ماذا حدث للاجئين السوريين الذين اصطحبهم فرانسيس في رحلته إلى الفاتيكان؟
كان رامي الشكرجي لا يزال يواصل إقناع نفسه بفكرة أنه قد أصبح في أمان أخيراً –حيث غادر جزيرة ليسبوس كواحد من بين 11 لاجئاً أنقذهم البابا فرانسيس الشهر الماضي- قبل أن يجد نفسه في أزمة أمنية غير متوقعة.
ربما كان رامي يمتلك مفهوماً أوسع للأمن بعد 5 سنوات في سوريا كان خلالها وعائلته "مستعدين للموت في أي لحظة، يتنقلون باستمرار بسبب القصف"، إلا أنه في المطار، في الوقت الذي كان يمر فيه هو وزوجته وأطفاله الثلاثة عبر أجهزة الفحص، ظهرت حالة من الذعر بسببهم، وفقاً لما نشرته صحيفةThe Guardianالبريطانية.
قالب الفلافل
يبتسم رامي قائلاً "لقد كان القالب الذي نستخدمه لعمل الفلافل". كانوا قد جلبوا أداةً معدنية تستخدم في إعداد الفلافل معهم من مدينتهم دير الزور. يواصل حديثه "ولكن اليونانيين لم يسمحوا لنا بأخذها على متن الطائرة، ولكننا كنا على طائرة البابا! مسئولو الفاتيكان أخبروهم بأنها يجب أن تمر معنا، إلا أن اليونانيين قالوا لا. كان الأمر أشبه بصراع بين آلباتشينو وروبيرت دينيرو، نزاع دبلوماسي بين اليونانيين والإيطاليين، وكل ذلك على قالب الفلافل".
فرض الفاتيكان رأيه ومر قالب الفلافل مع الأسرة وهو لم يكن بتلك الأهمية كما تقول زوجة رامي، سهيلة عياد، والتي رأت حين كانت تحزم حقائبها منذ وقت طويل، ووقعت عيناها على أشياء معدنية صغيرة وضعتها داخل الحقائب مثل مجموعة مقصات، وإبر وخيوط، حيث رأت أن كلها أشياء ستحتاجها، وعندما قارنت أهمية قالب الفلافل بالمساحة التي سيشغلها من الحقائب رأت أنه ربما من الأفضل أن تتركه داخل الحقيبة.
وراء زوجٍ من البوابات المعدنية الثقيلة في حي تراستيفيري بروما، حيث تتلاشى علامة المستشفى القديم على جدار من الحجر، تقع مدرسةٌ تعلّم اللغة التي تديرها كنيسة سانت إيجيديو. منذ افتتاحها عام 1982مرّ على تلك المدرسة أكثر من 60 ألف وافد جديد إلى روما، وهنا حيث سيتعلم رامي (51 عاماً) وزوجته سهيلة وأطفاله الثلاثة، بالإضافة إلى اللاجئين الآخرين القادمين مع البابا، اللغة الإيطالية، والتي تعد مفتاح الاندماج في المجتمع بحسب ما تذكره منظمة سانت إيجيديو، وهنا حيث سينسى رامي وسهيلة واقعة المطار ليجلسوا على مقعد في حين تلعب طفلتهما –تدعى قدس (7 سنوات)- حولهما.
أين يعيشون
هم الآن في روما منذ شهر. وعلى النقيض من بعض التقارير، فلم يقضوا أي ليلة في الفاتيكان، ويعيشون حالياً في ملجأ تابع لسانت إيجيديو، ويبعد بشوارع قليلة عن المدرسة.
كيف هو الوضع معهم الآن؟ تجيب سهيلة قائلة "حسناً، الأمور على ما يرام". يتناولون الطعام الشرقي– الباذنجان في وجبة الغذاء- كما وجدوا مسجداً، ويؤدون صلواتهم، ويأخذون أطفالهم إلى المدرسة كل يوم، كما أن الطقس قريب من الطقس في بلادهم. كونت طفلتهم– قدس- صداقة جديدة مع طفلة إيطالية هي ابنة أحد المتطوعين. يقول رامي "بدأنا نشعر بأننا نتكيف هنا، العالم يبتسم لنا".
يضيف "نحن فقط نرغب في الاستقرار، وإعادة توطيننا. لقد مضت 5 سنوات لم نشعر فيها بأننا طبيعيون. في سوريا، لم نتمكن لوقت طويل من الوقوف في النافذة، لأنك لا تعرف من أين ستأتي الرصاصة".
نور عيسى (30 عاماً) وزوجها حسن زاهدة (31 عاماً) كانوا من بين من جاؤوا مع البابا من ليسبوس أيضاً، ولديهم شرفة في نفس المبنى الذي يسكن به رامي وسهيلة، والذي يعتبر بناءً فخماً بحي تراستيفيري، ويمر به آلاف السياح يومياً، ولكن عندما ينظر نور وحسن من تلك الشرفة كل يوم إلى النافورة، ويستمعون إلى الموسيقى، يتذكرون حياتهم في سوريا قبل الحرب. الرائحة هي ذاتها، كما يقول حسن. ربما هي عذوبة رائحة الياسمين تشبه الرائحة التي تفوح من الأزهار التي تنتشر على جدران روما، أو ربما لأن سانت إيجيديو تذكره بكنيسة باب توما في دمشق. تقول نور "إنها مدينة مليئة بالحياة، تماماً كما كانت دمشق".
في الداخل، وبعيداً عن الشرفة، تبدو تلك الحضارة مختلفة تماماً عن تلك التي عرفوها. كان منزلهم في وادي بردى الذي يبعد 30 كم عن دمشق، تبلغ مساحته 120 متراً، وكان يحتوي على 3 غرف وحديقة صغيرة. لكن في تراستيفيري، يعيشون مع طفلهم رياض (عامين) في غرفة واحدة بها فراش مزدوج.
تقول نور "الأمر الأصعب هو أن يكون لديك طفل في منزل مشترك، لأنك تفقد السيطرة عليه حين يتربى مع أطفال آخرين". يقوم الزوجان بتشارك المطبخ ودورة المياه مع جيران آخرين، ليس جميعهم من اللاجئين، حيث يتبعون مشروع "الممر الإنساني" التابع لجميع سانت إيجيديو.
بخلاف رامي وسهيلة، لم يجلب نور وحسن أشياءهما الثمينة، لا شيء مثل قالب الفلافل. غادرا في عجلة من أمرهما بعدما كان سيتوجب على حسن المشاركة في القتال. كانت حقائبهما تمتلئ بالحفاضات والحليب من أجل طفلهما، والذي كان يتحرك ويزحف بنشاط تحت الطاولة بينما يتحدثان. بخلاف ملابسهما الداخلية، لم يأخذا سوى الملابس التي كانا يرتديانها عندما استقلوا سيارة قامت بنقلهم في ديسمبر/كانون الثاني الماضي، حيث كانت الخطوة الأولى في رحلتهم للهرب والتي تكلّفت 3 آلاف دولار.
حياة جديدة
كلاجئين قدموا مع البابا، ربما من السهل الافتراض بأن مشاكل نور وحسن– وغيرهما ممن جاؤوا على طائرة البابا- قد تم حلها بشكل كامل، ولكن هذا لم يحدث بالتأكيد. خطوة بخطوة، يواصل الزوجان رحلتهما نحو حياة جديدة. كل جزء صغير من المهم إكماله لبدء هذه الحياة، حتى الملاعق كما تقول نور. لدى نور قائمة كاملة في رأسها "السكاكين، المقلاة، الأكواب الزجاجية. كان لدينا مطبخنا الخاص في دمشق، الآن علينا شراء شيء ما لنطبخ فيه، وكذلك الملابس، وربما يمكننا شراء حاسوب (لابتوب) فيما بعد". ربما هناك بعض الأشياء الأخرى التي من الصعب تسميتها ومن الصعب إيجادها.
في سوريا، كانت نور تدرس علم الأحياء المجهري، في حين كان حسن يعمل مصمم حدائق. تقول نور "نأمل في إيجاد الشيء ذاته هنا". وبمساعدة جمعية سانت إيجيديو، تمكنوا من ملء أوراقهم لطلب اللجوء، وربما في خلال بضعة أشهر سيتمكنون من الحصول على اللجوء (إجراءات شكلية بعد الاتصال البابوي)، وبعدها سيكون بإمكانهم العمل. ورغم أن معدلات البطالة تراجعت في إيطاليا هذا العام، إلا أنها ماتزال أكثر من 11%.
الأيام الأكثر ازدحاماً في مدرسة سانت إيجيديو هي مساء الخميس والأحد، في الوقت الذي تغلق فيه المحلات، لأن أغلب من يدرسون في تلك المدرسة يعملون في المحلات.
تقول نور "لم نفكر في هذا الأمر بعد، ولكن في كل الأحوال سنندمج، لأن لدينا طفل ولديه احتياجات. يجب أن نتكيف مع حياتنا الجديدة، وعلينا أن نبدأ من الصفر".
يتدخل حسن قائلاً "نتمنى أن نجد نفس الوظائف التي عملنا بها في سوريا، لأننا كنا نحب هذه الأعمال، لقد عملت في العديد من المشروعات وأنا أحب ذلك، وبالنسبة لها أعتقد أنها ترغب في مواصلة دراستها". وفي إحدى رحلات الكنيسة إلى منطقة ريجيا دي كاسيرتا، بما فيها من حدائق، رأى حسن وظيفته القديمة تلوح في الأفق. يقول هو ونور مراراً وتكراراً أن عليهم تعلم الإيطالية في البداية، لذا قاما بتحميل مقاطع فيديو وكتب، بالإضافة إلى الذهاب إلى مدرسة اللغة، واستخدام موقع Duolingo، كما يقومان بالمذاكرة لساعة أو اثنتين يومياً، وهو أفضل ما يمكن فعله بجانب رعاية طفلهما رياض.
طوال الوقت، يرى كلاهما أن أكثر ما يرغبان فيه هو وقت الفراغ. نظرياً، ربما ترى أنهما لا يفعلان سوى شيء واحد وهو رعاية الطفل، ولكن هذا يجعل رغبتهما تلك أقوى بكثير، حيث أن تفكيرهما منشغل بالذكريات المروعة والمستقبل الغامض، ولا يوجد الكثير من الوقت حالياً الذي يشعران فيه براحة البال.
لا يعرف الزوجان متى وأين بالتحديد سيتمكنان من الحصول على شقة. كانت جمعية سانت إيجيديو قد تلقت طلباً من الفاتيكان لتوفير مكان للترحيب بالعائلات القادمة من ليسبوس، وتقوم المنظمة حالياً باستضافتهم وتعليمهم بشكل مجاني، ولكن حتى الآن لا يعرف مسئولو سانت إيجيديو ما إذا كانت العائلات ستعيش في منازل في الفاتيكان خارج أسوار الدولة، أم في مكان آخر يجمعها معاً. يمنح الفاتيكان هذه العائلات مصاريف معيشتهم، في حدود 30 يورو يومياً، بحسب أحد متحدثي الجمعية والذي يصف العائلات بضيوف البابا.
تقول نور "الآن هناك رحلة أخرى".
لم تر نور البابا منذ وصلوا، ولكنها تأمل أن تقابله مجدداً، حيث ترغب في أن تشكره، على الرغم من أنها فعلت ذلك في كل مرة رأته فيها، حيث صافحته في المطار وعلى الطائرة، وعلى الأرض بعدما هبطوا. تقول "كان يبتسم وقام بمباركة ابني، وقام بمداعبته. لقد كان رجلاً رحيماً للغاية، لقد كان إنساناً حقيقياً". عندما ذهب البابا إلى مؤخرة الطائرة للإجابة على أسئلة الصحفيين، كانت نور تستمتع لذلك، حيث تقول "أتذكر أن أحدهم سأله لماذا يقوم بإنقاذنا ونحن عائلات مسلمة، فأجاب أنه قام بذلك لأننا بشر ولأننا نعاني وأنه يجب أن يفعل ذلك".
لم يكن نور وحسن ورامي وسهيلة يعرفون الكثير عن البابا قبل مغادرة سوريا. كان البابا يوحنا بولس الثاني قد زار دمشق في 2001، في حين تابعوا اختيار البابا فرانسيس في 2013. تقول نور "لقد كان الخبر على كل شاشات التلفاز في سوريا، لقد كان أمراً ذائع الصيت".
في دمشق، كان الزوجان يعيشان وسط أشخاص من عقائد مختلفة. تقول نور "لدينا فكر منفتح تجاه الأديان الأخرى". وأضافت "لقد طلبت من البابا أن يصلي من أجلنا. لقد كان أفضل من كثير من قادة العرب، لأنهم لم يقوموا بتلك المبادرة، على الرغم من أننا على دين واحد". كما وصفت نور بأن ما فعله البابا مع تلك العائلات التي أخذها إلى روما بأنه كان كالمعجزة.
ولعل الشعور بالحماية الذى منحه البابا لنور كان هو الدافع وراء تفكيرها فى العنكبوت. وتقول نور أن ما حدث لعائلتها، والمتمثل فى إنقاذ البابا لهم، كان السبب الذى عزز إيمانها بالله (عز وجل ) وبالقدر، وقد استطردت قائلة "الله موجود فى كل مكان، ربما لا يحصل الإنسان على ما يتمناه بشكل سريع، ولكنه يكتشف أن الله (عز وجل) يخبئ له أمراً ما فى نهاية المطاف. بالطبع فقد وضعت الدولة الإيطالية أمامنا العديد من العراقيل للدخول إليها، ولكن الأمر أفضل بالنسبة إلينا من أن نعيش فى خضم الحرب." جاء هذا على لسان نور وحسن وقد اعتراهما ذلك الشعور بالراحة والطمأنينة.
شعور بالضياع
لاشك أن هناك شعوراً بالسعادة مثل هؤلاء البشر كونهم بعيدين عن الخطر، ولكن مازال الشعور بالضياع يملأهم بسبب ابتعادهم عن أفراد عوائلهم الذين مازالوا داخل سوريا.
أما فيما يتعلق برامي وسهيلة، فقد وصلتهما بعض الأنباء غير السارة عن طريق فيسبوك والتى تمثلت فى مقتل اثنين من أبناء أصدقائهما فى سوريا، أحدهما قُتل فى أحد الانفجارات، والآخر قطعت داعش رأسه. ويقول رامي "إن الأمر أشبه بالشجرة التى قد تُنقل لحديقة أخرى غير التي نمت فيها، ومع ذلك تظل جذورها تنتمي إلى المكان الذي زُرعت فيه أول مرة".
"ربما نتمكن من العيش فى سعادة"، كان هذا رد حسن على السؤال الذى وُجه له بخصوص شعورهم بالسعادة من عدمه كونهم تمكنوا من الدخول لإيطاليا والعيش فيها، وتقول نور وهي تومىء برأسها "أعتقد أننا قد نشعر بالأمان هنا، قد نشعر بالاستقرار والأمن، وأما عن السعادة فأعتقد أننا قد نشعر بها بطريقة أو بأخرى."
تمكّن حسن ونور من الذهاب لبعض المعالم السياحية، مثلهما فى ذلك كسهيلة ورامي، مثل كاتدرائية القديس بطرس، والكولوسيوم، و حمامات كاراكالا. وكونهم مازالوا وافدين جُدداً، فإن فكرة الخروج من المأوى كل يوم والذهاب إلى مناطق المزارات السياحية مع الحشود الأخرى قد تبدو غريبة بعض الشيء.
"هل تشعرون بنفس الشعور الذى ينتاب السياح والمحليين هنا، أم أن هناك شعوراً مختلفاً؟" وقد أجاب حسن ضاحكاً "لا أعلم"، فيما تنهدت نور ثم قالت "زائرون، زائرون لكن..... " ، ثم قاطعها حسن قائلاً "ربما فى المرة القادمة"، وإذ فجأةً تلتفت إليه نور، كما لو أنها تذكرت شيئاً ما وقالت "حسناً، نحن هنا الآن."
واستطرد حسن قائلاً "نعم نحن هنا، وكل ما نفكر فيه الآن هو مسألة اللغة"، وقد علقت نور على هذا الأمر وهي تومىء برأسها وتضع يدها على ذراع حسن "إنها العقبة الأولى أمامنا هنا، ولكن الشيء الأهم هو شعورنا وشعور أولادنا بالأمان هنا."