بين يدي الرسول
جو 24 :
كتبت شذى خالد الخلفات -
بعيداً عن زخم الحياة ومشاغلها ... وبعيداً عن همومنا ومشاكلنا وكل تلك الأثقال التي تثقل كاهلنا ... دعني آخذك بعيداً عن كل ذلك ... دعني أبعدك عن ضغط العمل والوظيفة ... عن ضغط المحاضرات وعن أجواء الدراسة والامتحانات ... أعطني بضع دقائق من وقتك أنسيك فيها الدنيا وما فيها ... أسافر بك إلى خارج الزمان والمكان ... أعلم أنك تظنني مجنونة ؟!! جرب إذاً ... ماذا ستخسر فلا أظن أن هذه البضع دقائق ستضيع عليك صفقة العمر.
كل ما عليك فعله أن تترك كل شيء تفعله وتنسى كل ما حولك وتركز بكلماتي ... لا أريد منك أن تقرأها ... بل أريد أن تعيشها أن تتصور نفسك الشخصية الأساسية فيها ... جنون ... أعلم ذلك ... هل أنت مستعد ؟!؟!... لنبدأ ....
تقود سيارتك وسط طريق صحراوي تنتشر على جانبيه أشجار نخيل شامخة في السماء ,تتشابك أغصان النخيل المقابلة لبعضها وكأنها تحتضن بعضها البعض وفي لقائها فئٌ لعابري الطريق ... أما نسيم الهواء فهو كسيمفونية عذبة تتراقص على وجنتيك ... تتمنى أنت أن لا ينتهي الطريق وأن يمتد للأبد ,تستمر بالقيادة في هذا الطريق إلى أن تصل لنهايته ... تنظر أمامك لترى جبلاً يقطع عليك طريقك تترجل من سيارتك وتقف أمام الجبل ... شيء بداخلك يحثك على صعوده وتذعن أنت له ... تستمر بالصعود حتى تصل لقمته فترى كهفاً للوهلة الأولى لم يلفت انتباهك ... تنظر للجهة المقابلة لك فترى جبالاً أخرى تمتد من حولك وفي وسط هذه الجبال تتوسط الكعبة المشرفة ،تجول بنظرك في المكان ... الأشخاص ... المنازل ... اللباس ... الزمان ... المكان ... من قراءتك للتاريخ ومشاهدتك للتلفاز ... تدرك تماماً أنك في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ... تنظر للكهف مرة أخرى فتدرك تماماً في أي موضع أنت ... ترجع للخلف من هول المفاجأة فأنت تقف أمام غار حراء ... الغار الذي كان الرسول يتأمل خلق الله ... الغار الذي نزل فيه الوحي على سيدنا محمد – صلى الله عليه وسلم – تدب القشعريرة في كل خلية في جسمك ... لمجرد فكرة أنك تطأ في المكان نفسه الذي وطئ فيه الرسول ، تتلمس بيداك كل ذرة تراب في الغار لعل وعسى أن تلامس يداك أي مكان قد لمسه الرسول ... تتساءل في نفسك ماذا كان يفعل الرسول هنا ؟ أين كان ينظر ؟ ما الذي كان يفكر فيه ؟ تنظر لمكة ... من مكانك هذا ...كل شيء يبدو صغيراً ... الأشخاص ... البيوت ... وكل شيء ... " هل كان هذا ما تراه يا رسول الله ؟ هل كان كل شيء حولك صغيراً ؟ هل جال بفكرك أن هناك من هو أكبر وأعظم من هذا كله ؟ وماذا جال بخاطرك عندما نزل عليك الوحي ؟ عندما هرعت لسيدتنا خديجة منادياً " زملوني ... زملوني ! هل كنت تدرك حجم الرسالة التي ستحملها ؟ وهول ما أنت مقدم عليه ؟ أم أن الله قد أحاطك بعنايته ومدك بقوته ؟
تنزل من الجبل ويقودك حدسك مرة أخرى لدخول مكة ،تتجول في مكان ... ترى فرساناً متوشحين سيوفهم يتجولون بخيولهم ... وأناس يسجدون ويتضرعون للأصنام حول الكعبة وبعضهم يقدم القرابين والهدايا .... تضحك عليهم في قرارة نفسك وتحمد الله على نعمة الإسلام .
تتركهم وتستمر ،بالمشي فيشدك صوت أشخاص يتجادلون بصوتٍ عالٍ ويترامى لمسمعك كلمة " محمد " تذهب إلى مصدر الصوت لترى أشخاصاً متجمعين ... من الوهلة الأولى يبدو عليهم الثراء ... لباسهم ... كلامهم ... تصرفاتهم ... وبالطبع عدد الخدم المحيطين بهم ... علامات الغضب والضيق تبدو عليهم ... تسمعهم يصيحون ويتجادلون عما سببه محمد لهم هو والوحي الذي يدعي نزوله ... وعن الفوضى التي سببها في قريش ... "ساحر ... مجنون...محتال .... وغيرها من الصفات " يحيكون المؤامرات والخطط ... يتوعدون بالويل والعذاب لمن يتبع محمد ويقرون وثيقة المقاطعة ويعلقوها على الكعبة ، أما أنت فعيناك ملؤهما الفخر والعزة فهذا الذي يتحدثون عنه ويؤرق ليلهم هو رسولك وحبيبك ومن منا من لا يشعر بالفخر عند رؤية عظمة حبيبه وقدوته والدين العظيم الذي يدعو إليه .... ومرة أخرى تبتسم وتحمد الله على نعمة الإسلام .
تأخذك قدماك لمدينة الطائف عندما هاجر إليها الرسول - صلى الله عليه وسلم – إلى أولئك الذين ردوا عليك بجفاء وبغليظ القول وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم فقذفوه بالحجارة والشتائم حتى سالت الدماء من قدميه فاضطروه إلى بستان ... يستظل به وهناك دعا وتضرع لله عز وجل... فأرسل إليه ملك الجبال تحت أمره ليأمره أن يطبق الجبال عليهم ، فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً ... فمن مثلك يا رسول الله بخلقك فسبحان من سواك ... فالحمد الله على نعمة الإسلام .
تذهب نفسك إلى مكان آخر ... ترى الرجال يغادرون مكة وليس معهم أي متاع سوى ما يرتدون ، أعتذر ليس معهم شيء سوى دينهم وكفى به متاع ... ثابتين الخطى ... عاقدي العزم ... ولا شيء يثنيهم عن هذا الدين ... فأي ثبات وأي قوة تلك التي تملأ قلوبهم ... ذاك الإيمان الذي ملأ قلوبهم وانعكس على خارجهم فلا خوف ولا حزن فلقد تركوا أمرهم لله وليس أفضل منه حافظا ... رزقنا الله وإياكم قوة الإيمان الذي لا يزعزعه أي شيء .
وها هو الرسول – صلى الله عليه وسلم -وأبو بكر- رضي الله عنه - يهاجران سوياً ، ويقاسيان مشقة الهجرة ... يلتجآن إلى غار ثور فيدخل أبو بكر قبل الرسول فيلتمس بيديه الغار فإذا رأى جحر حية شق من ثوبه وغطاه به حتى لم يبق شيء من ثوبه وبقي جحر واحد فوضع عقبه عليه وفي الصباح عندما علم الرسول بما صنع دعا الله أن يجعل أبا بكر معه في درجته يوم القيامة فاستجاب الله له .... أي صداقة وأي أخوة تلك .... أي رفيق كنت يا أبا بكر سميت الصديق فنعم الاسم .
من مكة إلى المدينة لترى مؤاخاة المهاجرين والانصار .... ترى تكاتفهم يداً بيد في بناء المسجد النبوي .... ترى المدينة المنورة وهي تولد من جديد بقدوم الرسول – صلى الله عليه وسلم - إنه لولا الهجرة لم تكن المدينة، ولولا المدينة لم تكن دمشق، ولولا دمشق لم تكن بغداد ولا قرطبة، ولولا قرطبة وطليطلة لم تكن باريس ولا لندن ولا نيويورك؛ فلو أنصف المتمدنون لجاؤوا يحتفلون معنا بذكرى الهجرة”
تتنقل في الزمان والمكان فترى كيف نهض النبي بالمدينة ... كيف غدت بحضوره ... ترى غزوات الرسول ... بسالته وبسالة رجاله ... ينتصرون غزوة تلو الأخرى ،ليس بالكثرة ولا بالعدد بل بالدين الذي جاء به محمد ... تتمنى لو تشاركهم ... لو أن الله يكتب لك الشهادة معهم .... ترى الرسول وهو يرسل الرسل إلى أقاصي البلاد لينشر دعوته ... تراه يدخل مكة بعد أن غادرها قصراً .... فاتحاً اياها .... ترى أهل قريش وهم يطلبون الصفح منه ... تود لو أنه يذيقهم ما أذاقوه هو وأصحابه ولكنه الرحيم " اذهبوا فأنتم الطلقاء " هكذا يجازيهم بما فعلوه به .... بابي أنت وأمي يا رسول الله .
ثم ها أنت ذا في حجرة الرسول – صلى الله عليه وسلم – مستلقٍ بين ذراعي عائشة – رضي الله عنها – وملك الموت بالباب يستأذن الرسول الدخول ... يخيره بين البقاء في الدنيا وبين أن يلحق بالله ، فيختار النبي الرفيق الأعلى ... تجثو على ركبيتك تتضرع ... تصرخ بأعلى صوتك وتناجي الرسول " يا رسول الله اختر البقاء في الدنيا ... ابقَ لترى كيف أصبحت حالنا من بعدك .... ابقَ فنحن في أمس الحاجة إليك ... يا رسول الله انظر كيف تشتتنا من بعدك ... أصبح الأخ يقتل أخاه ... وأصبحت دماؤنا أرخص من شربة ماء .... يا رسول الله انظر كيف تشتت المسلمون من بعد أن وحدتهم ... انظر كيف أصبح أعداء الله يلعبون بنا ويحركوننا كالدمى ... كيف أصبح ديننا اسماً على الهوية ....
تنهمر دموعك ولا تجرؤ على رفع عينيك .... فبأي عين تنظر للرسول وأنت المقصر بحقه ... كيف تنظر له وأنت غارق بالذنوب .... كيف تنظر له وأنت لم تفعل شيئاً لهذا الدين سوى السكوت عن الحق ... ترى الحاكم يظلم ولا تفعل شيئاً ،ترى المظلوم ولا تنصره ... كيف تنظر له وأنت تجهل حتى دينك وأحكامه ولا تعرف عنه سوى قشوره ... فاغفر لنا يا رسول الله وادعوا لنا بالهداية والصلاح واشفع لنا يوم القيامة واجعلنا ممن يردون حوضك الكريم .
تعود أدراجك إلى المكان الذي تركت سيارتك فيه ... تلقي نظرة للخلف مودعاً كل ما رأيته وتعود لبيتك عاقداً العزم على جعل راسك مرفوعاً وصفحتك بيضاء عندما تلتقي الرسول يوم القيامة .