الأسطورة العربية: الظاهرة الغيوانية
جو 24 :
كل ما أعرفه عن الظاهرة الغيوانية أني ترعرعت بين أحضانها، رغم أنها كانت هناك منذ زمن بعيد وقبل أن أولد بعقود، لكن ذاكرتي مرتبطة بها لحد كبير جداً. إن سألني أحدهم عن أهم الأشياء التي ما زالت عالقة في ذهني منذ الطفولة، أخبره بدون تفكير عن أغاني ناس الغيوان في سيارتنا القديمة جداً من نوع فيات (على ما أذكر) وتلك الطريق السيار بين مدينتي سيدي قاسم وتطوان.
في بداية الأمر لم أكن أستوعب جداً، لصغر سني، لم أكن أفهم ماذا يقصد الغيوان بكلماتهم الغريبة، وفي كل مرة كنت أطلب من والدي شرحاً أو ترجمة ما، كان يخبرني أني ما زلت طفلة صغيرة يصعب عليها فهم المعاني والرسائل التي تمررها الفرقة المبدعة بين ثنايا أغانيها الشعبية..
مرت السّنون، كبرت وأصبحت ناضجة بما يكفي لأفك شفرات الأغاني التي تبدو بسيطة ذات الموسيقى المفرحة، لكنها في الواقع لم تكن كذلك قط، إنها أعمق بكثير مما نعتقد، أكثر ألماً وصدقاً. أصبحتُ في يومنا هذا أذرف الدمع كلما أستمع لإحدى التحف الغيوانية بتمعن، لأنها تلمسني كثيراً.. فالخالدات مؤلمة جداً.
ناس الغيوان، فرقة موسيقية مغربية، تأسست في أواخر الستينيات من القرن الماضي بأحد أفقر الأحياء بمدينة الدار البيضاء. أهم مؤسسيها، بوجميع الذي يعتبر أباً روحياً للفرقة، والعربي بطمة المتميز في عالم الفن، وعمر السيد وعلال يعلى وباكو. الإبداع والدهاء هما أهم صفات شخصيات هذه الفرقة الأسطورة، حيث إنها استطاعت أن تمزج في أغانيها بين الإثارة وقوة الإيقاع وروعة الأداء من جهة وبين تعريةٍ للواقع المعاش وانتقادٍ لكل ما ارتبط بالسلطة آنذاك من قمع وقهر ومصادرة للحريات والحقوق من جهة أخرى.
لقد كانت ظاهرة لامست بعمق الجانب الكئيب للمجتمع المغربي، وعايشت تجاربه السيئة في حقبة عُرفت بالأصعب. انبثقت من معاناة شعب مهضوم الحقوق ومن مآسيه الكثيرة، وتجرعت ظلماً وحيفاً كباقي أبناء الوطن في تلك الفترة، فتمردت ضد الفساد والاستبداد و"الحكرة" لتأخذ طابعاً ثورياً شعبياً وربما اشتراكياً، لكنها ظلت في ذات الآن محافظة على القيم وعلى الثقافة والهوية المغربية والدينية فضلاً عن تأثرها الشديد بالتوجه الصوفي الذي كانت تستلهم منه جل كلمات أغانيها، كما نجدها في تحفتها المشهورة "الله يا مولانا"..
وهي بذلك قد أعادت للأغنية الشعبية التراثية قيمتها بين المستمعين بعد أن أقحمت فيها خليطا موسيقيا من الملحون والعروبي والكناوي والعيساوي، فجعلتها بذلك لوناً فنياً متفرداً يرمز للخصوصية المغربية.
تميزت الفرقة كذلك بقدرتها على الوصول إلى قلوب المستمعين، لأن أغانيها دائماً ما اتصلت بهموم المواطن المغربي خاصة والعربي بصفة عامة، فاستطاعت أن تواكب عصرها بنجاح منقطع النظير وتصل إلى العالمية من خلال إنتاج ذي أبعاد احتجاجية تحررية وهي واعية كل الوعي بظرفها السياسي والثقافي رغم ضعف التكوين الدراسي لدى بعض عناصرها.
ومن التحف التي خلدتها الفرقة الموسيقية، أغانٍ مستوحاة من الواقع أشهرها: "الصينية"، "مهمومة"، "فين غادي بيا خويا"، "الماضي فات"، "الله يا مولانا"، "غير خوذوني"، "إفريقيا يا الدم السايل"، "صبرا وشاتيلا".. ولم يترك الغيوان إرثاً مرتبطاً بالغناء فقط، وإنما -وهذا ربما ما لا يعرفه الكثيرون- قد تركوا إرثاً من نوع آخر. كتاب "الرحيل والألم"، هو سيرة ذاتية من جزءين لصاحبه المرحوم العربي بطمة، أحد مؤسسي الفرقة وأشهر فنانيها، والذي يخصص فيه جزءاً مهماً ليروي عن آخر أيامه في مصارعة مرض السرطان الذي أودى بحياته في أواخر التسعينات.
يقول بطمة: "لقد جاء اليوم الذي صممت فيه على الكتابة، حاولت عدة مرات. ولم أدر أن القوة الإلهية، كانت تقف ضد ذلك إلى أن ابتليت بالمرض القاتل. فوجدت نفسي مدفوعاً بيد خفية إلى الأوراق والقلم وصممت على الكتابة.
سأحاول الآن كتابة ما مرّ بي من حياتي، وأنا في سباق مع الوقت. بل إن رغبتي الوحيدة هي أن يتركني الموت هنيهة لأكتب هذه اللحظات وأعبر عن تلك الذكريات".
كما يعبر عن مسيرة حياته بهذه العبارات المقتطفة من سيرته: "اسم أبي رحّال. اسم جدّي رحّال. اسم أمي حادّة. الرّحيل، الحدود، الحدّة، أسماء تعني العنف والألم وعدم الاستقرار، هكذا كانت طفولتي رحيلاً بين الدار البيضاء والقرية. عشت بين الشك واليقين، وفي كل مرّة، كنت أسأل نفسي، وأجد الحكمة تطفو فوق كل التساؤلات: المهم، ولا شيء مهم إلا أنا".
ناس الغيوان، ومعناها "أهل الفهامة"، أسطورة مغربية، مفخرة خالدة لأبناء الوطن الأحرار والمغاربة والعرب جميعاً.