدارس المملكة المتحدة. ذهبت إلى مركز التوظيف معه لمقابلة "مرشدة العمل" وحذرته من وقوع عقوبة عليه ما لم يبدأ في التقديم للعديد من الوظائف على الرغم من تعقيد الموقع الحكومي على الإنترنت، والذي أجد تصفحه مستحيلاً حتى بالنسبة لي.
وقلت له أيضاً إنه سوف يفقد مكاسبه إذا ظل يتابع التقدم لوظائفَ ليس لديه فرصة للحصول عليها. ذات ليلة؛ اضطررت أن أمنعه من التقدم لوظيفة مسؤول لمواقع التواصل الاجتماعي لدى صحيفة the Sunday الرياضية، ولكن بدى الأمر كأن عليه أن يبدأ من الأول مجدداً. فحقاً هو في حاجة لقضاء 3 أشهر بدورة تدريبية مكثفة لتعلم الإنجليزية، ليلائم ما يطلبه سوق العمل، ولكن مرشدته تصر أن العمل يأتي أولاً.
صبر ياسر كان مدهشاً بالنسبة لي. قبل 10 دقائق من وصول المصور لالتقاط صورٍ لأجل هذا المقال، تلقى ياسر رسالة من زوجته عبر تطبيق WhatsApp، تقول إن المهربين قد أتوا لأخذها وطفلتهما البالغة من العمر 16 شهراً لعبور الحدود من سوريا إلى تركيا.
ولم يسمع أي شيء منهما حتى الساعة 3 في صباح اليوم التالي، حيث قالت زوجته في الرسالة التالية إنهم مشوا 9 ساعات في الظلام، وهم الآن في منزل لا تعرف بالتحديد مكانه. وبعد مرور 48 ساعة أخرى بلا أخبار، أرسلت زوجته لتقول إنهم وصلوا إلى منطقة غازي عنتاب بتركيا. وبينما أكتب؛ فإن ياسر يعد تحليل الحمض النووي لإثبات الأبوة، حتى لا تتمكن وزارة الداخلية من رفض طلب لم شمل الأسرة.
ما الذي فعله بحياتي البرجوازية؟ فهو لا يفهم هواجس الطبقة الوسطى بالألواح الأرضية الرملية ما دام بإمكاننا أن نستخدم سجادة بوسع الغرفة. ولم يكن يصدق أنني أملك كتاباً للطبخ. كتب الطبخ في حد ذاتها مضحكة في رأيه. فالمرأة في حياة ياسر دائماً ما تطبخ، (وهو بالمقابل غسال أطباق بارع). وكانت أولى غزواته بعالم الطبخ مفزعة ومرحة بالنسبة لي على حد سواء.
ذات صباح، سألني كيف بإمكانه أن يشعل الفرن. وأريته وسألت ما الذي يرغب في تسخينه. فأجاب "بيض سفاري"، وما استطاعت الترجمة والتنقيب عبر جوجل من إفهامي. في النهاية عرفت أنه يقصد "بيض سافوري"، فقلت له: "اثنان من الأشياء عليك أن تعرفهما بشأن هذا البيض يا ياسر، أولاً هو أننا نأكله بارداً، وثانياً أنه يحتوي على لحم الخنزير، وأنت لا تأكل لحم الخنزير".
ياسر يأكل اللحم الحلال عادةً. وهو ما يمثل مشكلة عندما أتى وقت عيد الميلاد، ورافقني إلى بيت والدي في لانكشاير. لا يوجد مسلمون هناك، وكانت والدتي تكافح للحصول على لحم ديك رومي حلال. وشرحت ذلك لياسر، ففكر في الأمر وقال إن والدي مسيحيان وعيد الميلاد عيدٌ للمسيحيين، أي أنه مقدس، واللحم الحلال يعني اللحم المقدس، لذا فالديك الرومي المتوفر سيكون حلالاً، لذا فبإمكانه أن يتناوله، ولكنه تجنب لحم الخنزير، وأعدت له أمي سجقاً من نوع ليندا مكارتني.
دعوت ياسر من باب الواجب، ولكن ذلك جلب إلينا الفرح. فطوال فترة طفولتنا كان والداي يغضبان من إشارتي أنا وأختي إلى المدعوين لدينا باسم "الشاردين والضالين" الذين يصحبونا بعشاء حفل عيد الميلاد. وهم طلاب صينيون عشوائيون من القسم الذي يدرس به والدي بالجامعة، والأطباء المبتدئون الذين تشرف عليهم أمي، وسيدة غريبة الأطوار من الكنيسة تُدعى "فاليري"، وكانت الأخيرة مهووسة بغسل الصحون.
والآن جاء دوري، فأمي دعت عائلة أوكرانية التقتها في جولة للمشي، وكان لقاء غريباً ولكنه محبب، وهيمنت عليه نشاطات تتطلب القليل من اللغة الإنجليزية أو لا شيء منها. وأمي جعلتني أعزف موسيقى أغنية "المشي في الهواء" على البيانو. وقالت لي عن ذلك "أنت تزدادين سوءاً في العزف عاماً بعد آخر"- "شكراً يا أمي"- وذلك قبل أن نشاهد جميعاً رجل الثلج ولعبنا جميعاً لعبة "جينجا العملاق" قبل أن نلحقها بلعبة "أين والي؟".
ياسر حريص جداً على التماهي، فقد لاحظ أن الناس بمانشستر يقولون "مرحباً" بلفظ خاص وينادون بعضهم البعض بكلمة "حب"، وبدأ يستخدم الاثنين في رسائلة النصية.
لقد مزحت من مناداته لي "طفلتي" خلال عيد الميلاد، ولكنه يطور لهجته الشمالية بشكل رائع. نشاهد البرامج السخيفة على التلفزيون معاً، وذات مرة كُنا نشاهد برنامج "Don’t Tell The Bride". قال ياسر إنه لا يستطيع تصديق أن العروس كان يبدو عليها الحمل بوضوح خلال سيرها في الممر أثناء مراسم الزفاف، الأمر واضح أن لا أحد يمارس الجنس قبل الزواج في سوريا، وأنا لا أخبره عندما أذهب إلى موعد غرامي.
على الرغم من اختلافاتنا الثقافية، هو حريص جداً على المساهمة في الحياة المدنية. وعندما رأى الفيضانات في شمال إنجلترا على التلفزيون في اليوم العالمي للملاكمة، قام بتنظيم مجموعة من السوريين للمساعدة وصنعوا بذلك خبراً تم تداوله عالمياً.
يقولون إن "تربية طفل تتطلب القرية كلها". وأنا أظن أن الأمر يتطلب مجتمعاً كاملاً لدمج لاجئ. جميع أصدقائي انخرطوا في ذلك، فإما بتجاذب أطراف الحديث مع ياسر، أو تعليمه اللغة الإنجليزية أو إصلاح دراجته وتعليمه كيف يركبها بأمان، وعرضت شيلا، إحدى الأصدقاء، عليه المزيد من دروس اللغة الإنجليزية، ومحامية التقينا بها أحضرت له سريراً ومخدة ليأخذها معه عندما يمتلك منزلاً خاصاً به في نهاية المطاف.
حتى ذلك الوقت، بإمكانه المكوث معي، في منزلي ذي الأرضية الخشبية السخيفة في مانشستر، دون قفل على باب غرفة النوم أو غرفة الاستحمام.
ثانياً: ياسر الجاسم
كنت متوتراً قليلاً في بداية الأمر عندما انتقلت. هيلين بارعة، وسيدة إنجليزية تعمل بجد، ولديها طريقتها الخاصة لعمل الأشياء. فنحن أتينا من خلفيات مختلفة تماماً، ولكننا منسجمان معاً بشكل جيد. كانت مهذبه جداً لتطلب مني أن أبقى. أعتقد أنها عرضت الأمر 3 مرات قبل أن أقبله، لم أكن متأكداً من دوافعها.
ففكرة الحياة مع سيدة إنجليزية كانت غريبة، ولكني احتجت مكاناً لأبقى فيه، وستكون فرصة رائعة أن أتعلم الثقافة البريطانية، وأمارس اللغة. وهذا سيجعل الأمور أسهل لزوجتي وابنتي عندما تأتيان.
كان أول شيء غريب فكرت به عندما أخبرتني هيلين بالوقت الذي ستغادر فيه المنزل في الصباح التالي، وقالت إنها في حاجة لاستخدام الحمام في وقت معين قبل ذلك. في سوريا؛ استخدام الحمام لا يتم تنظيمه على الإطلاق، ولكنّي كنت سعيداً جداً لكونها واضحة، لكي أكون مراعياً قدر الإمكان.
الشيء الآخر غير المعتاد كان كتاب الطبخ الذي تملكه هيلين في مطبخها. ففي سوريا أمك تخبرك كيف تطبخ الطعام، وليس الكتاب. وأيضاً لاحظت أن الناس هنا يرتدون ملابسهم التي تلائم الخروج حتى وهم المنزل. فلماذا يرغب أي شخص أن يكون مرتدياً الجينز ما لم يكن مضطراً لذلك؟ كان أول أسبوعين غريبين بالنسبة لي بعض الشيء، مثل أول دقائق قليلة في مباراة كرة قدم حيث كلا الفريقين المشاركين حذران حيال بعضهما البعض.
العيش مع امرأة ليس شائعاً في سوريا، لدي صديقات نساء ونخرج سوياً، ولكن العيش معاً لم يكن ممكناً أبداً. الناس هنا لديها قيود اجتماعية أقل. لقد التقيت باثنين من أصدقاء هيلين وهما سيدتان متزوجتان من بعضهما البعض، ولديهما أطفال. كان هذا جديداً بالنسبة لي.
بعد فترة وجيزة من انتقالي، أقامت هيلين حفل هالويين، ارتدت لحية بيضاء صناعية، مع حلقات سوداء حول عينها وقالت "أنا جيرمي كوربين من حزب العمل" فقلت أنا حينها "إذاً فعليّ أن أكون ديفيد كاميرون"، لم أكن أقصد ما قلت حقاً؛ ولكن هيلين أعجبتها الفكرة. استعرت بدلة وحلقت لحيتي، وعلمتني بعض العبارات عن العائلات العاملة بجٍد، وشيئاً عن الضرائب المنخفضة، ومزايا السكن. فكرة تقمص لاجئ سوري لشخصية ديفيد كاميرون كانت مسلية جداً لبعض الأشخاص. البعض سكر كثيراً في الحفل، فلم أصدق ما وجدته في سلة المهملات في اليوم التالي.
قضينا وقتاً ممتعاً وخَفَّ الحرج. كل أصدقاء هيلين عرضوا علي المساعدة إذا احتجت لذلك. البعض عرض علي المساعدة في اللغة الإنجليزية. تسمع أشياء عن البريطانيين، مثل أنهم ربما يبتسمون، إلا أنهم لا يظهرون مشاعرهم الحقيقية أبداً. هذا لم يكن صحيحاً بالنسبة لي. على الرغم من أني أتيت من ثقافة مختلفة تماماً، إلا أني وجدت شيئاً مألوفاً جداً هنا. فالناس مُحبون، مهتمون ومتعاطفون سواء هنا في بريطانيا أو في سوريا.
دعتني هيلين لقضاء أول حفل عيد ميلاد بمنزل والديها في موركامب. إنهم يعيشون في أجمل منطقة رأيتها في إنجلترا، المنزل مرتفع وبإمكانك أن ترى البحر منه، كان رائعاً، لقد قضيت الليلة بأكملها أنظر خارج النافذة.
وعلى الرغم من أن هيلين لم تكن من مرتادي الكنيسة، إلا أنها قصدتها مع والديها لأنها قالت إن ذلك مهمٌ بالنسبة لهما، وذهبت أنا كذلك، وهيلين كانت تومئ لي لكي أعرف متى عليّ الجلوس ومتى عليّ الوقوف.
عشاء عيد الميلاد كان مرفهاً، الديك الرومي كان طيباً وتلقيت بعض الهدايا. فهيلين منحتني كتاباً لـ"دان روديس" باسم أنثروبولوجيا، مليء بالقصص الشيقة، ويشكل تمريناً جيداً للغتي الإنجليزية. كانت هدية مدروسة. كان اليوم بهيجاً حقاً لدرجة أن عيني اغرورقتا بالدموع.
طيبة وكرم ضيافة والدي هيلين جعلاني أفكر في عائلتي. تساءلت لماذا لا تزورهم هيلين أكثر إذ لا توجد مشاعر أدفأ من مصاحبة الأسرة، أعتقد إنها واحدة من تلك الأشياء التي نقدّرها فقط عندما يرحلون.