خرجت سابين من عيادة الطبيب وفي جعبتها حقيقةٌ صارخة... أغرب قصّة لعائلة لبنانية اختفت 9 أشهر عن الأنظار
جو 24 :
سنون مرّت، انتظرت فيها سابين تلك اللحظة، أن تزفّ الخبر السعيد لزوجها بعد يومٍ مضنٍ في العمل. تلاقيه أمام الباب وتركض اليه وتبرق عيناها وهي تقول له: "أنا حاملٌ بولدنا الأوّل". وكانت الأيام تمرّ، وسابين تنظر في صور العرس وتعود في شريط الذكريات الى ذلك اليوم وحدها. سنة بعد سنة، الصور بهتت. كأن حبّها بات يحتاج جديداً ينتشلها من حضيض الروتين. تبحث عن تعويضٍ أو فكرة او خطوة، تعيد الحرارة لعناق الأيدي وتصادم النظرات. لكن ذلك كان صعباً وغرفة الأولاد التي حلمت في اختيار تفاصيل زواياها بنفسها، لا تزال فارغة. ينقصها بكاء مشاكسٍ صغير يوقظ الماما من غفوتها بعد منتصف الليل.
كان لا بدّ من اللجوء الى الطب لمعرفة الخبايا الكامنة وراء الفشل في الإنجاب. خرجت العروس الجديدة من العيادة، وهي تعلم أن إمكان حملها جنينها في أحشائها شبه مستحيل، نظراً إلى مشاكل صحيّة صعبة تعانيها في رحمها. منذ ذلك اليوم، كان لا بدّ لصفحةٍ جديدة أن تبدأ في حياة الثنائي المثقل بعبء الحقيقة. تردّد على مسمعهم أن لا شيء يستحيل على الطبّ. سمعوا أن في لبنان حالاتٍ مماثلة أقدموا على اجراءاتٍ غير مألوفة، ونجحوا في عمليّة الانجاب. انها مسألة استئجار رحم امرأةٍ غريبة، تحمل في أحشائها جينات الأم والأب البيولوجيين، وبعد 9 أشهر من الحمل، تعيد الأم الحاضنة الولد كأمانةٍ الى والديه.
الأصداء التي تلقّاها الزوجان من الأهل كانت مشجّعة. حصل ذلك بعد بحثٍ حثيث حول مضمون الفكرة. وجدا حينها أن إمكان اجراء العمليّة في لبنان ممكنة في الخفاء. "هذا دكتورٌ آدمي. ينظر في وضعكما ويقبل اجراء العمليّة ويراعي وضعكما الماديّ. يبقى تأمين المرأة الحاضنة المتبرّعة". رغم عدم وجود مواد قانونيّة واضحة حيال المسألة في لبنان، بيد أن الأجواء العامّة تقول إنها ممنوعة وغير مستحبّة مجتمعيّاً.
"في لبنان كلّ شيء يحصل. لكن لا احد يستطيع ان يجزم الى أي مدى هذه الظاهرة منتشرة لأنها تصير في الخفاء. هي مسألة شخصيّة حيث يتم التلاعب على المجتمع كلٌّ بحسب أفكاره وطريقته الخاصّة. الأمر يحتاج تجاوباً من طبيب ومستشفى معينين. وبالتالي ثمة الكثير من الأساليب التي يمكن اعتمادها للوصول الى نتيجة". بهذه العبارة، يروي اختصاصي في الجراحة النسائية والتوليد، فضّل عدم الافصاح عن اسمه، خبايا اجراء عمليّة استئجار الرحم في لبنان. هو نفسه الذي سرد في حديثٍ لـ"النهار" تفاصيل قصّة سابين.
كان أمام المرأة التواقة الى طفلٍ يكفل لها لقب ماما خيارات عدّة. حتّى إنهم قالوا لها بأن تستغلّ الظرف اليوم قبل الغد: "اختاري امرأةً مسكينة، واعطيها "قرشين" مقابل استئجار رحمها وكلّ شيءٍ يحصل بسهولة". فكرةٌ ساذجة أخرى أشبه بأحداث المسلسلات المدبلجة: "تظاهري بالحمل. وفي الأشهر الأخيرة غيبي عن الأنظار او اخدعي الآخرين بمظهرك". وبعد أخذٍ وردّ، وجدت سابين أن إمكان اجراء العمليّة في لبنان متاح في السرّ، وهي وثّقت حدوثها بعد نماذج وطروحات عدة عرضت عليها. لكنّها قرّرت عدم فتح باب السجالات القانونيّة عليها، خصوصاً ان القانون اللبناني غير واضح مباشرةً حيال المسألة.
الطبيب المقرّب من العائلة نصحهما بحسب ما يشير بعدم إجرائها في لبنان، بل السفر الى بلدٍ أجنبيّ حيث المسألة قانونيّة ومضمونة. وهكذا حصل. سافر الزوجان بعدما استدانا مالاً لاجراء العمليّة وتحمّل تكاليف الإقامة، خصوصاً أن النفقات الطبيّة في البلدان الغربيّة باهظة مقارنةً بلبنان. اختفيا أكثر من 9 اشهر، بعدما تعرّفا على الحاضنة الأجنبيّة وتمّت العمليّة. حصل كلّ شيءٍ على ما يرام، فعادا الى لبنان ومعهما مفاجأة سارّة. انها ابنتهما التي ولدت فجائيّأً أثناء رحلة عمل. هذا ما صرّحا به للمحيط الاجتماعي في لبنان.
اجراءات المستشفيات في لبنان
النقطة الأبرز في قصّة سابين، هي أنها اختبرت إمكان الخضوع للعمليّة في لبنان رغم غرابة الحالة، لكنها رفضت. هذا ما يطرح علامات استفهام حول موقف الأطباء والمستشفيات اللبنانية حيال هذه المسألة الشائكة. الاختصاصي في الجراحة النسائية والتوليد الدكتور و. ز. يشرح في حديث لـ"النهار" كيفيّة قيام عمليّة استئجار الرحم وتفاصيلها، مؤكّداً أنه لم يقدم على اجراء هذا النوع من العمليّات أبداً. يقول: "السبب الأكثر شيوعاً لاستئجار الأرحام يتمثّل باستئصال المرأة لرحمها لعوامل صحيّة معيّنة من خلال عملية جراحية، دون أن يؤثّر ذلك على مبيضها. او ربما نظراً لمعاناتها من مشكلة ما، لا تسمح للولد بالتكوّن في رحمها. وغالباً ما تكون المرأة التي تقدم على هذه الخطوة في عمرٍ صغير، وترغب في تكليل زواجها بولدٍ للعائلة. وتعيش الأسرة هنا مرحلة نفسيّة مأسويّة، وتعاني ضغطاً كبيراً، فتختار هذا الحلّ". ويتابع: "يجب أن يكون هناك امرأة واهبة للرحم. من الممكن ان تكون حاضنة مستترة لا أحد يعلم هويّتها الحقيقيّة، او معروفة من الأهل. تؤخذ البويضة وماء الرجل من الأبوين الحقيقيين، وتزرع انفيترو في الرحم، ليتشكل الجنين في رحم امرأة أخرى كحاضنة له".
بدوره، الاختصاصي في الجراحة النسائية والتوليد الدكتور ر. ف. يؤكّد في حديث لـ"النهار" أن "الأطباء الذين يقومون بهذه العمليّة في لبنان لديهم مختبر خاص للجينات. أما الذين يعملون في مستشفيات مرموقة فلا يستطيعون القيام بها لأنه حين تنجب المرأة، لا يمكن ان نتلاعب بشهادة الولادة، ولا نستطيع ان نبدّل اسم المرأة التي انجبته". ويفنّد الإجراءات التي تقوم بها المستشفيات في هذا الإطار، حيث يُؤخذ اخراج القيد العائلي ويُسجّل اسم المرأة واسم زوجها اذا كانت متزوّجة. أما في حال كانت عزباء، فيعتبر الولد لقيطاً. وبالتالي استئجار الرحم لا يمكن ان يتم في مستشفيات بارزة في لبنان، بل من يقومون بهذه العمليّة يلجؤون الى مستشفى صغير لاتمام عمليّة الولادة، وعندما يولد الطفل يسجّله الطبيب على اسم المرأة الواهبة للجينات.
تحديث القوانين بدلاً من اتهام الغرب بالفساد؟
على عكس النظرة السلبية التي ترفض فكرة استئجار الرحم، هناك من ينظر الى المسألة من ناحية ايجابيّة يعتبرها انسانيّة. هذا ما يلفت اليه الاختصاصي في الجراحة النسائية والتوليد، الدكتور و. م. في حديثٍ لـ"النهار، مؤكّدا أن "الطب مهنة انسانية يبني خلالها كلّ طبيب علاقة وطيدة مع مريضه كما تبني الأم علاقتها مع جنينها، رغم التجييش الذي يحدث في المجتمع اللبناني ضد الأطباء. وفي حال تعاون الطبيب مع امرأة فقدت رحمها لغرضٍ انسانيّ يحقق لها حلمها في تكوين عائلة، فهو يفعل ذلك لمصلحة الأسرة وليس لمصلحته الشخصية بغية الربح المادي. وهو يتقاضى أتعابه العاديّة كأي حالة امرأة طبيعيّة تلد، وبالتالي الاستفادة المادية لا يمكن ان تكون دافعاً وراء مساعدتها".
لا يعتقد معوّض ان استئجار الأرحام سيتاح بشكلٍ علنيّ في لبنان، ويقارن الموضوع بمسألة التبرع في الأعضاء التي لا تزال شائكة حتى اليوم، نظراً لمنع القانون التبرع بالأعضاء لغير الأقارب. هذا ما يمنع إمكان انقاذ حياة كثيرين، ويدفعهم الى السفر الى الخارج وتحمّل تكاليف باهظة للعلاج. ويدعو الى تحديث القوانين اللبنانية، خصوصاً في ما يتعلّق بموضوع زرع الأعضاء بدلاً من اللجوء الى اتهام الدول الأجنبيّة بالفساد، لأنها هي من تساهم في تقدّم العلم والطبّ. آملاً ان يصل لبنان الى جزءٍ مما وصلت اليه الدول الغربيّة في المجال الطبّي.
موقف الديانات السماوية
ترفض الكنيسة موضوع استئجار الارحام وتركز على العاطفة الانسانية التي ليس من الضرورة ان ترتبط بالناحية الجسدية. هذا ما يؤكّده الأب جورج برباري في حديثٍ لـ"النهار"، معتبراً أن "الزواج في كنيستنا ليس هدفه انجاب الأولاد الذي يعتبر عملية طبيعية للحب الزوجي بين شخصين توافقا وقررا ان يكملا حياتهما معاً ببركة الرب". اما اذا كان الأولاد هم غاية الزواج، فيشير الى انه يمكن الثنائي ان يعيشا حياتهما بملئها دون اولاد، ويعطيان هذه العاطفة الأبوية الى اشخاص يحتاجونها خارج اطار العائلة. وقد وجدنا نماذج كثيرة في حياة ازواج عاشوا الحياة العائلية مع اولادٍ اعطوهم عاطفة الامومة والابوة رغم انهم ليسوا اولادهم في الطبيعة وليسوا اولادهم في التبني".
ويؤكّد ان كلمة استئجار مرفوضة في الكنيسة، لأنها لا تقبل الاتجار بالأعضاء، سواء تمت المسألة من طريق البيع او البدل المالي. وبرأيه ان هذه القضيّة تطرح مشكلة عضوية عايشتها المجتمعات الأجنبية: "هذا الولد ابن من؟ هل امه الحقيقية هي التي اخذ منها الغذاء ام البويضة؟". ويشدد على مشكلة الانتماء التي تطرأ لدى الولد وتكسر شخصيته الانسانية، حيث يعيش انتماء ثلاثياً، مما يؤدي الى اضطراب في شخصيته الوجودية.
بدوره، يؤكّد الشيخ هشام خليفة في حديثٍ لـ"النهار"، ان "الجنين يتشكّل من ماء الرجل وماء المرأة، وبالتالي من الضروري ان تكون الولادة طبيعية بحفظ الماء في رحم المرأة. اما الانتقال من الصورة الطبيعية الى اي صورة اخرى كالتلقيح الاصطناعي او حضانة البويضة، فهي معادلة تحتاج الى تفصيل دقيق لا يجيزه الشرع بالمطلق، ولكن ضمن حالات معيّنة. إما للضرورة القصوى، شرط ان لا يكون بمقابل، وان تكون الامور واضحة حيال مسألة من سيقوم بتربية الجنين. هناك من العلماء من حرّم ذلك اغلاقاً لباب الفتن والمشاكل التي قد يتعرض لها الأزواج عقلاً وعرفاً".
وعن ابرز الاشكاليّات التي قد تؤدي الى مشاكل مستقبليّة، يشير الى مسألة هويّة الأم الحقيقية. ويتساءل: "من هي الأم؟ صاحبة الماء ام التي حملت في بطنها ورحمها الجنين 9 أشهر. وهل سيكون من السهل قطع الرابط العاطفي الذي يقوم بين الحاضنة وجنينها؟". ويروي ان بعض العلماء اعتبروا انه في حال لم تتمكن الأم الأصلية من حمل الجنين، فهذا يعني ان عليها ان ترضى بقدر الله. لكن برأيه أن الحكم النهائي في المسألة يحتاج الى رأي المجامع الفقهيّة، باعتبار انها مسألة جديدة ومستحدثة. وبالتالي، ان اصدار الحكم الشرعي في المسألة يضعها على بساط البحث الطبي والعلمي والشرعي والفقهي.
القانون اللبناني يرفض استئجار الأرحام رغم عدم وجود نص صريح
تبقى نظرة القانون اللبناني الى مسألة استئجار الأرحام لانجاب الأطفال، هي النقطة الفاصلة التي من شأنها أن تحكم في الموضوع. في المبدأ لا جريمة يعترف بها القانون دون وجود نصّ قانوني. هذا ما يؤكّده المحامي ايلي قليموس في حديثٍ لـ"النهار"، معتبراً أن "كلّ الدول التي تعتمد القانون الفرنسي، ومنها القانون اللبناني تعتبر أن لا جريمة دون نص. ولكن هذا الموضوع يمكن ان يأخذه القانون من جوانب عدة. اي جرم ينصّ عليه قانون العقوبات يمكن ان تنطبق عليه هذه الحالة، ومنها الاتجار. ويؤكّد أن "مشروع قانون قدّم الى المجلس النيابي بغية تشريع مسألة استئجار الرحم، لكنه عرف اصداء سلبية باعتبار ان جسم المرأة ليس سلعة. خصوصاً أن الراغبين في الانجاب يذهبون الى امرأة فقيرة ويستغلونها، ما يسقط النظرة الانسانية الى الموضوع".
ويشير الى أن "القانون اللبناني يمنع هذه المسألة لأنها تؤدي الى مشكلة قانونية كبيرة لأسباب عديدة. أبرزها أن الأم التي تؤجّر رحمها قد تشعر بتأثّر عاطفي تجاه الولد، ولا ترغب في التخلي عنه. وبالتالي تعتبر أنها أمّه الحقيقية وتريد ان يبقى معها. هذا يعني الوقوع في فراغ قانوني نظراً إلى صعوبة معرفة هويّة الأم الحقيقيّة خصوصاً في حال عدم توقيع عقد بين الطرفين". أما النقطة القانونية الأبرز التي يتناولها قليموس، فتتمثّل بموضوع استئجار الرحم التي تعتبر فكرة مرفوضة. يقول أن اي عقد يتناول الجسم البشري يعتبر عقداً لاغياً. وبالتالي لا يمكن وهب الأعضاء مقابل الحصول على مردود مادي، حتى في حال موافقة الجميع. القانون لا يسمح بذلك، وبالتالي المسألة ممنوعة.
لم تكن سابين تعلم للحظة، أن قصّة زواجها ستحمل لها أحداثاً غير متوقّعة. تاهت بين حلم تزيين غرفة الأولاد وحقيقة أحشائها المقفرة. خيارها كان صعباً، لكنها قرّرت ونفّذت وعادت الى لبنان، وفي رفقتها طفلة صغيرة هي حصاد 9 أشهر من الغياب عن الأنظار. المعادلة صعبة عند المقارنة بين رغبةٍ في الأمومة وتحدٍّ للواقع القدريّ المكتوب. وماذا بعد الولادة؟ هل ستعلم الفتاة الصغيرة يوماً أنها نشأت في رحم امرأةٍ غير أمها؟ أم ستبقى الحقيقة مخفيّة الى الأبد؟ وفي حال صارت القصّة علانيّة، كيف ستكون ردّة فعلها؟ أسئلةٌ برهن لعبة الزمان.-(النهار)