هيئة الإعلام.. عندما يدار الفضاء الإعلامي الجديد بعقلية السنترال
جو 24 :
كتب عمر محارمة -
في الوقت الذي اتفق العالم أجمع على «تحريم» الرقابة على الإعلام واعتبارها واحدة من ضروب تقييد حرية الرأي والتعبير، وفي الوقت الذي ينفتح فيه الفضاء الإعلامي على أدوات ومنصات لم يعد بالإمكان ضبطها ومراقبتها، تخرج علينا هيئة الإعلام بين الفينة والأخرى بتعاميم تعيدنا بالذاكرة إلى ستينيات وسبعينيات القرن المنصرم وتذكرنا «بهاتف السنترال» الذي كانت جميع المكالمات الهاتفية تمر به.
حماية قيم المجتمع وحرية التعبير ليستا متعارضتين؛ بل إنهما متكاملتان في المجتمع الطبيعي، ولا أحد يستطيع إنكار أهمية وجود قوانين تحمي المجتمع والنظام وتحدد حقوق الإعلامي وواجباته ومناطق حركته والمساحة الواجب وجوده ضمنها لتأمين المصالح العليا للدولة والإسهام مع المؤسسات الأخرى في تكريس الحرية والديمقراطية ومتابعة شؤون البلاد والدفاع عنها، ومن ثم يكون القانون ذاته هو الفيصل الذي يحاسب الإعلامي ويعاقبه إن كان هناك ما يستوجب.
لكن من غير المعقول أن تتحول هيئة الإعلام إلى «بوسطه» للبريد الصادر و«تلغراف» للتعاميم المتطايرة شرقا وغربا في زمن الفضاء المفتوح وفي عصر «فيسبوك وتويتر وسناب شات»، التي حولت العالم ليس إلى قرية صغيرة فحسب بل إلى غرفة واحدة يتشارك الجميع فيها ويعرف ما بداخلها ويتابع ما يجري لحظة بلحظة.
وليس من المقبول أن تدار الهيئة بعقلية عتيقة لا تنسجم مع السياسة العامة للدولة في التعاطي مع الإعلام والتي أطلقت قبل سنوات قليلة إستراتيجية إعلامية وطنية برعاية من رأس الدولة -جلالة الملك- الذي وضع السماء حدا لحرية الصحافة في الأردن، ولم يتوقف في كل خطاباته وكتب التكليف للحكومات المتعاقبة أن يعيد ويكرر توجيهاته بهذا الخصوص.
من المسلّم به أنه لم يعد من الممكن حصر العقل بالإعلام التقليدي ولا يمكن بقاء أدوات إدارة الفضاء الإعلامي تحكمها ذهنية متوجسة ومتخوفة من المنتج الإعلامي، خصوصا عند التعامل مع المؤسسات الإعلامية الراسخة والعريقة والتي واكبت مختلف المحطات والمفاصل الوطنية وأثبتت خلالها أنها على قدر المسؤولية، وأنها مؤسسات وطنية بامتياز.
ولا نعلم كيف تسول هيئة الإعلام لنفسها أن تضع نفسها في موضع الرقيب والموجه على مؤسسات تكبرها تاريخا وعراقة وتتقدم عليها فيما قدمته للإعلام الأردني وللقضايا الوطنية، فهل من المعقول أن تصدر الهيئة بين الحين والآخر تعميما تطلب فيه من المؤسسات الإعلامية القيام بتغطية نشاط ما، أو الامتناع عن تداول أخبار مؤسسة معينة دون مسوغ قانوني بل ودون حتى علم المؤسسة ذاتها في بعض الأحيان.
وسائل الإعلام المحلية تلقت منذ إنشاء هيئة الإعلام بصيغتها القانونية الجديدة تعاميم يفوق عددها ما تلقته في عقود، وتغاضت باختيارها عن دلالات هذه التعاميم بانتظار أن يستوعب مسؤولو الهيئة صلاحياتهم وحدود عملهم ونطاق المهام الموكلة لهم، على اعتبار أن الهيئة صيغة قانونية جديدة تحتاج بعض الوقت للتكيف مع مركزها القانوني الجديد، لكن الواضح أن الهيئة بدلا من أن تعيد التمركز في موضعها وتتفهم دورها كجهة منظمة للإطار القانوني لمهنة الإعلام ذهبت إلى اعتبار نفسها وصيا على الصحافة تؤمرها فتطيع، والإعلام الأردني بالقطع ليس كذلك.
التعاميم الصادرة عن الهيئة تكشف وجود لُبس واضح لدى القائمين عليها في فهم دورهم وصلاحياتهم، ويكشف عدم قدرتهم حتى اللحظة على استيعاب الفضاء الذي يحلق فيه الإعلام بشكل عام، والذي يخطو الإعلام الأردني حثيثا لمواكبته والتأقلم معه حيث أن القاطرة ماضية فإما اللحاق بها والمضي قدما وإما التقوقع ومراقبتها تمضي دون راكبيها.
المعضلة الأساسية في تعاميم الهيئة أنها لا تصدر بالاستناد إلى نصوص قانونية تمنحها هذه الصلاحية، بل حتى أنها لا تواكب المسيرة الإعلامية للدولة والحكومة التي تتقدم وبأشواط كبيرة عن العقلية التي تُصدر التعاميم، فالناطق الرسمي للحكومة وزير الدولة للإعلام باعتباره قمة هرم المؤسسة الإعلامية الرسمية واحد من أكثر الشخصيات التي تولت هذا الموقع انفتاحا على الإعلام وتفهما لأدواره وأدواته الجديدة.
بل إن بعض تلك التعاميم تخالف وبشكل صريح نص المادة 15 / 5 من الدستور التي تمنع فرض الرقابة المسبقة على وسائل الإعلام إلا في حالة إعلان الأحكام العرفية أو الطوارئ، على أن تكون رقابة محدودة وتتعلق بالسلامة العامة وأغراض الدفاع الوطني، كما تناقض نص المادة 36 من قانون المطبوعات والنشر التي حصرت حق منع نشر الأخبار والتقارير بيد النيابة العامة وفي التحقيقات الجزائية فقط.
ثورة المعلوماتية، بكل أجهزتها وتقنياتها ومكوناتها، ساهمت بشكل كبير جدّاً في اختصار طُرق وأشكال الحصول على المعلومات وبعد أن كانت الصحف ومحطات الإذاعة، ثمّ التلفاز، هي مُحتكر المعلومة من خلال المراسلين ووكالات الأنباء، غدت المعلومات تنتشر اليوم بطرقٍ جديدة تماماً غيّرت عناصر العملية الاتصاليّة تغييراً جذرياً من خلال وسائل الإعلام الجديد: مدوّنات، شبكات اجتماعية، مواقع تدوين وغيرها، وليس من المعقول أن لا تكون هيئة الإعلام قد أدركت هذه الحقيقة حتى اللحظة، وللأسف فإن تعاميمها المتوالية تنبىء أنها كذلك.-(الدستور)