ذاكـــرة الـدرامـــا الاردنـيـــة
من انتاجات عام 1987م انتجته «مؤسسة المغاريب للانتاج الفني» واخرجه سعود الفياض خليفات صاحب هذه المؤسسة الانتاجية.
يعتبر هذا المسلسل نقلة نوعية في عالم الدراما البدوية والتي كانت وبحسب رأي الكاتب الاردني فخري قعوار وصاحب الزاوية اليومية (شيء ما) في جريدة الرأي الغراء، كانت هذه المسلسلات البدوية لا تقترب في كثير او قليل من حياة البادية الفعلية، وقد اطلق اسم «بدو التلفزيون» على تلك المسلسلات، لابتعادها الكامل عن البدو الحقيقيين وحياتهم ومعاشهم، وجاء مسلسل «الغريب» ممثلاً لحياة البادية من حيث الشكل والاعراف والتقاليد وطبيعة الحياة، ومما اعطاه هذا التميز تصويره بالكامل بالكاميرا المحمولة التي اعطت جمالية وواقعية غير مسبوقة.
وفيه تجاوز الفني الاردني خطوة جبارة في استعماله للتقنيات الحديثة فكان التصوير (المصور المبدع بشير الدباس) وهندسة الصوت (احمد الرواد) وباقي التقنيين والفنيين، كلهم ابدعوا في مهنيتهم بشكل لافت.
وضع المخرج سعود الفياض خليفات اطر قصة المسلسل بشكل ميلودرامي جذّاب، استقاه من خبرته ومعايشته لحياة البادية وموروثها القصصي.
وأبدع الكاتب السوري خالد حمدي في وضع السيناريو والحوار لها، وجاءت حلقات المسلسل مفعمة بعناصر التشويق والاثارة لدرجة ان المشاهد يجد نفسه مجبراً على المتابعة والتفاعل مع سير احداث المسلسل.
لي مع المسلسل قصة طريفة بدأت عندما طلب مني ان اقرأ النص, فأخذت معي سبع حلقات من مجموع اربع عشرة حلقة, وشرعت في قراءتها عند منتصف الليل, فوجدت نفسي مشدوداً اليها حتى الساعة السادسة والنصف صباحاً. وعندئذ خرجت من البيت واشتريت صحنيّ حمص وفول, وافطرت مبكراً على غير العادة, وسمعت الاذاعة مبكراً على غير عادة ايضاً, بانتظار أن اتصل بسعود الفياض كي يعطيني باقي الحلقات لاتابع قراءتها, وهذا ما حدث بالفعل, وقرأت النص كاملاً, وكتبت في التقرير النهائي: ان هذا المسلسل اذا ما تم تنفيذه بشكل جيد, فإنه سيكون سبباً لمنع التجول في انحاء البلاد اثناء ساعة بثه من كل ليلة.
وتم تنفيذ العمل وطلبت من اخي سعود الفياض ان يسمح لي بمشاهدته, فاعطاني اشرطة فيديو, عكفت على مشاهدتها كاملة من غير كلل أو ملل رغم طيران عنصر التشويق بالنسبة لي لأنني اعرف كل الاحداث وكل الشخصيات ولا جديد في المسلسل كي اترقبه سوى الاخراج والمونتاج والتمثيل وخلافه.. لا اريد أن اطيل, ولا اريد أن افسد على الناس عملاً أحب أن يشاهدوه, ولذلك فإنني لن اقوم بتلخيصه او سرد جوانب منه, واكتفي بالقول أنه مسلسل ميلودرامي اكتملت عناصره لشد المشاهد وشد الانفاس من البداية الى النهاية).
شارك في المسلسل نخبة من الممثلين الاردنيين: يوسف الجمل, حسن ابراهيم, عبدالكريم القواسمي, حابس العبادي, حابس حسين, امل الدباس, شايش النعيمي, محمود الزيودي, رشيدة الدجاني, مجد القصص, محمد عواد, محمد ختوم, رفعت النجار, كوثر النشاشيبي, عيسى الصويص, علي عبدالعزيز, ابراهيم القواسمي, زياد الجغبير واخرون.
كما شارك فيه مجموعة من الممثلين السوريين منهم: سمر سامي، رشيد عساف، نجوى صدقي، ضحى الدبس، ايمان كامل.
جاءت التجربة الانتاجية لهذ المسلسل بالكثير من التميز للقطاع الخاص في مجال الانتاج التلفزيوني، إذ ان المخرج سعود الفياض خليفات هو صاحب المؤسسة المنتجة «المغاريب للانتاج الفني»، وكان غنى الانتاج وتميزه واضح وبشكل لافت.
ولكن ذلك كله لا يبعدنا عن اكثر من موقف طريف حصل مع المخرج المنتج وكما رواه لنا:
كنت قد أقترضت مبلغاً من المال من احد البنوك لانتاج المسلسل وبكفالة مزرعتي التي رهنت ضمانة لهذا القرض وكان ذلك مغامرة كبيرة من حيث الالتزام بالسداد والذي يأتي من التسويق مضافا اليه ما قد يطرأ من تكاليف مادية قد لا تكون في الحسبان.
كنا في خضم تصوير احد المشاهد للمرحوم الفنان حسن ابراهيم (والذي كان مشهوراً بخفة دمه ومقالبه التي لا تخلو من قسوة) والمشهد يحكي موت الشخصية التي يمثلها ووصاته لمن حوله بالاهل والديرة خيرا وبعدها رفع سبابته ناطقا بالشهادتين وعندها يموت لتأخذ الكاميرا بالاقتراب منه ليتبين ان هناك دخانا خفيفا يتصاعد من جانب فراشه.. ما هذا؟؟
ماذا يمكن ان يفسر المشاهد هذا الدخان فيما لو لم يتم الانتباه اليه، هل يمكن ان يقال ان هذا الدخان يمثل حرارة روح المتوفى؟ ام ماذا؟ عندها تبين ان حسن ابراهيم وقبل بداية التصوير كان قد اشعل سيجارة ولم يهن عليه اطفاءها ووضعها بجانبه كون ان الزمن الذي سيستغرقه تصوير المشهد لا يتجاوز دقائق معدودات، وهذا ما حصل ليتم بعدها اعادة التصوير بعد تسمعه لبعض العبارات، تمت الاعادة وانتهى تصوير المشهد بدون دخان طبعا، وطلبت من المعنيين تحضير المشهد التالي، وعندها نظرت الى حسن ابراهيم ولا زال على حالة الموت في المشهد السابق، اتحرك يا حسن.. يا الله يا اخوان.. وحسن بنفس الوضع، وهنا أخذت الافكار والاسئلة تتزاحم في رأسي: ما الذي يضمن انه لم يمت حقيقة؟ وللمرة الثالثة خاطبته وبصوت مرتفع اكثر.. ولم يتحرك!! ولا أكتمكم سراً أن ما كان يدور في رأسي هو: افرض انه مات حقيقة، ماذا سيحصل لي مع البنك ورهن مزرعتي.. أعتقد انه سيكون خراب بيت بكل ما تعنيه الكلمة، لكون الامر يحتاج الى اعادة تصوير كافة المشاهد المشارك بها وبشخصية ثانية يضاف اليه ان له الكثير من المشاهد لم تصور بعد.. (لا حول ولا قوة إلا بالله).
كل ذلك كان خلال ثواني معدودات، ودقات قلبي تسمع من الجانب الاخر للوادي المحاذي لنا، هكذا تخيلت، تناولت خيزرانة وضربته بها.. لينهض بعدها ضاحكاً معلناً انتصاره لنفسه في مقلبه هذا.
رحم الله حسن ابراهيم فقد أحب الحياة وأحبته.