الموت يُفجع الدراما السورية
عاش رياض شيا (مواليد السويداء العام 1954) حياته كما شغفه بالسينما التي أحالها إلى موضوع بحثٍ دائم، ففيما انتصر للعيش بفضول نحو كل ما تراه عيناه ويسمعه بقلبه، ظل المخرج السوري الذي أطفأ المرض روحه أمس في أحد مستشفيات باريس عن عمر يناهز اثنين وستين عاماً؛ وفياً لفكرة الحفر بصرياً عن سينما خاصة؛ على خلاف ما حاول بعض النقاد إلباسه مرجعية تأثره بسينما الفرنسي "روبير بريسون"، أو الأرمني - الروسي "بارادجانوف"، أو حتى البرازيلي "ماريو بيكسوتو". إذ كان رياض شيا نسيجا وحده من جهة التأمل في كيمياء الصورة - اللوحة ومستويات صياغته لها عبر جعلها كأرشيف شخصي موازٍ عن حياة الهامش والبيئات الثقافية المحرّم تناولها على الشاشة الكبيرة.
هكذا لم يمر المخرج السوري باختبار إنجاز فيلم قصير بعد تخرجه عام 1982 من "المعهد العالي للسينما" (فغيك) بموسكو؛ بل انتزع فرصة إنتاج فيلمه الروائي اليتيم "اللجاة" (1994) من المؤسسة العامة للسينما بعد اشتغاله كمساعد مخرج ومستشار في فيلمي "نجوم النهار" لأسامة محمد و "الطحالب" لريمون بطرس، مسجلاً لقطة طويلة عن بيئة صخرية بركانية، منعزلة وصامتة كانت تُعتبر ملجأً للثوار الهاربين أيام الاحتلال العثماني.
هنا وجد ابن جبل العرب الفرصة مواتية لتسجيل بصمته الخاصة بلغة بصرية رتابتها صنو هويتها البطيئة، كاميرا مستغرقة في استعراض المكان وجس تمويهاته الاجتماعية والرمزية، ليصوغ عن رواية "معراج الموت" لممدوح عزام الذي تشارك معه كتابة السيناريو شريطه الأول والأخير، سارداً حكاية "سلمى" (حنان شقير) المرأة الأقرب إلى نموذج "آنا كارنينا" سورية تهرب مع حبيبها (حليم) من بيت عمها بعد أن يتركها زوجها، لتعود وتقع في قبضة عائلتها التي تعيدها مرةً أخرى إلى البيت، منهيةً أملها بالخلاص من أسر الشعائر والعادات النهائية.
الفيلم الذي مرّ تحت رقابة المرجعية الدينية لجبل العرب، كان مثار جدل وقتها من جهة تطرقه لعادات وتقاليد بيئة لم يتم تناولها من قبل بهذه الجرأة والشاعرية المتناهية، ربما هذا ما جعل رياض شيا دائم البحث بعد هذا الفيلم عن تجربة ثانية لن تبصر الضوء، لا من المشاهدات المطولة التي صوّرها برفقة صديقه الفوتوغرافي محمد الرومي عن بيئة البدو وضفاف الفرات في الجزيرة السورية، ولا حتى رواية "جهات الجنوب" لممدوح عزام أيضاً التي شغلته لسنوات، ليظل هذا المخرج وفياً للتفكير بمعنى السينما وقدرتها كفنّ على نبش دلالات مغايرة لما هو سائد في الواقع والحياة اليومية، مثله في ذلك مثل تجارب رفاق عمره من سينمائيين سوريين آثروا تخليص أفلامهم من عناصر مفروضة عليها معتنين بالتشكيل والموسيقى وأداء الممثل إلى حد التخفيف منه لمصلحة جعله عنصراً في لغة تتجاوز المشهدية ذات الدلالة الأحادية في التعبير والتواصل، نحو تكوين فهم خاص عن الإنسان في المكان.
أواخر التسعينيات كان رياض شيا قد عقد العزم على تحقيق فيلم مقتبس من أجواء الممثلين العاملين في استوديوهات الدوبلاج؛ لكن حتى هذا الحلم لم يتبلور بما يكفي، ليمر الزمن سريعاً وصولاً إلى سنوات التقاعد الأخيرة التي آثر فيها الرحيل إلى باريس عام 2012، تاركاً ذكرياته مع أصدقائه وندمائه بعد اشتداد وطأة الحرب في البلاد، وحاجته للمعالجة من السرطان الذي أصاب حنجرته بعدما تراكمت فيها صرخات كثيرة لم يبح بها حتى في أفلامه المؤجلة.