نحو تكامل الأدوار الوطنية لمواجهة تحديات التنمية المستدامة في الاردن
جو 24 :
كتبت الدكتورة رنا عيروط -
التغيير الذي شهده العالم خلال العقود الثلاث الأخيرة شكل حالة تحدٍ امام المجتمعات البشرية، حيث تغيرت الادوار النمطية للنهج السياسي والاقتصادي والاجتماعي على حدٍ سواء. وكان مطلوب من الدول بالتوزاي مع ذلك ان تخضع سياساتها وخططها وتشريعاتها للمراجعة الدورية المتكرره لتلافي موجات تأثير تلك التغيرات.
ولعل ظهور مفهوم التنمية المستدامة شكل كوابح المدّ غير محدد المعايير لعجلة التغيرات التي عصفت بالمجتمعات البشرية، اذ منذ زمن ليس ببعيد تحولت معظم الدول الزراعية الى قوى اقتصادية، الامر الذي نتج عنه اختلال باقتصاديات دول العالم، وتدهور في الاوضاع الاجتماعية والبيئية، وادى الى صياغة غير مباشرة في العقد الاجتماعي بين المجتمع والمنشآت بشكل كبير.
وبعد موجات المطالبة بحقوق العمال وما تبعها، ايضا سادت حقبة جديدة من التغيرات خلاصتها ادماج مفهوم التنمية المستدامة في عمل المنشآت بما يفرض عليها بأن تسهم بشكل فعّال في تحسين المجتمع والارتقاء به، حيث تغيرت النظرة للمنشأة من كونها تسعى لتحقيق الربح للمساهمين فيها بمجرد تقديمها السلع والخدمات، الى كونها كياناً اقتصادياً واجتماعياً تسعى من خلاله الى موازنة الاهداف الاقتصادية مع الاهداف الاجتماعية والبيئية، بحيث لا يجوز للحاضر أن يستهلك المستقبل.
الاردن، كغيرة من دول العالم كان ولا يزال يسعى الى تحقيق تنمية مستدامة تتسم بالشمولية على المدى المتوسط والطويل، وذلك من خلال رفع معدلات النمو واستدامتها، وخفض معدلات الفقر والبطالة، واعتماد سياسات مالية قادرة على ادارة الازمات والمحافظة على الاستقرار الاقتصادي الكلي، بالاضافة الى إجراء المزيد من الاصلاحات المعززة للنمو الاقتصادي بما ينعكس ايجاباً وبشكل مباشر على نوعية حياة المواطن الارني في مختلف الحقول والميادين الاقتصادية والاجتماعية والبيئية والسياسية والثقافية.
إلا ان الراصد لعجلة التطور في هذا المضمار يجد بلا منازع ان جملة من التحديات استوطنت في المجال الاقتصادي وغدت تشكل اكبر المعيقات امام استكمال انموذج التنمية المستدامة للأردن، ولا يزال يتم رفد الفضاء العام بالعديد من الافكار والرؤى والتطلعات الوطنية، وكان السبّاق في حثّ المؤسسات الوطنية على تنفيذها جلالة الملك عبدالله، حيث اكد في اكثر من مناسبة على تطوير البيئة الجاذبة للاستثمار على صعيدي التشريعات والسياسات، وكذلك تطوير رؤية الاردن الاقتصادية لعام 2015 والتي حددت الملامح العامة للاقتصاد الوطني والاولويات الوطنية المأمول تنفيذها.
وفي ذات السياق الانتهاء من حزمة الاصلاح الخاصة بالعمل السياسي والادارة المحلية، باعتبارها تدلل على صدق النهج الوطني الشمولي الاقتصادي، وكان أخر المشاريع الوطنية هو الايعاز بتطوير قانون صندوق الاستثمار الاردني، وفقا لتصور وطني لجذب راس المالي العربي والاجنبي للإستثمار في المشاريع الوطنية الكبرى التي تتطلب وفرة مالية عالية.
وبعد كل تلك الجهود الوطنية، المأمول بل المطلوب، أن تتكامل الجهود الوطنية على كافة الصعد للتغلب على التحديات التي تواجه الاقتصاد الاردني وعلى سلم اولويات تلك التحديات تغيير في الثقافة الاقتصادية على مستوى انماط السلوك الانتاجي السائدة في قطاعات الصناعة والزراعة، ويتطلب ذلك ايضا تغييرا في انماط السلوك الاستهلاكي القائمة، سواء على مستوى السلوك الاستهلاكي الفردي أو التنظيمي أو الحكومي، وكذلك السلوك الاداري، وان يتساوى ذلك مع ضوابط رقابية اساسها بلوغ اهداف التنمية المستدامة. ولا أدل على تلك الزيادة المستمرة في معدلات التضخم والتلوث البيئي والفجوة التنموية بين المحافظات وارتفاع معدلات البطالة، وتدني نسبة مشاركة المرأة الاقتصادية والتراجع النسبي في بعض مؤشرات التنافسية.
كما ان السياسات المستقبلية يجب أن تأخذ بالحسبان التراجع في النمو الاقتصادي وتباطؤ نسب النمو في الناتج المحلي الاجمالي الحقيقي، وان يكون مؤشر القياس في تلك الزيادة المؤشرات التي تعكس وجهة نظر المواطنين في التغير. وفي ذات السياق لا بد من وضع تصور وطني شمولي لمسألة عجز الموازنة العامة حيث انها اضحت اشكالية وطنية عابرة للحكومات، مما يوجب علينا أن نبدأ ببلورة خيارات وبدائل غير تقليدية للتخلص من هذا التحدي مع الاخذ بعين الاعتبار ترشيد الانفاق العام بشكل فعلي، ووقف تضخم القطاع الجهاز الاداري، وتفعيل حقيقي للشراكة بين القطاع العام والخاص، وبناء شراكة فاعلة مع المجتمع المدني، والحد من المديونية وآثارها السلبية، والسعي لتطوير نموذج اقتصادي وطني يراعي ويأخذ بعين الاعتبار طبيعة وخصوصية الاردن، وعدم الانسياق خلف برامج صناديق الاقراض الدولي.
إن العمل الوطني الجاد يجب أن يأخذ بالحسبان اسباب تراجع مستوى الانتاجية وتدني نسبة المشاركة في سوق العمل، والاسغلال الامثل للمصادر الطبيعية الحيوية في الاردن والبحث عن مصادر بديلة للطاقة بما يضمن عدم الزيادة المستمرة في فاتورة الطاقة من النفط والكهرباء.
اننا أحوج ما نكون الى نهج وطني شمولي يأخذ بعين الإعتبار كل هذه التحديات كمؤشرات اساسية، وبناء نتائج حقيقية بناء على حوار وطني حقيقي وفعال، وبذلك يمكننا قلب التحديات الى فرص، ونقاط الضعف الى قوة، بل ونستفيد من الاوضاع الاقليمية غير المستقرة من حولنا، بأن تصبح الاردن نقطة الجذب الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والسياسي في المنطقة، وهذا التصور الوطني ليس ببعيد. وبمعزل عنه لا نستطيع استكمال نموذج التنمية المستدام الذي نريد.