الإسلاميون في الحكم : قابيل أم هابيل؟
هل نحن بصدد إسلام جديد يتم تشكيله الآن وببطء تحت ضربات معول الحكم وحتمية تقديم تنازلات عقائدية في اتجاهات مختلفة إذا ما أراد أي نظام حكم إسلامي سواء في مصر أم في تونس أم في أي دولة عربية أخرى تجنب أزمات وكوارث قد تقترب إلى مستوى الحرب الأهلية. بمعنى آخر، هل على الإخوان المسلمين في مصر أن يكونوا أقل تزمتاً حتى يضمنوا استمرارهم في الحكم بإرادة شعبية؟ وهل على حزب النهضة التونسي أن يصبح أكثر تزمتاً حتى يضمن استمراره في الحكم بإرادة شعبية؟ هل نحن أمام نمط جديد من الأحزاب الإسلامية يتم إعادة تشكيل مواقفها العقائدية على أرض واقع الحكم عوضاً عن التشبث بالتراث العقائدي الديني التقليدي؟
في الوقت الذي تجنح فيه الحركة الإسلامية الحاكمة في مصر نحو تخفيف الغلو العقائدي بين صفوفها والهادف إلى أسلمة الدولة والمجتمع ، نشاهد في المقابل في تونس محاولات معلنة حيناً ومستترة أحياناً لحزب النهضة للالتفاف على التحالفات التي أفرزتها الثورة والقيام بتمرير قوانين وأنظمة تحد من علمانية الدولة التونسية وتدفع بها تدريجياً نحو الأسلمة. فحركة الإخوان المسلمين في مصر والمتزمتة أصلاً ، وحزب النهضة في تونس والمنفتح نسبياً ابتدآ في لعب أدوار متعاكسة. فالإخوان المسلمين في مصر يسعون إلى أن يكونوا أقل تزمتاً كحزب حاكم، بينما يسعى حزب النهضة إلى أن يكون أقل انفتاحية بعد أن قطع شوطاً في ممارسة الحكم باعتباره شريكاً في الائتلاف الحاكم.
إن هذا لا يعني أن مثل تلك التغييرات تتم طواعية ومن منطلق التنازل الإرادي الطوعي للإسلام الحاكم. ولكنها في الواقع تتم تحت ضغط قوى المجتمع المدني التي ينتابها الرعب من احتمالية نجاح الإسلاميين في أسلمة الدولة وإرجاعها أربعة عشر قرناً إلى الخلف.
إن غياب برنامج سياسي أو اقتصادي معلن للحركات الإسلامية واقتصار برنامجهم على الجانب الاجتماعي والثقافي قد جعل من نجاحهم في استلام الحكم أمراً في غاية الخطورة. فهذا الغياب يجعل من قدرتهم على أي إنجاز سياسي أو اقتصادي حقيقي أمراً في عالم المجهول. كما يجعل من محاسبتهم على عدم الإنجاز أو التقصير أمراً شبه معدوم نظراً لغياب أي إمكانية للاستشراف أو للمحاسبة انطلاقاً من برنامج معلن يمكن مساءلتهم على أساسه. وأصبح برنامج عملهم السياسي مقتصراً على قرارات ومواقف يتم اتخاذها دون أي مرجعية حقيقية لبرنامج عمل متكامل. وأصبح من الممكن تمرير سياسات خطيرة جداً حتى ولو كانت متناقضة مع مواقف سياسية معلنة للحركات الإسلامية المعنية من هذه القضية أو تلك قبل استلامها للحكم. فمثلاً لو أخذنا موضوع الصراع مع إسرائيل ، فإن موقف الإخوان المسلمين من إسرائيل معروف بعدائه التقليدي منذ حرب 1948 ، إن لم يكن قبل ذلك. ومع ذلك فإن مصر تحت قيادة الإخوان المسلمين تعاملت مع هذا الموضوع بطريقة ملتوية حيث اختبأ الحكم خلف جملة واحدة وهي "التزام مصر بالمعاهدات والمواثيق الدولية" . أي أن الإخوان المسلمين أبدوا استعدادهم لدفع الثمن في حال استلامهم للحكم في مصر من خلال التزامهم المبكر والمبطن بمعاهدة كامب ديفيد. وفي هذا السياق كان قبول الإخوان المسلمين لمعاهدة كامب ديفيد قبولاً مباشراً ودون تعليل أو تبرير، ولم يحاول الإخوان المسلمين في مصر أن يناقشوا الموضوع من أي زاوية كأن يَدَّعوا بأن مصر غير قادرة على إلغاء المعاهدة أو التنصل منها بحكم ميزان القوى السائد في المنطقة، أو عنف وجبروت النفوذ الأمريكي على الدولة المصرية الذي لا يسمح لأي نظام حكم مصري بأن يتناقض مع التزامات معاهدة كامب ديفيد.. الخ. ومثل هذا الموقف قد يؤكد شكوكاً سابقة بإمكانية وجود صفقة بين الإخوان المسلمين وأمريكا تبرر الموقف المبكر والسريع جداً لنظام الإخوان في مصر في الإعلان عن الالتزام بالمعاهدات الدولية وما تبعه من قبول أمريكي مبكر لاستلامهم الحكم.
وفي المقابل، فإن موقف الحكم الإسلامي في مصر تجاه قضية فلسطين والفلسطينيين مبهم بشكل يبعث على الشك والريبة. ويبدو أن المعادلة التي تحكم العلاقة المصرية – الفلسطينية قد أخذت شكلاً غريباً وأقل وضوحاً وسلاسة من المعادلة التي تحكم العلاقة المصرية - الإسرائيلية تحت الحكم الإسلامي. فالعلاقة المصرية - الفلسطينية تم اختزالها عملياً إلى العلاقة بين مصر وقطاع غزة ضمن الإطار الأمني كما كانت عليه الأمور أيام حكم حسني مبارك. والعلاقة بين مصر وقطاع غزة تقلصت إلى العلاقة بين الحكم الإسلامي في مصر والحكم الإسلامي الحمساوي في قطاع غزة. وأصبح الموضوع بالتالي موضوعاً إسلامياً يتعامل مع الوضع في قطاع غزة باعتبارها حلقة في الطوق الإسلامي الحاكم في المنطقة أكثر منها جزءاً من القضية الفلسطينية. وقد ساهم في تعزيز هذه النظرة فك الارتباط السريع الذي قام به خالد مشعل بين حركة حماس من جهة وسوريا وإيران من جهة أخرى واستبدال الحضن السوري – الإيراني بالأحضان القطرية والخليجية. وهكذا، ساهم انتقال حركة حماس المبكر من معسكر ما يسمى بدول "التطرف" إلى معسكر ما يسمى بدول "الاعتدال"، في تسهيل مهمة اختزال سياسة مصر تجاه فلسطين والقضية الفلسطينية إلى علاقة عقائدية بين نظامي حكم إسلاميين ضمن منظومة إقليمية تسعى إلى سيطرة الإسلاميين على الحكم في دول الإقليم.
إن هذا التحول المصري في التعامل مع القضية الفلسطينية وتحويلها من قضية وطنية وقضية تحرر إلى قضية إسلامية في عالم إسلامي خيالي لا يربط دُوله بعضها ببعض سوى ثوب فضفاض من الإيمان المُخْتَلَف على كنهه ووسائل التعبير عنه. وقد أثبت هذا العالم الخيالي الفضفاض أنه قاصر وعاجز عن حماية منبر في المسجد الأقصى، ناهيك عن المسجد نفسه، وعن القدس نفسها. هذا العالم الإسلامي لا يصلح لأن يصبح المُوَجِّه الجديد والإطار العام للعمل السياسي في مواجهة الاحتلال الصهيوني وأطماعه التوسعية ومواجهة أعباء التنمية الاقتصادية والسياسية في عالم عربي ما زال يعاني من التخلف والفساد بعد عقود من حكم أنظمة بالية ومتسلطة.
إن فشل العالم الإسلامي في القيام بأي جهد حقيقي لحماية الأماكن المقدسة في فلسطين وخصوصاً في القدس والخليل يؤكد، مرة أخرى، أن هذا العالم هو خيالي افتراضي وأنه عباءة تتسع لمن يلبسها مهما كان حجمه وأنها غطاء ساتر لما خلفها من مظاهر الجهل والتخلف والتزمت أكثر من كونها هوية سياسية وطنية، ناهيك عن كونها هوية جامعة.
إن استبدال العمل بالدعاء، وطلب المغفرة عوضاً عن إصلاح الخطأ والعمل من أجل ما في السماء وتناسي واجباتنا تجاه من على الأرض، متناسين كلام الله "إنّ الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" ،هي أمور جدلية لا يجوز أن تكون أساساً لنظام سياسي يمثل الشعب. وإذا كان مفهوم" الأمة العربية" التي تملك قواسم جامعة أضعاف مضاعفة لما تملكه "الأمة الإسلامية" قد فشل في تحقيق أي انجاز حقيقي لا على مستوى الوحدة العربية و لا على مستوى فلسطين، فما بالك في "أمة إسلامية" لا يجمعها سوى إيمانها بدين واحد، مع العلم أن "الأمة المسيحية" من هذا المنطلق وكذلك "الأمة البوذية" أو "الأمة الهندوسية" قد تكون أكبر حجماً وأعمق حضارة ولكنها أكثر واقعية وصدقاً حيث لا يدّعي أحد منها بوجود أمة مسيحية أو أمة بوذية أو أمة هندوسية .. الخ . لماذا هذه النزعة الافتراضية واللاواقعية عند المسلمين؟ ترى لو طُلِبَ من أحد ممن يدعون بوجود أمة إسلامية أن يعطي مثالاً واحداً على وجود مثل هذه الأمة أو على قدرة هذه الأمة في حال وُجِدَت على انجاز شيء باعتبارها "أمة إسلامية"، فهل سيكون من الممكن الخروج بإجابات مقبولة ؟ الحكم الإسلامي في إيران يتصرف ضمن مصالح الدولة الإيرانية، والحكم الإسلامي في تركيا يتصرف أيضاً ضمن مصالح الدولة التركية و لا أحد على استعداد للتضحية بمصالحه من أجل شيء يدعى " الأمة الإسلامية" أو "الإسلام" . فالصرخة الاحتجاجية لبعض الإسلاميين مثلاً، على فلم أو مسلسل أو صورة أو كتاب قد تكون محقة نظراً لوقاحة الموضوع وعدم احترام الأديان وشعور الآخرين. إلا أنها، مع ذلك، ترتكب دائماً خطأ جسيماً في التعبير عن نفسها بشكل متشنج يوحي بوجود تطرف من هنا وفزعات دينية من هناك، وافتقار واضح لاستعمال أدوات تعكس أسلوب سلمي حضاري في التعبير عن الاحتجاج الإسلامي في قضايا تمس الممنوعات الدينية. فاستعمال أساليب مثل التكفير والتهديد بالذبح والقتل والاغتيال عوضاً عن استعمال أساليب عقلانية وحضارية مثل الأساليب القانونية من خلال اللجوء إلى القضاء الدولي أو اقتصادية من خلال المقاطعة أو سياسية من خلال ممارسة ضغوط هنا وهناك هو بالتأكيد أمر مرفوض ولكنه لا يكلف المسلمين شيئاً ولا يضعهم أمام قرارات قد تكون لها تبعات دولية. أين كان الغضب الإسلامي الجارف ، مثلاً، عندما حُرِقَ منبر صلاح الدين أو المسجد الأقصى أو عندما تم اغتصاب مسجد ابراهيم الخليل؟ أين كان "العالم الإسلامي" العتيد، وماذا فعل هذا العالم ليعيد للإسلام سيادته على مساجده وقدسه في فلسطين؟ أين هي "الأمة الإسلامية" في القضايا الكبرى والمصيرية؟
إذاً الحديث عن وجود أمة إسلامية قادرة على ترجمة نفسها سياسياً من خلال خلق نظام سياسي إسلامي يشمل دول متعددة الجنسيات هو أمر افتراضي لا يمكن أن يحظى بأي فرصة للنجاح. والحديث عن خلق حزام من الأنظمة الإسلامية الحاكمة في المنطقة لا يستند في الحقيقة إلى إسلامية تلك الدول بل إلى عروبتها. على الجميع الاعتراف بذلك حتى نستطيع أن ننطلق من هنا للحديث بعقلانية عن وجوب الابتعاد عن مفهوم أسلمة الدولة باعتبار نظام الحكم الإسلامي المنتخب في أي دولة عربية، وبحكم العملية الديمقراطية، هو نظام يأتي ويذهب والدولة باقية ، ولا يجوز تغيير معالم الدولة من قبل أي نظام قد يصبح خارج السلطة خلال أربع سنوات ، إلا إذا كان ذلك النظام لا ينوي ترك السلطة.
lkamhawi@cessco.com.jo