عن أحلام... وكوابيس زمننا الفني!
غالباً ما كنت أسمع عبارة "الزمن الجميل" توصيفاً لزمن وُجد فيه فنانون كبار أمثال فيروز وأم كلثوم ووديع الصافي ومحمد عبد الوهاب وسعاد محمد وغيرهم كُثر. وكنت أتساءل في قرارة نفسي أنه ربما الحنين هو ما يحدو بهؤلاء الأشخاص إلى الإفاضة في مدح ذاك الزمن والتحسر على ما آل اليه اليوم، وأصرّ على أنه لا يزال ثمة أشخاص يجهدون لتقديم فنّ راقٍ.
الدافع وراء هذا الكلام هو البلبلة التي أثارتها أحلام بتصريحاتها غير اللائقة بحق لبنان وشعبه، ما استدعى ردوداً قاسية من فنانين ووسائل إعلامية ومواطنين عاديين. عاصفة من الهراء هبّت ولم تستكن، وما نخشاه أن يتبّع هذه الطريقة كل من يتوسّل الشهرة. بتنا نرى اليوم أن دور الفنانين لم يعد محصوراً بتقديم أعمال فنية، بل التنظير وإطلاق التصاريح السفيهة والتشاوف والثرثرة في وسائل التواصل الاجتماعي وإحصاء عدد المتابعين.
فنانو زمان، إذا جازت التسمية، لم يكونوا يظهرون في إطلالات إعلامية إلا نادراً، إذ كان شغلهم الشاغل ينصبّ على انتقاء الكلمة الأجمل واللحن الشجي. مَن منّا شاهد أم كلثوم، وهي كوكب الشرق، في مقابلة إعلامية أو سمع أنها جرّحت بأحد؟ مَن منّا سمع فيروز، سفيرتنا إلى النجوم، تعِظ أو تنتقد أو تبدي ملاحظة، وهي الأحق بذلك؟
صدق من قال: "ملأى السنابل تنحني بتواضع والفارغات رؤوسهن شوامخ"، وما أحوجَنا إلى التواضع والخُلُق الكريم! طفحَ كيلُنا من أشخاص يدّعون الفن وهم لا يمتّون إليه بصلة. أشخاص لا يفقهون أن الفن أخلاق ورسالة وأصالة وتواضع ونُبل. أشخاص استغلوا الفن وحوّلوه شتائم وإسفافاً وابتذالاً وثياباً وأجساداً. أشخاص جعلوا الفن في أسفل الدركات. وهم لم يكتفوا عند هذا الحد، بل طالعونا بأحدث بِدعهم: إطلاق الألقاب على أنفسهم! فمنهم الإله، والإمبراطور، والنجم الأوحد، ومنهنّ الملكة، والأميرة، والفاتنة والدلّوعة...نعم، كلّ ما يطيب لك من الألقاب!
تقف لبُرهة محاولاً تذكّر أغنية ذات قيمة لهؤلاء الجهابذة فتخونك ذاكرتك. وتتساءل: علامَ هذه الأهمية التي تُعطى لهم، وتحديداً من الإعلام، الذي ينفعط في تغطية هذه السخافات والمهاترات بدل الإضاءة على أشخاص يقدمون فناً رصيناً غالباً ما يكون مصيرهم الغبن والبقاء في الظل؟ أين هو الإعلام من فنانات كأمل ماهر وجاهدة وهبي وغادة رجب وكثيرات غيرهن ممن يرفعن لواء الفن الأصيل؟ أين هي البرامج الراقية التي تُنصف هذه الأعمال وتُكرّم أصحابها، كمثل "حوار العمر" لجيزيل خوري؟ تكاد شاشاتنا تخلو من هذه البرامج لولا استثناءات قليلة، كبرنامج "بيت القصيد" مع زاهي وهبي، والذي يشكّل متنفساً وفسحة أمل.
السكوت هو كالتواطؤ مع ما يحدث. لذا لن نسمح لأحد، بعد اليوم، بأن ينتقص من قيمة الفن، ويُمعن في قتل تراثنا وهدم ما بنوه أسلافنا من عظمة وإبداع فنيين، ويُحوّل زمننا إلى "الزمن الرديء"، ويجعله أضغاث أحلام وكوابيس. عالمنا العربي مليء بفنانين قديرين، لكن، ويا للأسف، نراهم منكفئين تاركين الساحة للدخلاء، لا سيّما أن الفن الرائج هو الاستهلاكي والتجاري والاستعراضي الذي يخمد في لحظته.
أملتُ لو أن هذه الكلمات كُتبت لإنصاف أناس أعطوا من ذواتهم لإضافة بعض من الجمال والخير على هذه الحياة، لكنني ملء الثقة بأن الزمن هو الكفيل بإبراز كل ما هو أصيل وبرمي الزائف والطفيليّ في "مزبلته".النهار اللبنانية