إلى أي مدى يمكن أن ترتفع مياه البحار بسبب التغير المناخي؟ إستمع
إذا استمر التغير المناخي بالوتيرة الحالية نفسها، فربما نتوقع ارتفاعًا كبيرًا في منسوب مياه البحر في القرن الحالي، وسيزداد الأمر سوءًا في القرون القليلة المقبلة.
لم يكتشف العلماء قبل بدايات القرن العشرين أن مناسيب مياه البحار آخذة في التزايد. فقد لاحظ بينو غوتنبرغ، عالم جيوفيزيائي، أثناء قيامه بتحليل البيانات من أجهزة قياس المدّ والجزر، منسوب مياه البحر سجل ازديادًا على مدار نحو قرن. ويقول جون كراستنغ، عالم فيزيائي في مختبر ديناميات الموائع الجيوفيزيائية التابع للإدارة الوطنية الأميركية للمحيطات والغلاف الجوي: "يُعزى ارتفاع منسوب مياه البحار في العالم، على مدار القرن الماضي، بشكل رئيسي إلى التمدّد الحراري لمياه المحيطات (أي تغيّر منسوب الماء نتيجة لتغير درجة حرارته)".
لكن ثمة مشكلة أخرى أكثر سوءًا، وتكمن في ذوبان الأنهار الجليدية والصفائح الجليدية ما قد يؤدي إلى تدفق كميات هائلة من الماء في المحيطات. فما حجم الأضرار التي سيسببها هذا الأمر؟
وللإجابة على ذلك، يجب دراسة التغيرات التي طرأت على مناسيب البحار سابقًا. وتقول مورين رايمو، عالمة المناخ الشهيرة بمرصد لامونت دوهيرتي الأرضي التابع لجامعة كولومبيا: "كانت درجات حرارة العصر البليوسيني، بحسب التقديرات، أعلى درجتين إلى ثلاث درجات مئوية عن درجات الحرارة التي تسبق الثورة الصناعية، أي أنها كانت أعلى درجة إلى درجتين مئويتين عن درحات الحرارة اليوم".
وهذا يعني أن درجات الحرارة التي كانت سائدة فيه قريبة من الحد الذي قررت الحكومات في قمة باريس للمناخ العام الماضي ألا تزيد عنه درجات الحرارة، أي درجتين مئويتين.
والمخيف أن في منتصف العصر البولسيني، كانت مناسيب مياه البحار، على أفضل التقديرات، أعلى بما يتراوح بين 10 إلى 40 مترًا عن المنسوب الحالي.
وتقول رايمو: "يتضح من السجل الجيولوجي أن ارتفاع درجة حرارة الأرض على هذا النحو سيؤدي حتمًا إلى ارتفاع منسوب البحر بشكل ملحوظ".
ولكن ليس ما يقلقنا هو حجم التغير في منسوب البحر فحسب، بل أيضًا السرعة التي يتغير بها. فقد توصلت دراسة نُشرت في آذار 2016 إلى أن منسوب مياه البحر ارتفع في القرن العشرين بوتيرة لم يسبق لها مثيل منذ 27 قرنًا.
ويقول روبرت كيب، عالم مناخ بجامعة روتغرز، والناشر الرئيسي لهذه الدراسة: "تشير السجلات إلى أنه من المرجح بنسبة 95 في المئة أن منسوب مياه البحار لم يرتفع منذ ألفين و800 عام مضى على الأقل بالسرعة التي ارتفع بها في القرن العشرين".
وبيد أن هذا الدراسة لا تخبرنا إلى أي مدى من المتوقع أن يرتفع منسوب مياه المحيطات في المستقبل؟ فإننا لن نتمكن من اتخاذ التدابير اللازمة لتخطيط السواحل من دون معرفة هذه المعلومات.
وكان هذا السؤال الأخير محل نظر ورقة بحثية نشرت في الوقت نفسه، استعان فيها الباحثون بعمليات حسابية معدلة للتنبؤ بمدى ارتفاع منسوب المياه وتوصلوا إلى أننا قد نتوقع ارتفاع منسوب المحيطات على مستوى العالم بما يتراوح بين 50 و130 سنتيمترًا عن المستوى الحالي بنهاية هذا القرن، ما لم تقل انبعاثات غازات الدفيئة بشكل سريع.
فإلى أي مدى سيصل منسوب البحار؟ تقول رايمو مفسرة: "نظريًا، إذا ذاب الجليد الموجود على كوكب الأرض بأكمله، سيرتفع منسوب مياه البحر نحو 55 مترًا"، ولكنها أضافت أن هذا من غير المتوقع أن يحدث في أي وقت قريب. فهل يمكن أن نبطِّئ من وتيرة ارتفاع منسوب مياه البحر؟
يقول كوب: "لكي نحدّ من سرعة ارتفاع منسوب مياه البحار، علينا أن نوقف ارتفاع درجة الحرارة، وهذا يعني أننا يجب أن نتوقف تدريجيًا عن استخدام الأجهزة التكنولوجية التي تؤدي إلى انبعاث ثاني أكسيد الكربون".
إلا أن ثمة أفكار أخرى اقترحها بعض العلماء للحدّ من سرعة ارتفاع منسوب مياه البحر، كان من بينها ضخ مياه من المحيط إلى القارة القطبية الجنوبية لكي تتجمد مرة أخرى.
وقد خصص العلماء في معهد بوستدام لأبحاث أثار التغير المناخي دراسة نُشرت في أذار 2016 للبحث في جوانب هذه الفكرة الهندسية الجيولوجية الغريبة، وتوصلوا إلى أن الماء الذي سيُضخ سيتجمد بالفعل، كما هو مُخطط، ولكن الوزن الذي سيضيفه إلى الغطاء الجليدي في القطب الجنوبي قد يؤدي إلى تسريع تدفق الجليد إلى المحيط.
وفي كل الأحوال، إذا أردنا الحفاظ على معدلات ارتفاع منسوب مياه البحر في مستويات معقولة، يجب الحدّ من انبعاثات غازات الدفيئة.
ولكي تستشعر مدى جسامة الموقف، فإن البشر قد واجهوا المصير نفسه في نهاية العصر الجليدي الأخير، وقد خلّف ذلك أثرًا كبيرًا، إلى حدّ أن القصص التي رويت عنه لا تزال تتناقلها الألسن حتى يومنا هذا.
فقد كان منسوب مياه البحر، في ذروة العصر الجليدي الأخير، أي منذ 20 ألف سنة مضت، أقل بواقع 120 مترًا عن المنسوب الحالي، إذ كانت الصفائح الجليدية والأنهار الجليدية تختزن كميات هائلة من مياه البحر.
ومع ذوبان الجليد، أخذت البحار في الارتفاع بوتيرة متسارعة، ولم يستقر منسوب البحار إلا منذ نحو 8 آلاف سنة، وقد تراجعت حينذاك خطوط الشواطئ في بعض المناطق لمسافة تزيد عن 100 كيلومتر.
لذا، فلا مفرّ من الاعتراف بأن التغير المناخي الذي تسبب فيه البشر، وما ينجم عنه من ارتفاع في منسوب مياه البحر، يعيد الأن رسم خطوط السواحل في العالم، كما حدث من قبل، وستتحمل الأجيال القادمة تبعات ذلك.