أجواء رمضان في القدس يوم امس
القدس زهرة المدائن ومسرى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، مازالت تحتفظ بمكانتها، رغم ما تتعرض له من انتهاكات وتدمير، ومحاولات للتهويد من قبل الاحتلال الإسرائلي، فقد أبت المدينة المقدسة بشدة أن تتخلى عن هويتها وعروبتها وقداستها، فمع قدوم شهر رمضان المبارك يستشعر القادم إلى هذه المدينة المقدسة ببركة وعبادة وفضل شهر الرحمة.
فيما يعيش القادم إلى القدس بين أزقتها وحاراتها شهر رمضان بجماله، فالفوانيس تزين مداخل البلدة القديمة وأبوابها، حيث يبدأ الاستعداد للشهر الكريم قبل قدومه بأيام عدة، وخير دليل على ذلك شارع السلطان سليمان، وشارع صلاح الدين وأزقة البلدة القديمة وأبواب المسجد الأقصى خصوصاً باب العامود، فالمارّون تستوقفهم الأجواء الرمضانية، وبضائع المحال التجارية.
المشهد الرمضاني في القدس له رونقه الخاص، فقبل موعد الإفطار بنصف ساعة ترى معظم المقدسيين في حركة دؤوبة، هذا يسرع للحانوت ليشتري المخللات، وذاك يركض ليشتري الحلويات، وما إن يتقدم بهم الوقت حتى يبدأون بالدخول إلى منازلهم، حتى لا يبقى في الشارع سِوى بضعة أطفال ينتظرون أن يسمعوا أصوات الأذان، فإن شعروا بأنه قد تأخر لفرط جوعهم، تراهم ينادون للأذان بأنفسهم، ويستمرون على هذه الحال حتى ينادي المؤذن معلناً موعد الإفطار.
«الإمارات اليوم» تجولت بين أسواق وأزقة البلدة القديمة في القدس، حيث تصطف البسطات المختلفة طوال أيام الأسبوع، التي تتزين بكل ما تشتهي الأعين من أصناف الحلويات المختلفة، وعلى رأسها القطايف، إلى جانب المشروبات الرمضانية المعروفة والمتنوعة، ومنها الخروب، والتمر هندي، وقمر الدين.
ويقول محمود ناصر الدين صاحب أحد المحال التجارية في بلدة القدس القديمة «نستعد لاستقبال شهر الرحمة كي ندخل السرور إلى قلوبنا وقلوب أطفالنا بعد العناء الذي نواجهه من المحتل الإسرائيلي الذي يحاول بشدة قتل فرحتنا واستعدادنا لرمضان، ولكن إصرارنا يشعل فينا البقاء والتحدي من أعماقنا».
فرحة مسلوبة
في ساعات الليل الأولى حيث وقت صلاة التراويح ترى المصلين يتوافدون من كل مكان، رجالاً ونساء وأطفالاً إلى باحة المسجد الأقصى للصلاة داخلها، متحدين جميع الممارسات من قبل المحتل الذي يحاول منعهم من إقامة شعائرهم الدينية.
وعن ذلك يقول المقدسي أبوإياد العمري «أصطحب أبنائي وزوجتي برفقة جيران الحي لصلاة التراويح في المسجد الأقصى لما لها من نهكة دينية مميزة، حيث نقف جميعنا لهدف واحد هو إرضاء الله، وتتعالى أصواتنا بالدعاء إليه بنصرة بيته وتحريره من دنس الاحتلال».
ويضيف «بعد انتهاء الصلاة أصطحبهم إلى أماكن بيع الحلويات المقدسية الشهية، وشرب العصائر الطبيعية في الطرقات المؤدية إلى منزلنا، وأحياناً أزور الأرحام والأقارب والأصدقاء، فنحن ننتظر رمضان في كل عام كي يعيد لنا فرحتنا المسلوبة بفعل ممارسات الاحتلال، حيث نشعر بقهرهم حين يشاهدون قوة صمودنا وإرادتنا وتحدينا لهم».
أما المواطن طارق دياب، فرغم الفرحة التي يعيشها بقدوم شهر الخير إلا أن هذه الفرحة تمتزج بالألم بفعل ممارسات الاحتلال التي تنغص عليهم أجواء رمضان، وعن ذلك يقول بصوت حزين «إن ممارسات الاحتلال الإسرائيلي المتواصلة تنغص فرحتنا بشهر رمضان، حيث تمنع المقدسيين من دخول المسجد الأقصى المبارك لإقامة الشعائر الدينية، وإقامة الإفطار الجماعي في باحات المسجد، ولكننا لا نخضع لهم، فنقوم بالصلاة في الخارج نوعاً من التحدي، وتهميش لسياستهم القذرة».
هذا التحدي الذي يتحلى به سكان القدس تجسده الحاجة الستينية أم بلال المقدسي، التي تحرص على الصلاة بشكل يومي بالمسجد الأقصى المبارك، فمجرد أن تدوس قدمها المسجد وتتخذ مكانا لها لقراءة القرآن حتى تستشعر بلذة شهر رمضان.
وتستذكر أم بلال أجواء رمضان في السابق قائلة «ساق الله أيام زمان لما كنا ندخل ونطلع كيف ما بدنا، أما الآن فنحن ندخل كأننا لسنا أصحاب حق، يمارسون معنا جميع سياسات المنع والهجوم، ورغم ذلك لا نستسلم لهم».
وانتقلت أم بلال في حديثها عن تزيين أبنائها وأحفادها للمنطقة التي تسكن فيها، حيث يُعلق فانوس كبير عند مدخل الحارة، ومازالوا يحافظون على عاداتهم المقدسية ومنها مدفع رمضان.
وتشاركها الحديث جارتها الأربعينية أم هيثم التي تعمل في إحدى المؤسساتِ الخيرية التي تسهم في عملِ حملات رمضانية ضخمة تحمل عناوين مختلفة، حيث تقول «هكذا هم المقدسيون، لم يغيّرْهم أي شيء، ولا يؤثر فيهم أي طارئ، يلهثون للمشاركة في هذه الحملات لمساعدة إخوانهم المقدسيين نجدهم يتكاتفون صفاً واحداً، قلوبهم مؤلفة على الحب والعطاء والتعاون».
مكانة مقدسة
وإذا كانت إجراءات الاحتلال الإسرائيلي المتمثلة في إقامة جدار الفصل العنصري وإقامة الحواجز، التي حرمت سكان الضفة الغربية وقطاع غزة من دخول مدينة القدس والصلاة في المسجد الأقصى المبارك، فإنّ اللهَ عز وجل قد سخَّر لها من عباده من يقيم الصلوات في مساجدها، وهم سكان القدس وبعض سكان الأراضي المحتلة الـ 48 الذين يسمح لهم بالدخول إلى القدس. وتحتل القدس مكانة مقدسة لدى الفلسطينيين، فشيخ الأقصى رائد صلاح رئيس الحركة الإسلامية في الأراضي الفلسطينية المحتلة يواجه المتاعب والمِحن بإصرار يتضاعف من أجل الدفاعِ عن القدس، فيما تنظم مؤسسة الأقصى لإعمار المقدّساتِ الإسلامية رحلات مستمرة لأولى القبلتين. رحلة البيارق نموذج حي يقوم به الفلسطينيون من الأراضي المحتلة عام 1948، حافلات تنطلق يومياً وهي تحمل الآلاف من الفلسطينيين إلى المسجد الأقصى، يحضرون من كل مكان للصلاة فيه، رغم ما يواجههم من مصاعب ومتاعب، وينتشرون في كل ركن وزاوية، يحضرون الدروس والخُطب، ويصلون ما يشاؤون من نوافل وفروض.
ممارسات تعسفية
مع اقتراب الشهر الكريم تشتكي مقدسات المدينة المقدسة من إجراءات الاحتلال التعسفية، ومنها تدنيس المساجد وهدم بعضها، فمسجد محمد الفاتح بحي رأس العامود في بلدة سلوان جنوب المسجد الأقصى المبارك هو المحطة الجديدة في دائرة الاستهداف الإسرائيلية، حيث تكثف بلدية الاحتلال بالقدس من مخططاتها لهدم المسجد التاريخي، الذي بني في عام 1965 على أرض وقفية، وبتصاريح بناء أردنية.
فيما تقوم عناصر الشرطة الإسرائيلية بتنفيذ أوامر هدم قضائية، والتوجه إلى المسجد أسبوعيا ويهددون أعضاء لجنة إعمار المسجد بالملاحقة القضائية في حال استنكفوا عن هدم القسم الجديد بأنفسهم، وذلك بذريعة البناء غير المرخض، بعد أن قامت لجنة المسجد قبل ثلاث سنوات بتوسيع المسجد لعدم اتساعه للمصلين الذين يضطرون في غالب الأوقات إلى الصلاة خارجه.