حدادين.. وحكاية تبديد الذات
كتب تامر خرمه
يبدو أن حماية الكينونة من الارتماء بإغراءات المنصب، من أصعب المهمّات التي فشل معظم من أصيبوا بلعنة الكرسي في تحقيقها.. حيث تجاوز كثير من صنّاع القرار في بلدنا حكاية تحقيق الذات إلى تبديدها، انسجاماً مع متطلبات المصلحة الآنيّة التي من أجلها تمّ استبعاد المبادئ والمواقف "التاريخيّة" في صياغة "الموقف الأخلاقي" الذي باتت تحكمه الواقعيّة المبتذلة.
بسام حدادين، اليساري الراديكالي السابق ووزير التنمية السياسيّة الحالي، تجاوز قدرة رئيسه على تعديم الذات مقابل تحقيق كينونة المنصب إلى ما يمكن تسميته بـ "تشويه الذات"، عبر إعادة تفكيك وتركيب جوهرها لتكون أداة أكثر فاعليّة لتجلّى "الظلّ الأمني- السياسي" في المساحة التي تشغلها كتلة المروّج.. وذلك في رحلة اختلاق "كينونة ثانوية" لا يستطيع حتى جان بول سارتر تفسير مبرّراتها.
براعة وقدرة لا يمكن تصوّرهما لترويج الآخر، كشفهما ما دار خلال المناظرة التي عقدت في فندق "اللاند مارك" مساء الثلاثاء، حيث انقلب الوزير على كلّ ما آمن به واعتقل من أجله ليدافع عن سياسات حكومة الظلّ، متناسيا في حديثه عن "النموذج الديمقراطي في الأردن" مئات المعتقلين الذين مازالوا يقبعون في سجون السلطة، رغم صدور وعدود وتعهدات رسميّة بالإفراج عنهم، ومتجاهلا ما تعرّض نشطاء الحراك من قمع وتعذيب داخل السجون والمعتقلات.
حدادين لم يكتف بالحديث عن "الحرية" التي تُمتّع بها السلطة "رعاياها" في الأردن -ضاربا عرض الحائط بكلّ ما معطيات الواقع- بل ذهب إلى مهاجمة المعارضة بكلّ ما أوتي من احتراف سياسي اكتسبه خلال جولته في أروقة العمل الحزبي، قبل أن ينسف كلّ ما آمن به، بل واعتبر أن السلطة التي تحارب الناس في لقمة عيشهم "متسامحة" في تعاملها الدركيّ مع مطالب الشارع بالخبز والحرية والعدالة الاجتماعية.
'أتحدى أن يكون هناك حالة تعذيب واحدة الآن في الأردن'.. قال الوزير محركا كافة أطرافه في دفاع محموم عن حكومة الظلّ.. وكأن ما رصدته كاميرات الصحافيين من قمع وتنكيل بحق المشاركين بالاحتجاجات السلميّة يدور في جزر الواق واق.. وكأن ما تعرّض له نشطاء الحراك من ضرب وتنكيل داخل السجون والمعتقلات، ومنع مادة الملح عن المضربين عن الطعام، ورفض توفير العناية الصحية للمعتقل عدنان الهواوشة الذي فقد عينه في اعتداء البلطجية على مسيرة ذيبان.. وغير ذلك من التجاوزات والانتهاكات يعدّ -بالنسبة لوزير التنمية السياسيّة- مجرّد وسيلة "ناعمة" للتعبير عن اختلاف بسيط في وجهات النظر !!
وفي ظلّ إصرار السلطة على فرض صحافة الرأي الواحد ومصادرة حرية الإعلام عبر قانون المطبوعات العرفي، يروّج صاحبنا للنموذج الأردني في "صيانة" حريّة الرأي والتعبير، بل ويحاول -عبر مفردات الاختباء خلف الملك- تصوير هذا النموذج على أنه مكرمة ربما لا يستحقها الشعب الأردني، الذي قدّم نموذجه في التعدديّة السياسية منذ خمسينيات القرن الماضي.
ويمضي حدادين إلى أبعد من ذلك في محاولته لإنكار الأزمة المركّبة التي تشهدها البلاد، داعيا المعارضة إلى عدم تفويت "فرصة" المشاركة بالانتخابات النيابية المقبلة، على الرغم من تعرية البرلمان من كافة مبرّرات وجوده عبر تغوّل السلطة التنفيذية، ناهيك عن التزوير الذي أقرّت الحكومات السابقة باقترافه.
وفيما يبدو تقتصر المشاركة السياسية بالنسبة لجهبذ اليسار السابق على تجميل المجلس النيابي ببعض أطياف الديكور السياسي، ولا نعلم إن كان الوزير يستند في هذه الرؤية إلى تكتيك استالينيّ أم تروتيسكيّ !!
أمّا فيما يتعلق بالمقارنة التي حاول عبرها الرجل استعراض تاريخه "النضالي"، فإن أحدا لم يحاول إخفاء ماضي أحمد عبيدات الذي كان مديرا للمخابرات في فترة الأحكام العرفيّة، ولكن كيف ينظر حدادين إلى ذاته عندما يتموضع في خانة التبرير لحكومة الظل والترويج لسياساتها المنحازة لصالح فئة احتكرت السلطة والثروة، في الوقت الذي يصطف فيه رجل المخابرات السابق في خندق المعارضة ؟!!
ترى.. هل نسي "الرفيق المتحوّل" ما كان ينظّر له حول الصراع الطبقي عندما اختار خندقه السلطوي المناهض لآمال وطموحات الأغلبيّة المسحوقة، في الوقت الذي بات فيه رجل المخابرات في صفّ المعارضة الشعبية ؟ وما هي الذات التي يسعى صاحبنا إلى تحقيقها عندما يدافع عن سياسات حاصرت المواطن في لقمة عيشه، وأدّى تناقضها مع المصلحة الوطنية العليا إلى تحولات طبقيّة جذريّة يمتلك حدادين القدرة النظرية المثلى لقراءتها وتفسيرها.
لا يمكن لمصطلح "تعديم الذات"، أن يصف ما اقترفه الوزير تحقيقا لاشتراطات المنصب، فالمقارنة التي سلّط عبرها حدادين الضوء على تبادل المواقع بينه وبين مدير المخابرات السابق، عكست تجلّي كينونة الرجل ونمط حضورها في خندق السلطة، ولكن وفق جدليّة تستوجب لتفسيرها بعث مؤسّس الظاهراتية إدموند هوسرل مجددا من رقاده، علّنا ندرك أسرار ذلك السحر الذي يمارسه "الكرسيّ" على رفاق الأمس ووزراء اليوم..