لماذا لن تتمكن امريكا من إيقاف الحرب في سوريا؟
جو 24 :
من بين كل العقبات التي تواجه جهود الغرب لوقف المجازر في سوريا وتخفيف أزمة اللاجئين، ربما تعد العقبة الأكبر والأصعب هي الاختلاف الجذري بين عمق واتساع مشاركة الولايات المتحدة وروسيا في الصراع.
هناك أيضاً القليل من الغموض حول مدى مصلحة الجانب الأميركي، على الرغم مما قد نسمعه من أن سوريا بالنسبة لإدارة أوباما لا تمثل سوى أمر طارئ مزعج، فُرِض على البيت الأبيض بسبب الظروف، كما أنها لا تتفق على الإطلاق مع الأجندة الاستراتيجية لأوباما. بالنسبة لفلاديمير بوتين، فالحرب في سوريا هي جزء هام من مشروعه الأيديولوجي والجيوسياسي طويل المدى، كما أنها متأصلة في معتقداته الراسخة، وهي مهمة شخصية فرضت نفسها وتعد أيضاً من بين ضرورات السياسة الداخلية لبقاء نظامه.
عقيدة بوتين
بوتين ليس بالرجل الذي تسهل قراءته، فقد تعلم جيداً في مدرسة المخابرات الروسية (الكي جي بي)، ولكن بعد 16 عاماً من العمل بالسياسة، هناك مبدآن مترابطان في عقيدة بوتين يمكن أن نكون متأكدين منهما وهما:
1- كانت نهاية الحرب الباردة بالنسبة لروسيا تعادل معاهدة فرساي بالنسبة لألمانيا- أي أنها كانت مصدراً للذل والشقاء الذي لا ينقطع، حيث نتج عنها انهيار الاتحاد السوفيتي، والذي وصفه بوتين نفسه بأنه أكبر مأساة جيوسياسية في القرن العشرين.
2- استرداد واستعادة الأصول السياسية والاقتصادية والجيوستراتيجية تأتي على رأس قائمة أعمال أي زعيم روسي وطني حقيقي (وليس أحمق أو خائناً أو كلاهما، حيث هكذا يرى بوتين كلاً من ميخائيل غورباتشوف وبوريس يلتسين).
لذلك، فليس من المستغرب بعد عودته للكرملين في 2012 بعدما شغل منصب الرئاسة مساعده السابق ديميتري ميدفيديف أن يتجه بوتين بشدة نحو استعادة الأصول الجيوسياسية، وهو ما يعد جزءاً أساسياً من عقيدته في السياسة الخارجية.
الاقتصاد عامل مؤثر
كانت هناك حاجة روسية قوية وحقيقية لهذا المحور من أجل سياسة خارجية نشطة. وبسبب البيئة الاستثمارية السيئة في البلاد، حدث تراجع في النمو الاقتصادي حتى في الفترة التي وصل فيها النفط لأعلى أسعاره تاريخياً. وحذر خبراء الإقتصاد الروس داخل وخارج الحكومة من أن الاقتصاد الروسي لن يحقق نسبة نمو 8 إلى 10% في الدخل الفعلي كما تحقق في الفترة من 2000 إلى 2008، والتي ساهمت في تكوين الشعبية الجارفة لبوتين. يصف أليكسي كودرين، وزير المالية الروسي السابق والصديق الشخصي لبوتين، ما حدث بأن الاقتصاد قد اصطدم بـ"جدار مؤسساتي".
وعلى الرغم من أن روسيا نجحت في تحقيق أعلى عائدات للنفط في تاريخها في الفترة من 2010 إلى 2014، كانت الزيادة في الناتج الإجمالي للبلاد تقل تدريجياً، كما ازداد خروج رؤوس الأموال من البلاد، ووصلت الاستثمارات إلى طريق مسدود. دائماً ما كشفت استطلاعات الرأي عن نظرة الروس للسلطات على جميع المستويات، حيث وصفوها بالفاسدة والقاسية وبأنها لا تملك الكفاءة. الأكثر إثارة للقلق بالنسبة للنظام هو شعبية بوتين، والتي كانت ومازالت أساس شرعية النظام، حيث تراجعت شعبيته بمقدار الثلث تقريباً في الفترة بين 2008 و2011.
ودعا كودرين إلى تغيير في النموذج الاقتصادي للبلاد، وهنا يتمثل كابوس بوتين: بيريسترويكا (إعادة البناء بالروسية) غورباتشوف، وهي الإصلاحات التي حاول غورباتشوف القيام بها في محاولة لتحقيق التحرر الاقتصادي، إلا أنها قادت في النهاية إلى أزمة سياسية كبرى وانهيار النظام في النهاية.
وبسبب هذه المخاوف، وليتمكن من إجراء إصلاحات تحررية مؤسسية، أخذ بوتين القرار الأكثر مصيرية في تاريخه السياسي، وهو قيامه بتحويل قاعدته الشعبية –وبالتالي نظامه بالكامل- من تحقيق تقدم اقتصادي ونمو مطرد للدخول، واتجه نحو ما يمكن أن نسميه بالتعبئة الوطنية.
ماهي "التعبئة الوطنية"؟
تستند هذه السياسة الجديدة على روايتين دعائيتين متشابكتين يستخدمهما النظام. الأولى هي أن الغرب –وتحديداً الولايات المتحدة- غير راض بسبب صعود روسيا، وأنه –الغرب- أعلن حرباً على موسكو ليحافظ على هيمنته العالمية.
أما الرواية الثانية هي أنه على الرغم من التهديدات التي تتلقاها روسيا من كل الجوانب من قبل أعدائها الحاقدين، فليس لديها ما تخاف منه طالما كان بوتين على رأس السلطة، فهو لن يكتفي بحماية البلاد فقط، بل سيعمل أيضاً من أجل تعافي حالة الاتحاد السوفيتي ليعود لهيبته ومكانته من جديد.
على شاشة التلفزيون الوطني، والتي يتلقى من خلالها أغلب الروس الأخبار، يتم تناول السياسة الخارجية على كونها تحقق نجاحات مبهرة وترسم مشهداً رائعاً. تبع هذه السياسات ضم شبه جزيرة القرم والحرب الهجينة في أوكرانيا.
اشتعلت الحماسة الوطنية أمام هذه الانجازات، وأمام المساهمة في تشكيل الأحداث عالمياً بقوة في الوقت الذي تتصرف فيه روسيا كثقل أخلاقي واستراتيجي موازن للولايات المتحدة، وهو ما حجب على ملايين الروس الواقع الاقتصادي القاتم، وقمع المعارضة.
بوتين مروّض النمور
تمكن بوتين من ترويض ذلك الحماس الوطني والذي يشبه النمر الجامح وإخضاعه لسيطرته، إلا أن المشكلة في هذا النمط هي أن ذلك النمر يحتاج للمزيد من اللحم، وأنه كلما زادت الدماء كان أفضل.
لذلك، عندما بدأت الحرب في أوكرانيا– والتي كانت تمثل اللحم- بفقدان طعمها، تحول بوتين نحو سوريا. في 20 أكتوبر/تشرين الأول 2015، صافح بوتين الرئيس السوري بشار الأسد في الكرملين وعلى شاشات التلفزيون الوطني، وفي ليلة واحدة أصبحت سوريا بديلاً لأوكرانيا كأرض للمعركة الروسية. وبحسب مراسل نيويورك تايمز في موسكو، فقد تم الاحتفاء بالأسد على التلفزيون الروسي، وعليه فقد أصبح إنقاذ عميل الاتحاد السوفيتي القديم من نيران المعارضة وتنظيم الدولة الإسلامية واجباً سياسياً داخلياً.
وبالنظر لتلك المخاطر، فليس من المفاجئ أن يصبح التواجد الروسي في سوريا مفتوحاً، كما خُصِصت له العديد من الموارد اللازمة لتحقيق الأهداف المرجوة.
دورة صيانة
لم يكن الانسحاب المزعوم لروسيا من سوريا أكثر من دورة للصيانة وتعديل العمليات. يقول القائد السابق للقوات الجوية الروسية فلاديمير ميخائيلوف "نحن لن نسحب كل قواتنا من سوريا، ولكن سنسحب القوات التي لا نحتاج لها في الوقت الحاضر والعمليات الحالية"، كما أن تلك المعدات والأفراد الذين تم سحبهم من الممكن إعادتهم "في غضون ساعات" بحسب ما قاله بوتين.
تواصل روسيا حتى الآن دعم نظام الأسد من خلال الضربات الجوية، ومنظومة إسكندر الصاروخية التكتيكية، بالإضافة إلى دعم المدفعية والمخابرات.
رئيسهم يتصل برئيسنا
في هذا السياق يجب أن ننظر أيضاً إلى الدعوات المستمرة من الرئيس الأمريكي باراك أوباما لبوتين وزيارات وزير الخارجية الأمريكي جون كيري إلى موسكو للبحث عن أرضية مشتركة، فهي أسوأ من كونها غير مجدية، حيث يتم استغلالها بدرجة مبالغ فيها في الإعلام الروسي، ففي كل مكالمة مماثلة، ومع كل زيارة لكيري، تزداد شعبية النظام محلياً، فإذا كان قادة الولايات المتحدة –وهي الدولة الوحيدة التي تشغل الروس تماماً كأيام الاتحاد السوفيتي- يتصلون بك، ويأتون لرؤيتك، ويرجونك، فهذا يعني أنك الأمة الأكثر أهمية في هذا العالم. كتب أحد المحللين السياسيين الروس المستقلين قائلاً "لا يهم ما تحدث عنه بوتين وأوباما أو ما توصلا إليه من نتائج، الأهم هو أن رئيسهم يتصل برئيسنا".
تناولت وسائل الإعلام الروسية لفترة طويلة شكر كيري لبوتين على مقابلته، وهو ما فعله في مؤتمر صحفي بعد رحلته إلى روسيا في سوتشي العام الماضي. أعادت القنوات التلفزيونية اللقطة التي يقوم فيها بوتين بوضع يده على كتف كيري والتي وجه له الحديث فيها كما لو كان يتحدث مع طفل أو مع أحد مرؤوسيه.
حلب غروزني جديدة!
بعد ذلك أتت مفاوضات وقف إطلاق النار التي كانت أشبه بتمثيلية قادتها مجموعة دولية وحضرها وزراء خارجية، عقدت أغلب اجتماعاتها في فيينا في أغسطس/آب حيث طالبوا بوقف قصف طائرات الأسد للمدن السورية وأيضاً تناولوا عدم قدرتهم على إيصال المساعدات الإنسانية. طوال الوقت، كان كيري يجلس بجانب وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف، والذي بإمكان رئيسه أن يوقف هذه المذبحة في 30 ثانية بمكالمة هاتفية للأسد. بدلاً من ذلك، كانت الطائرات الروسية، إلى جانب القاذفات السورية، تقوم بتحول أكبر المدن السورية –حلب- إلى ركام يشبه ذلك الذي حدث بعد معركة ستالينغراد، ويشبه تماماً أيضاً ما فعله بوتين بالعاصمة الشيشانية غروزني في فترة 1999-2000.
يريد الغرب تحقيق السلام في سوريا، بينما يريد بوتين تحقيق الانتصار، لذلك ربما تسير الأمور بهذه الطريقة: إما أن تهلك المعارضة المدعومة من الغرب، أو أن تُجبر على نزع السلاح كجزء من عملية السلام، وسيواجه الغرب الخيار البغيض بين الأسد من ناحية وبين مزيج من تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" وجبهة النصرة (فرع تنظيم القاعدة في سوريا)، لذلك سينجو نظام الأسد، وفي الوقت نفسه، سيتمكن الروس من استعادة وضعية الاتحاد السوفيتي كلاعب دولي لا غنى عنه ولاعب رئيسي في الشرق الأوسط.
"تك تاك تو"
بلا شك، سيبقى بوتين في سوريا ويقاتل حتى تتحقق تلك الأهداف، إلا إذا تجاوزت تكاليف تلك الحملة النفع المنتظر من ورائها، وحتى الآن، يبدو أن ذلك صعب الحدوث طالما نظرت إدارة أوباما للتدخل الروسي بنفس النظرة الحالية، وكما قال كيري في نهاية مارس/آذار الماضي "لا أرى أي تهديد في كون روسيا لديها تواجد أكبر في سوريا، بينما نحن لا نرغب في وجود قاعدة، نحن لا نبحث عن تواجد طويل المدى".
بالنسبة لبوتين، الحرب في سوريا ليست بالمخاطرة الكبيرة، في حين أن الربح من ورائها كبير، كما أنه من الواضح عدم وجود نية لواشنطن للتحرك على مدى واسع في الاتجاه المعاكس، في حين أن أوروبا قامت بما لديها من فرض العقوبات على روسيا بعد ضم شبه جزيرة القرم وحرب أوكرانيا.
روسيا تلعب الشطرنج في سوريا، وسيكون من المبالغة القول بأن الولايات المتحدة تلعب لعبة الداما في المقابل، حيث سيكون ذلك مبالغةً في تقدير التزامها الفكري والأخلاقي والعسكري تجاه سوريا. لذلك، ربما الوصف المناسب هو أنها تلعب لعبة "تيك تاك تو".-(هافينغتون بوست)