خاشقجي: لهذه الأسباب نجح إسلاميّو تركيا وتونس بينما أخفق إخوان مصر والأردن
اعتبر الكاتب الصحفي السعودي جمال خاشقجي، أن تيار الإسلام السياسي يتمتع بقوة وشعبية كبيرة في المجتمعات العربية الإسلامية، ولا يمكن لأحد كائناً من كان أن يُقصى هذا الفصيل، رغم الإخفاقات التي وقعت من قبل الإخوان المسلمين في مصر، والتي نجم عنها الانقلاب العسكري في 2013.
ويرى خاشقجي أن الحركة الإسلامية في تركيا وتونس نجحت، في أن تمارس العمل السياسي باحترافيه؛ ولذلك استمرت في قيادة دولتيها، وتحقيق التنمية لتلك البلدان، بينما لم يفلح الإخوان في مصر في تحقيق ذلك، بحسب مقال له في صحيفة الحياة اللندنية.
وأشار الكاتب السعودي إلى أن هناك 3 أسباب وراء فشل الحركات الإسلامية التي تمارس العمل السياسي، وهي أولاً مبدأ تقديم "الرعيل الأول" السابقين المتقدمين في الحركة بسجل الصبر في المعتقلات والثبات أمام المغريات والضغوط، على غيرهم من أصحاب الخبرة.
والسبب الثاني أن أدبيات "الإخوان" تعج بحديث وذكريات وأشعار السجون والمعتقلات، والصبر والابتلاء والتمحيص، لأن ثقافة المعتقلات والترحيب بها تدفع نحو معادلات صفرية، فإما كل شيء وإما المعتقل! أما السبب الثالث، كما يرى خاشقجي ثقافة السمع والطاعة، والولاء قبل الكفاءة، والتي تطرد المبدعين من الحركة.
وإلى نص المقال
جدد تشميع السلطات الأردنية مقر "الإخوان المسلمين" في عمان أتراح الحركة الإسلامية، وذكرهم بنكستهم الكبرى في مصر حين عجز "الإخوان" عن الاحتفاظ بالحكم، بعدما وصلوا إليه إثر صبر ونضال عقود، بل الأسوأ أنهم خرجوا من الحكم وعادوا إلى المعتقل.
الجيد هذه المرة، وخلافاً لما حصل بعد النكسة المصرية، أن الحدث الأردني فتح باباً للنقد الذاتي والدعوة لمحاسبة القيادات هناك، التي زجّت بالحركة في صدام مع نظام تراجعت علاقتهما من تحالف إلى صداقة، فبرودة، فخصومة معلنة، فخرج بعض قيادات وناشطي الحركة منتقدين زعاماتهم التاريخية بغضب، كأمين سر "حركة العمل الإسلامي" الأردنية السابق أحمد فرج الله، الذي نشر مقالة غاضبة في موقع "عربي 21" المقرب من الجماعة، اتهم فيه قيادات الحركة بالتعامي عن "وجود أزمة حقيقية تمر بها الجماعة"، وأنهم يتعاملون مع كل هذه الأزمات على أنها "فتنة لتمحيص الصف الذي تجاوز عمره السبعين سنة وما زال في طور التمحيص"، وحذر من "أن يزيد الأمر سوءاً، فتعمل (قيادات في الحركة) على تطوير قرار الإغلاق إلى قرار الاعتقالات والسجون".
فرج الله وغيره كثر من الإسلامين الأردنيين، ليسوا أصدقاء للحكومة، إنما معارضون شرسون لها، ولكنهم هذه المرة غاضبون على شيوخ الجماعة الذين يعيشون ثقافة المواجهة والمؤامرة والتضحية والمعتقلات، وهي وصفة لا تستقيم بها حال الجماعات ولا الأوطان.
وبغض النظر عن صواب وخطأ "الإسلام السياسي"، وما إذا كان تحتاج إليه المجتمعات العربية الحائرة، فإن ثمة جمهوراً عريضاً يريده، يؤمن برسالته، ويراه المنقذ، ومستعد أن يعطيه صوته في كل فرصة انتخابية تأتي، ولكن قدره (في بعض البلاد العربية) أن يكون تحت رحمة قيادة لا تحسن السياسة، فتجرّه من أزمة إلى أخرى لا تضر الجماعة وحدها، وإنما كل الوطن، ولكنه على رغم كل ذلك يبقى تياراً عريضاً، لا يمكن إقصاؤه وتجاهله حتى لو دخل المعتقل، أو حوصر أو ختم عليه بالشمع الأحمر.
بالطبع هناك استثناءات تثبت القاعدة، هي تركيا أردوغان، وتونس الغنوشي، ومغرب بن كيران، ورسم هذه الاستثناءات على خريطة ذهنية، ومقارنتها بالنماذج المتعثرة، سيكشف أن ثمة علاقة طردية بين تحسن الأداء السياسي للقيادة ومقدار ابتعادها عن مدرسة "الإخوان المسلمين" في صيغتها التقليدية، التي لم تسمح لها حياة المعتقلات والإقصاء ولا قيادات "الرعيل الأول" بالتطور، فلماذا يبدع الإسلامي خارج "الإخوان" ويتكلس داخلها؟
كل ما سأذكره سيكون موضع اختلاف، ولكنها مشاهدات شخصية ونتاج معرفتي بالحركة ومتابعتها ربع قرن، وحديث مع شبانها وشيوخها والمتقاعدين والمبتعدين والمستقلين عنها، أعتقد أن السبب الرئيس هو مبدأ تقديم "الرعيل الأول" السابقين المتقدمين في الحركة بسجل الصبر في المعتقلات والثبات أمام المغريات والضغوط، وكلها مبادئ نبيلة، ولكن تقديمهم على غيرهم من أصحاب الخبرة، ممن لم يجرب المعتقل والإقصاء، بل حتى اقترب من دوائر الحكم وعرفها، واكتسب مهارات الواقع، أدى دوماً إلى أن يتخذ الشيخ القائد القرار الخطأ، الذي كان كارثياً في مصر عام 2013 والأردن عام 2016.السبب الثاني أن أدبيات "الإخوان" تعج بحديث وذكريات وأشعار السجون والمعتقلات، والصبر والابتلاء والتمحيص، لعلهم في حاجة إلى من يصرخ فيهم أن هذا ليس قدراً محتوماً، والذهاب إلى المعتقل قد يكون هرباً من تحمل المسؤولية في لحظة فارقة. إنه ليس ميزة، بل هرب من السياسة ومساوماتها وتنازلاتها. عندما تكون القضية هي الوطن فإن مصلحة الوطن في ساحة السياسة الواسعة وليس في زنزانة ضيقة بمعتقل بائس. ثقافة المعتقلات والترحيب بها تدفع نحو معادلات صفرية، فإما كل شيء وإما المعتقل! ثم أكتب قصيدة تمجد هذا الموقف العظيم أمررها على عشرات الآلاف من الشباب الذين زجّ بهم في السجن من أجل ذلك "الثبات والصمود".
السبب الثالث، ثقافة السمع والطاعة، والولاء قبل الكفاءة، هذه الثقافة تطرد المبدعين من الحركة، من السياسيين المحترفين، وتبقي المتواضعين في قدراتهم، المستعدين دوماً للسمع والطاعة في المنشط والمكره، وتدفع بهم للصعود إلى أعلى يتصدرون مواقعهم في مجلس شورى الجماعة ومؤسساتها، فيشاركون الشيخ القائد الثقة الصابر من جيل الرعيل الأول في اتخاذ قرار كارثي آخر.
ولكن لماذا نجت حركات تركيا وتونس والمغرب من قيادات كهذه؟ الإجابة هنا أسهل، ذلك أنها تنظر في نجاح حاصل وتجربة مستمرة، من دون إغفال واقع تلك البلدان، ففي تركيا أمران، أولهما اتفاق نخبها السياسية، إسلامية كانت أم علمانية، على مدنية الدولة والديمقراطية، فسعوا إليها وتوافقوا على تحريرها بتدرج من تغوّل الجيش عليها، ومن هنا وجدت الحركة الإسلامية، حتى في زمن مؤسسها نجم الدين أربكان المرتبط أكثر بمنهج "الإخوان"، ساحة سياسية يناور فيها، فيشكل حزباً ليحل، فيعيد تشكيله ثانية باسم آخر، ويعيد صياغته ليتفق مع السياسة السائدة وظروفها، ليحل فيكرر ثالثة، وهكذا، يضاف إلى ذلك أن الديمقراطية امتدت إلى القواعد المحلية، والبلديات، والمختارين، وهناك وجدت كوادر الحركة فرصتها للممارسة السياسية واكتساب خبرة من الواقع والظهور أيضاً، ومن هؤلاء رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان، الذي صنع مجده السياسي بصفته رئيساً لبلدية إسطنبول، ولم يكن وحده، وإنما معظم كوادر حزبه برزوا أولاً في مدنهم وقراهم بوصفهم رؤساء بلديات ومختارين، الأمر الثاني أنهم أصبحوا وأحزابهم محترفي سياسة وليس وعاظاً ودعاة، ساسة يتعاملون مع موازنات ومشاريع، وهو ما عجزت دعوة "الإخوان" عن التحرر منه على رغم أنها شكلت أحزاباً سياسية تابعة لها، ولكنها ظلت دوماً "تابعة لها".
هذه المساحة الحرة أعطت أردوغان أيضاً الفرصة للظهور بمثابة زعيم وطني لا زعيم جماعة، ما مكنه أن يتجاوز حتى شيخه أربكان، وشكل حزباً ينافسه ويخرجه من حلبة الصراع السياسي.
أما تونس، فإن الحركة فيها متقدمة فكرياً على نظيراتها بالشرق مبكراً، وليس صحيحاً إيعاز ذلك إلى إقامة زعيمها راشد الغنوشي لاجئاً بالعاصمة البريطانية عقدين، فعلى بعد أميال قليلة من منزله، كان هناك سلفيون متشددون يدعون إلى الخلافة والجهاد ويناوئون الديمقراطية، بل إن كثيراً من فكر «داعش» الحالي صُنع هناك خلال التسعينيات. لم يختر الغنوشي ذلك وإنما كان تقدمياً، بحكم تقدم حركته، التي حافظت على ميراث المدنية التونسية التي أسسها مفتيها الطاهر بن عاشور أوائل القرن. أذكر أنني أول ما تعرفت على مصطلح "اليسار الإسلامي" كان في تونس عندما اقتنيت أعداد مجلة كانت تصدر هناك في الثمانينيات، والتقيت ناشريها الذين اختاروا لها اسماً مثيراً للجدل: "15/21" رمزاً للمستقبل والقرنين الـ15 الهجري والـ21 الميلادي اللذين نعيشهما الآن.في المغرب، لا يخفى تأثير شخصية رئيس وزرائه عبدالإله بن كيران القيادية وزعامته، والذي لم يوجه حدية لسانه وصراحة خطابه ضد خصومه السياسيين من خارج التيار الإسلامي، بل وجهها حتى ضد الشيوخ التقليدين، واستقل تماماً عن جماعة "العدل والإحسان" التي حافظت على تقليدية "الإخوان"، وقدم نفسه بصفته سياسياً، أولاً، وإسلامياً، ثانياً، مقراً بشرعية الملك والدولة، مكملاً وناصراً لها، لا بديلاً عنها، وبالتالي استطاع كسب ثقة جمهور واسع من الشباب الإسلامي، وأهم منهم عموم المغاربة الذين يريدون من يحدثهم عن الوظائف والمعيشة في هذه الدنيا قبل الآخرة، وكذلك ملك البلاد محمد السادس.
حان الوقت لأن يقول أحد لـ "إخوان" المشرق: إن الإصلاح لن يبدأ من النظام، وإنما يبدأ عندما تستبدلون الرعيل الأول البعيد من الواقع بسياسيين محترفين مدركين للواقع.