الأميركيون متخلفون مقارنةً بهم: سر تفوق أطفال سنغافورة في الرياضيات.. لا تحاول تقليدهم
عندما سئل "ساي يو شواه" عن رد الفعل المتوقع لوالديه إن حصل على نتيجة ضعيفة في اختباراته، ابتسم وقال "والداي ليسوا بهذه الصرامة، ولكنهم يعقدان آمالاً عالية عليّ، ولذا يجب عليّ أن أقوم بكل شيء على نحو جيد. وأتفوق في دراستي. هذا هو ما يتوقعونه مني".
ساي يو الضحوك، صاحِب البنية الجسدية الهزيلة، عمره 13 عاماً، وهو تلميذ في Admiralty، وهي مدرسة ثانوية حكومية في الضواحي الشمالية من سنغافورة، افتتحت عام 2002، حسب تقرير لصحيفةفايننشيال تايمزالبريطانية.
تُعَد سنغافورة مدينة على شَكل دولة، تضم 5.5 مليون شخص فقط، وهي في القمة، أو ما يقرب منها، في المقارنات العالمية للقدرات الحسابية، وتفتخر أيضاً بأن نظامها التعليمي من أكثر الأنظمة المثيرة للإعجاب حول العالم.
وفي الجدول الدوري الذي نشرته OECD في شهر مايو/أيار 2015 ، الذي يعتمد على نتائج الاختبارات المأخوذة من 76 دولة، تأتي سنغافورة في المركز الأول، وتتبعها هونغ كونغ، وكوريا الجنوبية، واليابان، وتايوان. والتصنيفات القائمة على اختبار قدرات الأطفال في سن 15 عاماً، في الرياضيات والعلوم، عززت شعور الشعب في سنغافورة بأن الأطفال في الغرب، يتخلّفون عن أقرانهم الآسيويين. فقد جاءت المملكة المتحدة في المركز الـ20، أما الولايات المتحدة الأميركية فجاءت في المركز الـ28 في هذا الجدول.
عندما يأتي الدور على وزير سنغافورة للتَحَدُّث في اجتماعات وزراء التعليم حول العالم، يقول أندريس شليشر "يستمع الجميع باهتمام شديد".
وأشار التقرير إلى أن العديد من الحكومات حول العالم تسعى إلى دمج العناصر الأساسية لـ"نموذج التعليم في سنغافورة" مع المنهج الذي يتبعونه في تدريس الرياضيات والعلوم.
بريطانيا تقلدهم
وكانت المملكة المتحدة هي آخر من قام بذلك، حيث أعلنت في وقت سابق من شهر يوليو/تموز 2016، أن نصف عدد المدارس الابتدائية في إنكلترا ستتبنى نظام تدريس الرياضيات المُتبع في سنغافورة، وستزوّد تلك المدارس طلابها بكتب مدرسية جديدة.
ولكن ما الذي يحتويه نظام التعليم في سنغافورة ليكون سبباً في تمكين الأطفال من التفوق على أقرانهم في الدول الأخرى؟ وما مدى سهولة تطبيقه في الدول الأخرى والحصول على نفس نسب التفوق والنجاح في صفوف التلاميذ؟
سنغافورة هي الأرض المكتظة بالسكان والموجودة في جنوب آسيا، وتحدها ماليزيا من الشمال، وأرخبيل الطاغوت في اندونيسيا في الجنوب.
سنغافورة، المحطة التجارية التي كانت تحت سيادة بريطانية في السابق، حصلت على حكمها الذاتي عام 1959، وأصبحت جزءاً من الاتحاد الماليزي، قبل انفصالها التام عام 1965.
ويتأصل في النفسية الوطنية للشعب السنغافوري، شعور بأن مكانتهم تتضاءل كثيراً إلى جانب المكانة الهائلة للدول المجاورة، مما يبعث عليهم الشعور بالخوف الذي يصاحبه الاعتزاز والفخر.
في كلمة لنُشطاء نقابة العمال في الاحتفال بيوم الأول من شهر مايو/أيار (May Day)، من عام 2015، قال رئيس الوزراء السنغافوري لي هسين لونغ للمواطنين "لكي يتمكن كلٍ منكم من البقاء على قيد الحياة، لابد أن يصبح شخصاً استثنائياً".
وحذر من أن البديل لذلك هو "أنه سيتم دفعكم بقوة إلى الزاوية، وكُرهكم، وسحقكم نهائياً؛ وستكون تلك هي النهاية بالنسبة لسنغافورة، وبالتالي نهايتنا جميعاً".
في صباح كل يوم، يعقد تلاميذ مدرسة Admiralty اجتماعاً تحت إحدى اللافتات والتي تنادي بالأهداف ذاتها ولكن بطريقة بلاغية أبسط. تقول إحدى اللافتات "لا يدين أحد لسنغافورة بضرورة كسب الدخل لقدرة على المعيشة". وتقول الأخرى "لا بد أن ندافع عن سنغافورة بأنفسنا".
أمة من الأميين
لكل المعجبين بالنموذج التعليمي للدولة، فإن الأخبار الجيدة هي أن هذا النظام المدرسي الذي تغلب على جميع الأنظمة بالعالم، أنشئ في فترة زمنية قصيرة نسبياً. في الفترة التي وقعت فيها سنغافورة تحت الحكم البريطاني، كان التعليم حِكراً على الأثرياء فقط.
ولفت تقرير "فايننشيال تايمز" إلى أن مُعظم أفراد الشعب السنغافوري -ممن هاجروا من الصين وماليزيا وتاميل (الهند)، وكذلك أحفادهم- كانوا أُمّيين.
وعندما تولت أول حكومة بعد الاستقلال منصبها في سنغافورة، والتي كان يرأسها لي كوان يو، بدأت تلك الحكومة في التوسُّع في نظام التعليم المدرسي ليشمل الشعب بأكمله. وهذا الأمر جذب الكثير من المستثمرين الأجانب، كما أن بناء قطاع صناعي ناجح في هذا الوقت، خطوة حاسمة في تنمية الدولة بعد تَخَلُّصْها من الاستعمار.
أما عن لي كوان، السلطوي الذي ينشد الكمال في عمله، والذي قاد الدولة خلال ما يقرب من 30 عاماً، كان يؤمن بأن المدارس ستخدم أغراض مزدوجة: الأول هو تشكيل أُمّة موحدة ناطقة بالإنجليزية على الرغم من أن الشعب متعدد اللغات، والثاني هو تزويد المصانع بالعُمال.
وقال عام 1966، إن الطريقة المُثلى لبقاء سنغافورة وازدهارها "تتطلب بناء مجتمع قوي البنية، لديه ما يكفي من العزم، وعلى قدر عال من التدريب والانضباط".
كوريا واللغة الألمانية
ولا يزال التعليم محل نِقاش السياسيين في الدولة من ناحية المنافع الاقتصادية في المقام الأول. وفي خطابه الذي ألقاه في شهر مايو/أيار من عام 2015، وضّح لي هسين لونغ تفاصيل الحوار الذي دار بينه وبين وزير التعليم بكوريا الجنوبية.
فقال "تبادلنا الآراء حول العملية التعليمية، وأخبرته أننا في سنغافورة نحاول تدريب الأشخاص من أجل الوظائف التي يمكنهم شغلها. وبالتالي، يجدون الوظائف في انتظارهم فور تخرّجهم. وكان يبدو عليه الحسد".
وقال لي حسين استخفافاً في ملحوظة ألقاها، بأن كوريا الجنوبية لديها مؤسسات لتدريس اللغة الألمانية، أكثر من المؤسسات الموجودة في ألمانيا ذاتها.
وأضاف "ما هو عدد معلمي اللغة الألمانية الذي تحتاجونه في كوريا؟" مشيراً إلى أن الطلاب الكوريين الحاصلين على درجات مرتفعة في المواد المختلفة مثل اللغة الألمانية، سيواجهون مشكلة البطالة التي تواجه الشباب في الكثير من الدول الأخرى.
ويَعْتَبِر النظام التعليمي في سنغافورة مادتي الرياضيات والعلوم، كمادتين أساسيتين يتم تدريسهم طوال فترة التعليم الابتدائي والثانوي.
ويُمكن للطلاب اختيار دراسة العلوم الإنسانية كمواد مستوى أول، ولكن مع ضرورة الاستمرار في دراسة الرياضيات، أو على الأقل مادة واحدة من مواد العلوم طوال فترة دراستهم وحتى الوقت الذي يغادرون فيه المدرسة (والعكس صحيح: طُلاب المواد العلمية، لا بد لهم من دراسة مادة واحدة من العلوم الإنسانية).
وبدءاً من السنوات الأخيرة من المرحلة الابتدائية إلى كل ما بعدها، يُدَرِّس للطلاب مُعلمي الرياضيات المتخصصين.
تم وضع وتطوير "طريقة سنغافورة" لأول مرة عن طريق فريق من المعلمين في المدينة في فترة الثمانينات من القرن العشرين، وقد أُوكِلَت إليهم مهمة إنتاج مواد تعليمية ذات جودة عالية مِن قِبَل وزارة التعليم.
درسوا أحدث الأبحاث التي أُجريت في العلوم السلوكية، بالإضافة إلى السفر عبر المدارس المختلفة في الدول الأخرى، من بينهم كندا واليابان، للمقارنة بين مدى فعالية كل من طرق التعليم المختلفة.
وكان الهدف الأساسي هو الابتعاد عن الطرق البسيطة للتَعَلُّم والتي تعتمد على حِفْظ المواد عن ظهر قلب، والتركيز على تعليم الأطفال كيفية حل المشكلات عِوَضاً عَن ذلك؛ ولِذا أنتج الفريق كتباً مدرسية يبدو ظاهراً فيها تأثير علماء النفس التربويين أمثال الأميركي جيروم برونر، والذي وضع فرضية تنص على أن الأشخاص يتعلمون على 3 مراحل: الأولى عن طريق استخدام أجسام حقيقية، والثانية من خلال الصور، وأخيراً من خلال الرموز. وساهمت تلك النظرية في التركيز القوي لسنغافورة على حل المسائل الحسابية عن طريق الوسائل البصرية؛ باستخدام الكتل الملونة لِتَرْمُز إلى الكسور في العمليات الحسابية والنِسَب، على سبيل المثال.
المنهج الدراسي في سنغافورة يتم تقليله في المرحلة الابتدائية ليحتوي على الأساسيات فقط، وبذلك يصبح أقل من مناهج الكثير من الدول الغربية الأخرى، ويقوم بتغطية عدد أقل من المواضيع، وفي المُقابِل يَتَعَمَّق في تلك المواضيع بصورة أكبر، ويُعَد هذا الأمر من أهم عوامل فعالية نظام التعليم في سنغافورة طبقاً لـ شلايشر من منظمة OECD.
وقال شلايشر "عندما ننظر إلى إنكلترا والولايات المُتحدة، نجد أن مناهجهم تتميز بكثرة المواضيع، وقلة العُمق في كل موضوع منهم.
إنهم يعلّمون الطلاب الكثير من الأشياء، ولكنهم يفعلون ذلك بصورة سطحية للغاية لا تفيد في شيء. أما عن الرياضيات في سنغافورة، فهي لا تعتمد على معرفة كل شيء، بل على كيفية التكفير كمتخصص في الرياضيات".
لا للموهبة.. نعم الاجتهاد
في الغرب، يعتبرون أنه أمر مفروغ منه أن يتفوق الطلاب في بعض المواد أكثر من غيرها. ولكن لا يسري هذا على سنغافورة، إذ إنهم يعتبرون أن الاجتهاد له قيمة أعلى من الموهبة..
تيم أوتس، والذي كان مسؤولاً عن مراجعة المنهج الوطني لإنكلترا من عام 2010 وحتى عام 2013، وهو الآن مدير الأبحاث في مجلس الامتحانات في Cambridge Assessment، يقول إن هذا المنهج سيتم اعتماده في النظام الإنجليزي أخيراً.
وأضاف "يُعَد هذا المنهج مقياساً مختلفاً للقُدرات. وهو حقاً، إصلاح جذري للطريقة التي يتم النظر بها إلى الأطفال وتقييمهم. وهو تَحَوُّل من النموذج القائم على قياس قدرة الفرد على التَعَلُّم، إلى النموذج الذي ينص على أن الأطفال جميعهم قادرون على القيام بأي شيء، اعتماداً على كيفية عرض هذا الأمر عليهم والجهد المبذول لتعلُّمه".
والمنهج الآسيوي في دراسة الرياضيات يرتبط بفكرة هذا المنهج، إذ إنه يُفَضِّل تدريس الفصل بأكمله، بدلاً من تقسيمه إلى مجموعات أصغر للعمل على حل التدريبات، وتلك التقسيمات تعتمد في الأساس على قدرات الطلاب. والطريقة التي تعتمد على تدريس الفصل بأكمله تتيح للمعلم الفرصة لتحديد نقاط الضعف عند الطلاب والتَدَخُّل سريعاً إن احتاج أي طالب منهم إلى المساعدة، بدلاً من الانتظار حتى يقفوا أمام مسألة لا يستطيعون حلها، ويطلبون من المعلم مساعدتهم فيها.
أما عن الفصول الدراسية في مدرسة Admiralty، فالزينة الموجودة فيها قليلة جداً. عندما زُرْتُ فصل للطلاب في عمر الـ13 عاماً، ما وجدت إلا عملاً فنياً واحداً مُعَلَّقاً على الحائط الخلفي؛ وهو عبارة عن ورقة سقطت من شجرة الكرز المُزْهِر. أما في المُقَدِّمة، في المكان الذي يقف فيه المُعَلِّم، هناك سبورة، وآلة عرض سينمائي، وعلم سنغافورة، وساعة. وأخبروني لاحقاً بأن الزينة الأخرى تم إزالتها لتجنب تشتيت الطلبة أو مساعدتهم بأي طريقة أثناء الاختبارات.
العنصرية ضد العمال
كانت الحصة التي حضرتها هي حصة اللغة الإنجليزية، وهي اللغة الثانية لمعظم الطلاب هنا، والذين يتحدثون لغة الملايو أو اللغة الصينية في منزلهم. في مُقَدِّمَة الفصل، تقف المعلمة، ويندي تشين، والتي تعرض عليهم فيلماً عن العمال المهاجرين وهم يَرُدُّون على التعليقات العنصرية التي تُوَجَّه إليهم.
إنه موضوع مثيرة للجدل: فغالباً ما يكون العمال الأجانب الذين يعملون في مجال البناء، وفي التصنيع والخدمات المحلية، هدفاً لحملات التمييز العنصري في سنغافورة. ويندي تشين، تبدأ في تقسيم اللغة إلى أجزائها الأساسية المُكَوِّنة لها، وتطلب من الطلاب الذي يبلغون من العمر 13 عاماً أن ينظروا إلى استخدامات الضمائر "نحن" و"هُم".
تبدأ في توزيع قطعة من صحيفة، وهي تتحدث أيضاً عن العمال المهاجرين، وتطلب منهم تحليل تلك القطعة. وتقول لهم "ظَلِّلوا الكلمات التالية: من، ماذا، متى، أين، وكيف". يسيطر جو من الاجتهاد على المكان. وعلى مدار اليوم، يعمل الطلاب في صمت على إنهاء المهام المُوكلة إليهم، مع القليل من الثرثرة ما بين الحين والآخر.
أما عن تطبيق العقوبة الجسدية في مدارس سنغافورة، فلا يتم تطبيقها إلا عندما تضيق بهم السُبُل جميعها -وهذه العقوبة خاصة بالأولاد فقط دون الفتيات- عندما يريد المعلمون لفت الانتباه وإحكام السيطرة على الفصل، فقط يقومون بتوجيه رسالة بصورة إلحاحية لافِتة للنظر، بدلاً من رفع أصواتهم بالصياح.
في إحدى المرات، عندما بدأت مُعَلِّمَة في الشعور بأن الفصل الخاص بها بدأ يتكاسل ويضعف، أخذت تلقي عليهم تعليماتها مصحوبة بجملة "أحبائي".
ولِكَسب المزيد من الانضباط واستيعابه، ينضم العديد من الطلاب إلى الشرطة أو منظمات التدريب العسكرية، ويمكنهم ارتداء الزي العسكري والوقوف لحراسة فناء المدرسة بعد انتهاء الصف المدرسي.
أما بالنسبة للشباب الذين يواجهون احتمالية قضاء عامين في الخدمة الوطنية بعد تخرجهم من المدرسة الثانوية، فيكون هذا إعداداً مفيداً لهم بشكل خاص.
البرمجة
العلوم هي التي ستسيطر على العالم في الفترة القادمة. ولِذا، يتعلم الأطفال البرمجة من خلال لوحة الدوائر الصغيرة، والتي يتم توصيلها بمؤشر للضوء معروف باسم (LED).
الأسطر المُختلفة من التعليمات البرمجية تتحكم في اختلاف لون الضوء. قام الطلاب في عام 2015 ببناء ذراع روبوتية. أما في 2016، فإن الهدف هو بناء نموذج مُصَغَّر لسيارة بدون سائق -بحجم الكف- وكأنها رَجُل آلي له عجلات. وقال مدير المدرسة "تو ثيام شي"، وهو يلاحِظ الطلاب أثناء عملهم في الفصل "هذه أهداف كبيرة وطَموحة، مُقَسَّمة إلى العديد من الخطوات الصغيرة".
وقال إنه يُمْكِن دمج الأضواء مع نموذج السيارة التي تعمل بدون سائق، كجزء من نظام الرسائل التي يبعث بها مؤشر الضوء (LED messaging system).
أما عن مُعَلِّمة العلوم التي تتحرك في خُطى سريعة حول المعمل، فتقول أن أكواد ورموز الكمبيوتر أصبحت مألوفة بالنسبة للطلاب، حتى أن بعضهم بدأ يستخدمها لإجراء بعض التجارب. وتقول بينما يبدو عليها الموافقة على ما يحدث "يعبثون بتغيير طريقة العرض وألوان ضوء الLED".
هناك استراحة لتناول طعام الغداء؛ وفي ذلك الوقت، يخرج الطلاب من المبنى الخرساني الشبيه بالصندوق، ويتناولون الأطباق المختلفة ما بين الأرز والمعكرونة من مطعم المدرسة. ومثلها مثل المباني الأخرى في سنغافورة، فإن المدرسة عبارة عن سلسلة من المستطيلات؛ فصول دراسية مستطيلة والتي تطل على ساحة مستطيلة للعب.
الحرارة الاستوائية
وما يُشعرك بالراحة من الجدران البيضاء الناصعة، هي بعض الخطوط العريضة من الطلاء الأزرق أو الأصفر. ولكن على عكس المباني الإدارية في سنغافورة، التي تتميز ببرودتها الشديدة بسبب المكيفات المنتشرة في كل مكان في المبنى، للدرجة التي تجعل بعض الموظفين يرتدون السترات للتدفئة، فإن الفصول الدراسية على النقيض، مُعَرَّضة للرطوبة الاستوائية. إذا تجد مراوح السقف منتشرة في الفصول لتحريك الهواء، بينما تتناثر ثرثرات الطلاب في بعض الأحيان إلى الخارج من خلال النوافذ المفتوحة.
وبحسب ما يقول توه ثيام تشاي، يتم توجيه تلاميذ الأميرالية بلطف بعيداً عن العلوم الإنسانية ودفعهم نحو العلوم.
كما تُصمَم أنشطة ما بعد ساعات الدراسة، مثل نادي الروبوتات، لغرس حب البحث العلمي وللتجهيز لمستقبل أكثر آلية في الوقت نفسه.
أما المدير فقال "نرغب في تحضيرهم لبيئة العمل الخاصة بالقرن الواحد والعشرين، كما نرغب أيضاً في تلبية حاجات الاقتصاد". للجزيرة "أيدي عاملة محدودة" بسبب عدد سكانها البالغ 5.5 مليون نسمة، والذي يبلغ عدد العمال الأجانب منهم بالإضافة إلى عائلاتهم 1.6 مليون نسمة.
وأشار المدير إلى الطلب المستقبلي على العمال قائلاً "يتعين علينا أن نكون في الطليعة".
وأوضحت إحدى المتحدثات الرسميات باسم وزارة التعليم في وقت لاحق: أن هذا ليس متعلقاً بالسياسة التي تتبعها سنغافورة، وأنها تُقَّدِر الفنون.
كما أضافت أن سنغافورة تعمل على تشجيع الأطفال للعمل على نقاط قوتهم.
وقالت أيضاً إنه بينما تركز الأميرالية على العلوم، تركز بعض المدارس الأخرى على العلوم الإنسانية. مع ذلك، يحكي السنغافوريون الأكبر سناً عن دفعهم باتجاه العلوم إذا بدا عليهم ما يكفي من الذكاء والتفوق لدراسة هذه الموضوعات الكمية.
في أحد دروس الرياضيات في فترة ما بعد الغداء، تطلب المعلِّمة من التلاميذ الخروج من مقاعدهم مع بدء انخفاض انتباههم وسط الحرارة المتزايدة. وتطلب من متطوعين الوقوف على السبورة لحل بعض معادلات الجبر أمام الفصل.
فهناك مناخ من المنافسة المبهجة. حين يتعثر أحد الأولاد في حل إحدى المعادلات، ثم يعود مرة أخرى لتصحيحها، يصيح به أحد زملائه مستهزئاً "ما زالت خاطئة!"
وفي الدقائق النهائية للدرس، يخضع الطلاب لاختبار على حواسبهم اللوحية، لتظهر درجاتهم على شاشة في الأمام بينما يستمرون في إجابة الأسئلة.
رفع أحد الطلاب الذي أجاب سريعاً جهازه اللوحي في الهواء مفتخراً، بعدما وصل للنهاية وأظهرت شاشة جهازه اللوحي نتائجه في مخطط دائري أخضر تقريباً، أي أنه لا توجد إجابات خاطئة تقريباً. ليحييه أحد زملائه.
المال ليس سر النجاح
لا يتعلق نجاح سنغافورة بالمال، إذ تنفق 3% من ناتجها القومي على التعليم، مقارنة بـ6% في المملكة المتحدة، وحوالي 8% في السويد. لكن نظام سنغافورة فعال في سماحه للمعلمين بتحسين أساليبهم.
يُعطى المعلمون وقتاً خلال اليوم الدراسي لتقييم عملهم، ولملاحظة دروس الآخرين. ولا يُدفع المعلم الناجح إلى منصب إداري كما العادة، لكن يُسمح له بفرص مختلفة ليكون مرشداً أو مساهماً في تصميم المناهج.
ويقول شلايشر من منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية "في بعض الأنظمة الأخرى للمدارس نجعل المعلم الأفضل مديراً سيئاً".
ويشير إلى ميل الدول الشرق آسيوية لتفضيل الفصول الأكثر عدداً، التي تعني قضاء المعلم لوقت أقل أمام الفصل أسبوعياً.
في كوريا واليابان، يقضي معلمو المدرسة الثانوية حوالي 15 ساعة أسبوعية في التدريس، مقارنة بحوالي 20 ساعة في المملكة المتحدة وما يزيد على 27 ساعة أسبوعية في الولايات المتحدة. وهو ما يوفر المزيد من الوقت لتحضير الدروس أو تقييم ونقد ما سلموه بالفعل.
وعلى الرغم من كل الإعجاب الذي تتلقاه أنظمة المدارس في سنغافورة بالخارج، فإن الوضع بالداخل ليس مماثلاً. يشعر الأهالي أن هذا النظام الموجه نحو الاختبارات يضع الكثير من الضغط على أطفالهم، بالإضافة إلى قلقهم من أن التركيز على التحصيل الدراسي بداية من سن مبكرة قد يأتي على حساب التنشئة المتوازنة.
غالباً ما يدرس الأطفال لساعات بعد المدرسة ليتمكنوا من اجتياز الاختبارات. على الجهة الأخرى، يؤكد النظام التعليمي في فنلندا -الذي حصل على تقييم مرتفع من قبل منظمة التعاون والتنمية أيضاً- على التطور الاجتماعي قبل التحصيل الدراسي في السنوات المبكرة من عمر الطفل، مع التركيز على اللعب بدلاً من العمل داخل الفصل.
تقول ميليسا بن، الكاتبة البريطانية والناشطة في أوساط التعليم، "هناك تقليد في التعليم الأوروبي لبدء الدراسة متأخراً، مع التركيز على البحث من خلال اللعب. أعتقد أن هناك حجة قوية للتشديد على فائدة اللعب".
كما ترى ميليسا أن لكل بلد نهجها الخاص في التعليم، وأضافت أيضاً "تبرع إنكلترا في اتباع طريقة أكثر استرخاءاً واستقلالية في التفكير".
عدم المساواة
أما في سنغافورة، فهناك مخاوف من أن النظام القائم يزيد من حدة عدم المساواة، كما أن هذا التوجه يحول النظام ضد الطلاب الذين يتطورون متأخراً.
وبينما تتمسك الحكومة بالشعار التعليمي "كل مدرسة هي مدرسة جيدة" لا يشاركها الأهالي في سنغافورة ذات الاعتقاد.
إذ يَرَوْن أن هناك منافسة محمومة لدخول المدارس المرموقة مثل مؤسسة رافلز، التي أنشأها مؤسس سنغافورة البريطاني السير ستامفورد رافلز في القرن 19. وتعد هذه المدرسة إحدى المدارس القليلة التي تمولها الدولة بينما تدار بشكل مستقل على الجزيرة.
وتبلغ مصروفات الدراسة في سنغافورة حوالي 14 جنيهاً إسترلينياً (25 دولاراً سنغافوريا) شهرياً في مدارس الحي، وهو مبلغ متواضع بالنسبة لغالبية لناس، بينما يمكن للمدارس المستقلة فرض مصروفات أكثر ارتفاعاً كما تلتزم بعدد معين من الطلبة في الفصل وتصمم مناهجها الخاصة.
الميسورون يهيمنون
عبر مدير مؤسسة رافلز شان بوه مينج، في يوم المؤسس السنوي للمدرسة في عام 2015، عن قلقه من هيمنة عائلات الطبقة المتوسطة على المدرسة إذ إنها القادرة على توجيه أبنائها بفاعلية لاجتياز اختبار ترك المدرسة الابتدائية، والذي يحدد هل يكمل الطلاب للتعليم الثانوي، أم يتم تحويلهم لمسار أكاديمي أقل تنافسية.
ومثل العديد من شعوب شرق آسيا، تشهد سنغافورة صناعة دراسية مزدهرة. لا تهيمن مراكز الدراسة المزدحمة الخاصة على حياة الأطفال إلى حد كئيب مثلما يجري في كوريا الجنوبية (إلى الحد الذي دفع حكومة سيول لمنع مراكز الدراسة من التدريس بعد العاشرة مساءً)، لكن في الوقت نفسه لا يعني نهاية اليوم الدراسي لطلاب سنغافورة نهاية الدروس.
وأشار أحد الاستطلاعات التي أجرتها وزارة التعليم منذ عدة سنوات، إلى تلقي أكثر من نصف طلاب المدرسة الابتدائية دورس خصوصية في مواد يؤدون فيها جيداً بالفعل.
ويعد الاعتماد على المقدرة والعطاء الفردي هو أحد العناصر التي تربط سنغافورة معاً. فبجوار وعد الرخاء والأمن المشترك، تعد فكرة قدرة الفرد الألمع على الارتقاء في المجتمع هي أحد مكونات الصفقة السياسية التي وقعتها الحكومة مع مواطنيها، والتي تتضمن أيضاً تقييد بعض الحريات السياسية مقابل الحصول على مزايا مادية كبيرة. لكن فرصة الارتقاء من الأصول المتواضعة لنخبة المجتمع السنغافوري أصبحت أكثر ندرة، حسبما يرى المراقبون. ويقول مايكل بار، الأستاذ المشارك في العلاقات الدولية في جامعة فليندرز في أديلايد، أن الحراك الاجتماعي يضمحل في سنغافورة؛ بسبب ارتفاع تكاليف التعليم. "منذ عدة عقود، كان التعليم هو سبيل الفقراء للارتفاع".
وتابع "يزداد هذا ندرةً. يتكلف التعليم المال. وتتكلف الأنشطة اللامنهجية أموالاً أخرى. عليك أن تكون من الطبقة الوسطى لتملك الموارد الكافية لتعليم أطفالك، وصرامة تكفي لدفع أطفالك للنجاح".
انتقادات
لعل أكثر الانتقادات اللاذعة التي يتعرض لها النظام التعليمي في سنغافورة هي التي يعبر عنها الأهالي على انفراد حول قضاء النظام السنغافوري على الإبداع.
وعلى الرغم من أن سنغافورة ليست الدولة الوحيدة التي توجه نظرها صوب وادي السيليكون، متسائلة عما ينقصها من روح المبادرة، يقلق الأهالي هنا من أن التعليم الإلزامي قد يحد من إبداع أطفالهم.
كما قال أحد الأكاديميين في جامعة سنغافورة إن العديد من الطلاب تم تحويلهم إلى "ماكينات تعلُّم"، ليس بإمكانهم التعامل مع المواقف إن لم يكن له إجابة ثنائية (صحيحة أو خاطئة).
وانتقد مسؤول تنفيذي في أحد بنوك سنغافورة ووالد لثلاثة أطفال، لم يشأ ذكر اسمه، النظرة الضيقة للحاصلين على أعلى الدرجات، والذي يرى فيه نتيجة للعمل الشاق مثلما هي نتيجة للذكاء.
وقال أيضاً "إنه نظام يوجهك عبر الشبكة التي يرونها مناسبة. الدرجات هي معاييرهم" وتابع "ليس هناك شيء آخر. سؤالي هو: هل ذلك تقييم عادل لقدرة شخص ما؟ لا أعلم إن كنت تربط الدرجات العليا بارتفاع مستوى الذكاء، لا أعتقد بذلك".
وبينما أثنى على النظام لقدرته على تطوير "مهارات تقنية" جيدة في الرياضيات والتعامل مع الحقائق، إلا أنه أشار إلى التركيز غير الصحي على ترويض الأطفال وفق أسلوب معتمد.
في تجربته، اُنقِص من قدر الأطفال الذين حاولوا حل الألغاز الرياضية بطرقهم الخاصة، حتى لو كانت إجاباتهم صحيحة. "حين أُعطي الأطفال بعض المسائل الرياضية، حاول بعضهم استخدام منطقهم الخاص. وعلى الرغم من صحة الإجابات، تم اعتبارها إجابات خاطئة. أنت تخنق قدرة الشخص على التفكير بأنفسهم، وكأنك مثل الروبوت، لا يمكنك التفكير خارج الصندوق".
قلق من صلابة التعليم
وتساهم صلابة النظام التعليمي السنغافوري في مزيد من القلق بين سكان الجزيرة. عادة ما يستخدم سكان سنغافورة الكلمة الصينية "Kiasu" لوصف أنفسهم، وتترجم العبارة إلى "الخوف من الخسارة"، كما تستخدم لوصف الفلاح الريفي الساذج الذي يملأ طبقه في البوفيه على حساب الآخرين، أو السائق الذي يرفض السماح لسائق آخر بتغيير الحارات المرورية.
أما حين تستخدم Kiasu في التعليم، فتشير للأهل الذين يدفعون أبناءهم للنجاح خوفاً من تأخرهم عن أقرانهم. بينما تستخدم أيضاً لاختزال القلق من افتقار السنغافوريين للخيال والمبادرات المبتكرة.
وفي مناظرة برلمانية جرت في 2016، عبر النائب البرلماني كيوك شياو ين، عن قلقه من أن الخوف المتأصل من الخسارة يخلق جيلاً من مطاردي المنح الحكومية لأجل المشروعات الصغيرة، بدلاً من المخاطرة ببناء شركات مبتكرة.
مجرد جزيرة صغيرة
من العسير قياس فارق الإبداع بين الأمم. صحيح أن اثنين من الأسماء المعروفة في المشهد التكنولوجي الناشئ في سنغافورة تم تأسيسهما على أيدي بعض رائدي الأعمال من الخارج: تطبيق مشاركة الركوب Grab في ماليزيا وشركة الترفيه الإلكترونية Garena في الصين. مرة أخرى هذه مجرد جزيرة صغيرة.
منذ ما يزيد على عقد، حاولت حكومة سنغافورة التغلب على النقد الموجه للنظام الدراسي بكونه شديد الصرامة، متبنية شعار "تدريس أقل، تعلم أكثر"، في محاولة لتحفيز التفكير المستقل وتشجيع الطلاب على اتباع شغفهم. خُفِضَّت المناهج والواجبات المنزلية، كما سُمح للطلاب بالمزيد من الحرية في اختبار المواد التي يدرسونها.
أما ليندا ليم، الأستاذة السنغافورية في جامعة ميتشيغين روس للأعمال، فقالت إن محاولات الحكومة لإرخاء النظام المدرسي كانت ذات تأثير محدود "لم تستطع هذه التغييرات التغلب على التحيز المؤسسي والثقافي الراسخ لدى المدارس والأهل تجاه درجات الاختبارات، التي يُنظَر إليها باعتبارها بوابة القبول في الجامعات والوظائف الحكومية ذات العائد المرتفع والوظائف متعددة الجنسيات".
أما الخطر المحتمل أمام سنغافورة فهو حاجة الاقتصاديات المتقدمة إلى المهارات الشخصية المختلفة مثل التخيل والقدرة على المخاطرة، مثلما تحتاج إلى المهارات الصلبة الأخرى. النظام الذي كان فعالاً في عهد التصنيع الشامل لن يكون كافياً في العهد الذي تحتاج فيه أعظم المكافآت الوظيفية إلى الإبداع والابتكار.
الاستيراد من الخارج
في الوقت ذاته، قد لا يكون من الحكمة الرهان ضد شعب أثبت ذكاؤه في التكيف مع التغييرات السابقة. ومع كل الإعجاب الذي تحصل عليه أنظمة المدارس في سنغافورة، يهتم السنغافوريون أيضاً بالأساليب التعليمية المختلفة في الخارج، كما يعملون على استيراد أفضل الأفكار الأجنبية.
يتذكر توه ثيام تشاي، مدير الأميرالية، زيارة لإحدى المدارس البديلة في كندا حيث يُسمَح للطلاب باختيار ما يدرسونه بشكل يومي. ويصف المدرسة بكونها "غير منظمة بعض الشيء". كما أبدى قلقه بشأن الوقت المُنفَق للوصول إلى توافق حول الدرس الذي سيدرسونه بدلاً من إنفاقه في التدريس.
لكن حتى في البيئة المختلفة اختلافاً جذرياً عن فصول سنغافورة الصارمة، وجد حكمة مفيدة. "عرفت عن التشاور وبناء الشخصية".. هكذا قال توه الذي استطرد "التواصل مع الطلاب وإغراؤهم بمشاركة الخبرات".