jo24_banner
jo24_banner

كانّ 69 – البائع المتجول لأصغر فرهادي: واقع متصدّع سينما متماسكة!

كانّ 69 –  البائع المتجول  لأصغر فرهادي: واقع متصدّع سينما متماسكة!
جو 24 :

لم يكن مفاجئاًأنيشارك أصغر فرهادي في مهرجان كانّ هذه السنة (11 - 22 الجاري) بفيلم يرتقي إلى اسمه ومكانته في السينما وينتصر لمفهومه للفنّ. منذ "عن ايللي" (2009)، لم يطش ولو مرّة واحدة سهم المخرج الايراني الفائز بالـ"أوسكار" الذي يداعب القسوة بكفّ من مخمل. بستة أفلام، و"البائع المتجول" المتسابق على "سعفة 2016" هو السابع، استطاع أن يفرض نفسه كأحد صنّاع سينما ذكية ورهيفة تفتح الأبواب المغلقة نصف فتحة (وهذه الصورة سنراها بحرفيتها في جديده)، بحيث يجد في هذا الاسلوب التعبير الأفضل لطرح أفكاره. يقدّم فرهادي سينما متمهلة تأخد وقتها لتتشكل ملامحها، وعندما تحادثه يتكلم عن عمله بحذر الشاعر الذي يخاف كشف أسرار كتابة القصيدة، أي انه لا يريد أن يقول الكثير كي لا يتطاير الغموض.

"أي حكاية تختارها لنقلها إلى الشاشة"، كان يقول فرهادي في مقابلة مع "النهار" أيام "انفصال"، يُمكن معاينتها من زوايا ووجهات نظر مختلفة. دائماً، أحاول أن أضع قبضتي على حكاية جيدة، حكاية تلائم تطلعاتي، ثم أنسج فيها آفاقاً عديدة، فاتحاً تلك الحكاية على احتمالات معقدة. كيف انتهى بي الأمر إلى انجاز مثل هذا الفيلم؟ هذا، تحديداً، ما لا أستطيع أن أرويه لك. دعني أقارن الأمر بقيادة السيارة التي تجعلك تقوم بعمليات عدة في وقت واحد، كالضغط على البنزين والفرامل وتبديل سرعة علبة التروس، وهذا كله، تفعله من دون أن تفكر في كلّ عنصر من العناصر على حدة، وسيكون صعباً عليك لاحقاً أن تشرح ما فعلته تفصيلياً لتصل إلى مثل هذه العملية: قيادة السيارة".
يبدأ الفيلم بمشهد مبنى متصدع في طهران آيل للسقوط في أي لحظة. فيما سكانه يهربون من منازلهم خوفاً على أنفسهم، تركّز الكاميرا على رجل وزوجته، عماد ورنا، وهما ينقذان ما يمكن انقاذه، قبل ان تطلّ من نافذة احدى الشقق، لنكشف حفّارة تعمل على وضع أسس مبنى محاذ في طور التشييد. في المقدمة الطويلة، سنتابع بحث الزوجين عن مسكن. تفاصيل كثيرة يفرضها علينا سيناريو فرهادي المتماسك جداً (يستحق جائزة السيناريو)، فندخل حميميتهما كما ندخل وعيهما. فجأة، يحدث ما ليس في الحساب: يدخل أحدهم على الزوجة فيما هي تستحم. ماذا سيحدث تحديداً وكيف ولماذا؟ عن كلّ هذه التساؤلات التي سترافقنا لن يردّ فرهادي، مفضلاً اللبس والاختزال والخيال، والأبواب نصف المفتوحة. لا شرح ولا تحليل، كلّ الانفجارات تحصل في الداخل، داخل الشخصيات، وتبقى في الباطن، ولا سبيل لبلوغها.
هذه الحادثة العرضية، ستحدث فوضى نفسية باطنية، فتتحول إلى كرة ثلج تجرف على طريقها بعض المسلمات، وتسقط بعض الأقنعة، وهي تسقط فقط كي تعود إلى الوجوه مجدداً، ليتظاهر الكلّ في الختام كأن شيئاً لم يحدث. "البائع المتجول" هو عن هذا الانكار، انكار الوحش في داخل الكائن. طبعاً، كلّ شيء يصوغه المخرج هنا على طريقته الخاصة، فهو يجيد كيفية امرار الأفكار، ضمناً وليس علناً، ويلتزم خطه هذا حتى عندما يقول ان فيلمه هذا هو ادانة للرأسمالية المتوحشة، او عندما يأتي على ذكر الرقابة خلال تمارين مسرحية "موت بائع متجول". فعماد ورنا يؤديان دورين في مسرحية آرثر ميللر الشهيرة، وهذا ليس تفصيلاً باهتاً، اذ ان حال إيران اليوم من وجة نظر فرهادي شبيهة بحال "أميركا الرأسمالية والعدوانية أمس"، زمن المسرحية.
كي يترجم نقده هذا خطاباً بصرياً، تكفي فرهادي لقطتان أو ثلاث للفورة العمرانية في طهران. ثم يحيلنا المسرح في الفيلم على التكاذب الاجتماعي، على النفاق الذي لا يطاق، على الأقنعة التي يختبئ خلفها البشر، والأهم: المغفرة، وكيف يتحوّل المعتدى عليه إلى معتدٍ. ذلك ان قصة دخول رجل غريب البيت ستكبر، اولاً في رأس الزوج، لمعرفة مَن الشخص الذي تسلل إلى الشقة في غيابه للاعتداء على زوجته؛ وثانياً في الفيلم نفسه اذ يتبين ان الشقة كانت تسكنها سابقاً عاملة جنس والمعتدي هو زبونها. هذا كله سيفتح الباب وسيعاً أمام مجموعة مشاعر متضاربة، لن يستطيع الزوج تجاوزها ولا التصالح معها.
"البائع المتجول" يصبح في جزئه الأخير مرافعة ضد الانتقام الذي يسعى اليه الزوج، وستجري فصوله في الشقة القديمة المهجورة التي تتهاوى، مع كلّ ما يحمل ذلك من رمزية. لا نريد كشف المزيد عن فيلم ينطوي على تشويق، وهذه اضافة جديدة على عمل فرهادي المشغول بحكايات أخلاقية يستقيها من عمق المجتمع الايراني. هنا، نقد لاذع للمجتمع، مع انه لن يتحقق بالكلمات بل بالانزلاق التدريجي في الهاجس الانتقامي الذي سيحوّل رجلاً عادياً إلى شخصية سينمائية. بحساسية مفرطة، يصوّر فرهادي ثريللرا بسيكولوجيا يحبس النفس في الجزء الأخير منه. يطرح نفسه كأحد اساتذة الاخراج وكتابة السيناريو في السينما الحديثة، عازلاً نفسه داخل جدران القسوة والضغينة، الا ان هذا لا يمنعه من أن يكون معلماً تنويرياً ينظر إلى العالم على نحو يضع الطبيعة البشرية في قلب هواجسه.

النهار
تابعو الأردن 24 على google news
 
ميثاق الشرف المهني     سياستنا التحريرية    Privacy Policy     سياسة الخصوصية

صحيفة الكترونية مستقلة يرأس تحريرها
باسل العكور
Email : info@jo24.net
Phone : +962795505016
تصميم و تطوير