لا أحد تجرّأ على ما فعلته في جنازة ابنها... هكذا ودّعت ميمونة المعمّرة (126 عاماً) حسن ذا الـ 86 عاماً
لانعرفإن كان ما كتبه الزمان لها، نعمة أم نقمة، أو ربما مجرّد مصيرٍ جبّارٍ لامرأة كهلة، قدّر لها أن تتلمّس تجاعيد وجه ابنها في سنواته الست والثمانين. أن تتحضّر لوداعه وتحيك له وسادةً ناعمة يحملها معه الى المرقد الأخير. وسادةٌ وملحفة، طرّزتهما بيديها قبل اشهر من سماع الخبر المنتظر. هي امرأةٌ لبنانية من عمر كتاب التاريخ، تدعى ميمونة عبدالله أمين، أو "الحجّة ميمونة" كما يناديها كلّ من أراد استذكارها بحتّوتةٍ صغيرة عن سنواتها المئة والست وعشرين. تتساقط الأوصاف والألقاب والخبريات عنها كزخّ مطر. لكن التوصيف الأكثر اثارةً للجدل الذي يطلقونه عليها هو غاسلة الأموات. هي التي منذ صباها اعتنقت تقليد الاهتمام بمراسم دفنهم، حتى بات معروفاً في مناطق الشمال أنها قبرت جيلين كاملين متعاقبين في عكّار. يسرد رئيس بلديّة الدبابية العكارية الأستاذ طالب صبحة لـ"النهار" وقائع الحدث الأليم الذي فرّق الأم المعمّرة عن صبيها الوحيد. يقول: "كانت تشعر أنها ستدفنه بيديها. وكانت تقول أنه سيأتي اليوم الذي ستسمع فيه خبر وفاته، بعد مرور عامٍ على إصابته بسرطان الكبد. وهكذا صار. توفّي ابنها حسن صبحة منذ أيام، وكان وداعها له مهيباً. كأنها امرأةٌ في العقد العشريني تودّع طفلاً. انها أمٌ حنونة بما للكلمة من معنى".
بكت الحجّة وانفعلت وأصرّت على حضور مراسم الغسل، وغسلت شخصيّاً قدمي ابنها وشاركت في تحضير مراسم الدفن وهي في كامل وعيها، هو الذي عرف بالأصالة والطيبة والاستقبال الحسن للضيوف. وهو كان يحيط والدته بعناية ورعاية كبيرتين، وقد أعرب في مناسبات عديدة عن فخره بها، وكان دائما قلقاً على حياتها وصحتها وكيفية استمرارها من دون ضمانات صحية واجتماعية.لا يخفي صبحة أن قوّة الحجّة ميمونة وحالتها الصحية تدهورت في السنتين الأخيرتين، بعد وفاة زوجة ابنها التي فارقت الحياة فجأة. كانت تحبّذ المرح والمصارعة والملاكمة، وتقاتل كلّ من رغب في تحديها هزلياً، لكنّ حنين الأيام سرق منها روح الدعابة. تاريخ ميلادها الحقيقي لا يزال يثير الشكوك. على الهويّة يظهر جليّاً أنها من مواليد عام 1890، لكنها تقول إن تاريخ إصدار أوراقها الثبوتية جاء بعد 10 سنوات من ولادتها. هذا ما قد يرجّح فرضيّة أنها أكبر من عمرها المؤرّخ على تذكرتها.
واذا ماسلّمناجدلاً أنها تستعدّ للاحتفال بشمعتها المئة والسبع والعشرين، هذا يعني أنها عاصرت حقبات طويلة بدءاً من زمن سيطرة النفوذ العثماني على المنطقة. "هي لا تزال بوعيها الكامل. تحكي وتمشي وتتكلّم عن أحداث الحربين العالميتين الاولى والثانية، واذا ما اتيح لأحد فرصة لقائها، سيدوم اللقاء لساعاتٍ طوال، يستمع فيها الزائر لأقاصيص نادرة عايشتها شخصياً دون كللٍ أو ملل". تعيش ميمونة اليوم برفقة أحفادها وأحفاد أحفادها بعد موت صبيّها، وهي محاطةٌ ببناتها الأربع وتعتبر "ست الكلّ" في الضيعة. يعتبرها الجميع مرجعيّة في المنطقة، كأنها باتت أشبه بقطعة تراثية نادرة في لبنان. يقصدها نوّابٌ ومسؤولون ذائعو الصيت ليطمئنوا على صحّتها ويستفيدوا من خبرتها الحياتية".
ميمونة عاشت عمرين حتى الآن
تشكّل ميمونة أمين حالة قد تكون غير مسبوقة في لبنان والمنطقة العربية، ويكاد البعض يبالغ في توصيف ندرتها ويعتبرها واحدة من بين أكبر المعمّرات في العالم، ان لم تكن أكبرهن على الاطلاق. واقعياً، واذا ما أردنا مقارنة سنوات ميمونة المئة والست والعشرين مع متوسّط العمر عند الولادة في لبنان، نجد أن معدّله وصل في العقد الثاني من الألفية الثانية الى 79.85 سنة. وهو يشهد سنوياً ارتفاعاً ملحوظاً وان كان طفيفاً. في حين أن متوسّط العمر في لبنان كان قد بلغ 77.07 سنة عام 2005 ، و 74.39 سنة عام 2000. وهو تخطّى عتبة الـ79 سنة عام 2010 حيث وصل الى 79.25 سنة. وفي تسعينيات القرن الماضي، بلغ المتوسّط 70.22 عام 1990 و72.07 سنة عام 1995. واذا ما عدنا بعقارب الساعة الى زمن الحرب الأهلية اللبنانية يتبيّن أن متوسّط العمر عام 1975 كان قد بلغ 67.2 سنة، و67.96 سنة عام 1980 و68.9 سنة عام 1985.هذا يعني أن الارتفاع الملحوظ في متوسّط عمر الانسان في لبنان، تمثّل بين عامي 1995 و2010، في أنه كان يعتبر مجرّد ارتفاعٍ خجول في الحقبة الزمنية التي سبقت هذه المرحلة.
وفي مقارنة بين تطوّر متوسّط عمر الانسان في لبنان ومتوسّط العمر في كندا، نجد أنه وصل الى 81.24 سنة حتى عام 2012 في الدولة الكندية في حين أنه كان قد وصل الى 79.24 سنة عام 2000، و79.84 سنة عام 2003. وبالتالي، ان متوسط العمر في لبنان اليوم يعادل متوسّط العمر في كندا منذ عقدٍ من الزمن، دون أن تشكّل النسبة فارقاً كبيراً. وفي مقارنة بين عمر الحجّة ميمونة، ومتوسط العمر في لبنان اليوم، يتبيّن أن الحجّة العكارية تجاوزت المعدّل المذكور بأكثر من 45 سنة، أي إنها عاشت حتّى الآن أكثر من عمرٍ كاملٍ ونصف العمر. وهي في حال قارنا سنواتها المئة والست والعشرين بمتوسّط العمر في لبنان عام 1960 حيث بلغ الرقم 63.28 سنة، نجد أنها عاشت أكثر من عمرين كاملين. هذا ما يلائم المقولة اللبنانية القائلة: "يا رب عطيني بدل العمر عمرين". هذا دون احتساب السنوات المرتقبة التي من المتوقّع أن تعيشها، هي التي لا تزال في وعيها الكامل، وفي حال اقتربت منها بغية تصويرها تسألك: "لماذا تريد التصوير؟ وعن ماذا تريدنا التحدّث؟".
ربما بالغنا في توصيف حلاوة الواقع وأدهشتنا المعمّرة التي شكّلت مادة إعلامية دسمة في أكثر من مناسبة، وها هي اليوم في وداع صبيّها الوحيد تعيد صبّ الزيت الساخن في انطباعات القرّاء. لكننا نسينا للحظة أن ميمونة لم تعش عمرين من الهناء والعسل. هي التي عاصرت زمن المجاعة والحصارات العسكرية والحروب الأهلية. وهي التي ودّعت كلّ أحبابها، حتى صارت أشبه بمجنونة عاقلة تنتظر الملقى الجديد يوماً. وهي التي لم تشتك ملل الساعات الثقيلة على وجدان الكائنات الحيّة في عالمٍ قد لا يحمل معه أحياناً سوى نسائم الضجر أو أخبار الفقد التي لا رجوع عنها. انها جبّارة. كإنسانة صلبة، تعيش في الموت، وحياتها صارت في المقلب الآخر.