القطاع العام.. جولة في كواليس المسرح العبثي
جو 24 :
تامر خرمه- كثيرة هي الوسائل التي يمكنك اللجوء إليها للترفيه عن ذاتك، وتجاهل ما تحمله من هموم لبعض الوقت. يمكنك الذهاب في نزهة، أو السفر -إن كنت شبه ميسور الحال- أو متابعة فيلم سنيمائي، أو مشاهدة مسرحيّة.. الخ. المسرح، ربّما يكون مكانا أكثر من مناسب. ولكن ماذا عن المسرح الواقعي؟
على أرض الواقع، تستفزّك أمور وتجرحك أخرى، ولكن إذا تابعت ما يجري حولك، باعتبار أنّك تتابع أحداث مسرحيّة ما، فقد يهون الأمر عليك. لم لا تذهب في "نزهة" إلى أحد الدوائر الحكوميّة، أو مؤسّسات القطاع العام؟ فهناك قد تجد ما يساعد على التسلية.
تصوّر وأنت في طابور لا يكاد ينتهي، الموظّفة أم فلان، وهي تركّز كامل تفكيرها على "الكاندي كراش"! الأمر مزعج، ولكن راقبه بعين المتفرّج على أحداث كوميديّة. تابع أبو فلان وهو يستعرض بطولات صنعتها مخيّلته بهدف الثرثة مع زملائه، أو تأمّل الموظّفين الكرام وهم يتناولون الفطور، أو يتجاذبون أطراف الحديث، وكأنّك غير موجود، معاملتك لا تكاد تنتهي.
مهلاً، الصورة ليست قاتمة إلى هذه الدرجة، في مؤسّسة أخرى قد تجد الموظّف النشيط، الذي يصغي دائما إلى ضميره، وقد تجد أيضاً المدير الصارم، دائم الرقابة على موظّفيه، لضمان أعلى درجات الإنتاجيّة، والانضباط بالعمل. ولكن ما قد يكون مفاجأة غريبة، أن تسمع نبأ نقل الموظّف المجتهد إلى مكان بعيد، لاعتبارات شخصيّة بحتة! حسن، الصورة قاتمة.
الاعتبارات الشخصيّة -مع الأسف- هي العامل الحاسم للثواب والعقاب في القطاع العام، والغريب أن تعديلات قانونيّة كثيرة فرضت عقوبات قاسية على العاملين في القطاع العام في حال ارتكابهم الأخطاء أو التقصير في العمل، كما عمدت القوانين -للقضاء على عامل الاعتبارات الشخصية- بتعقيد مسألة الترفيع وغيرها ممّا قد يستفيد منه أصحاب "الواسطة" دون غيرهم، إلاّ أن المشهد لم يتغيّر، ولم تنعكس القوانين إيجابيّاً على أداء هذا القطاع.
القضيّة في التنفيذ، فمن دخل القطاع العام فهو آمن! وهنا تكمن المعضلة. جميل أن يتمتّع المرء بالاستقرار الوظيفي، ولكن لا يينبغي أن يكون هذا دافعاً للركون إلى الكسل، والتقصير في أداء الواجبات، لو شعر الموظّف بأنّه تحت رقابة صارمة، وأن القطاع العام يدار بعقليّة وروحيّة القطاع الخاص، لما تجاهل مسؤوليّاته.
أكثر ما نحتاجه في هذه المرحلة، التي تبتلع فيها الشركات الأجنبيّة كلّ شيء، هو الحفاظ على العامود الفقري للدولة، المتمثّل فيما تبقّى من القطاع العام. بصراحة، نحتاج إلى إعادة مأسسة هذا القطاع، الذي تنهش فيه المحسوبيّة والإهمال والتراخي، نحتاج إلى مدراء أكفّاء يراعون ضمائرهم، ويمتلكون القدرة الحقيقيّة على الإدارة، نحتاج إلى تأهيل الموظّفين حتى يكونوا قادرين على التعامل مع الناس بحرفيّة ومهنيّة، وليس باستعلاء، وكأنّك تتسوّل خدمتهم، التي تدفع بدلها ضرائب تصنع رواتبهم.. نحتاج إلى ما نحتاجه، ولكن هل من مستمع!
لا يمكن تحقيق هذا، وإعادة بناء ما جرى تفكيكه وإغراقه في وحل الترهّل، دون إعادة النظر بثنائيّة الثواب والعقاب، وكيفيّة تطبيقها، وفصلها عن الاعتبارات الذاتيّة، كما يستحيل الارتقاء بواقع القطاع العام إلى ما ينعكس إيجاباً على الحركة الاقتصاديّة وعلى الخدمة التي يفترض أن يحصل المواطن عليها، في حال بقيت رواتب العاملين في هذا القطاع تراوح مكانها، وبقي ما يحصلون عليه من امتيازات ثابت كما هو، بصرف النظر عن أدائهم إن كان حسنا أو في غاية السوء.
وعودة إلى مسألة الإدارة، دعنا نقارن ونقابل صورتين متناقضتين: الأولى لمؤسّسة المواصفات والمقاييس، حيث يجري العمل على قدم وساق، دون تلكّؤ أو تأخّر، ودون أن يستطيع أيّ مسؤول أو متنفّذ فرض سطوته على هذه المؤسّسة الوطنيّة الهامّة. أمّا لرؤية الصورة المغاير، فيكفيك أن تلقي نظرة خاطفة على أداء أمانة عمّان، الذي بلغ من التباطؤ ما لم يعد من الممكن احتماله، رغم الأعداد الهائلة للعاملين فيها!!
ولا يختلف الأمر في أمانة عمان عنه في كثير من المؤسّسات، كدائرة الأراضي والمسقّفات والضريببة وغيرها من مؤسّسات القطاع العام. الصورة أكثر من معتمة، وما أحوجنا إلى النهوض بهذا القطاع، الذي وصل به سوء الإدارة إلى ما يقوّض الإنتاجيّة ويعيق التقدّم، ويعمّق حالة الترهّل في مفاصل الدولة.