الثورات تعيد تشكيل العلاقات الجيوستراتيجية للوطن العربيّ
استأنفت أمس الأحد 16 كانون الأول / ديسمبر أعمال المؤتمر السنويّ لمراكز الدراسات السياسية والإستراتيجية في الوطن العربيالذي ينظمه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في الدوحة على مدار ثلاثة أيام. واشتمل اليوم الثاني للمؤتمر على ثلاث جلسات لمناقشة القضية الرئيسة في أجندة المؤتمر وهي "التحولات الجيوستراتيجية في سياق الثورات العربيّة".
وانقسمت الجلسة الأولى التي ترأسها الدكتور فهمي هويدي وتطرقت إلى البنية الجيوبوليتكية في الوطن العربيّ عشيّة الثورات العربيّة على فترتين. وبدأ القسم الأول من الجلسة بورقة للباحث وليد عبد الحيّ تحت عنوان "النظام العربيّ كنظام مخترق". وميزالباحث بين المنظورين الإستراتيجيّين في إدارة الصراع الدولي، واللذين تباين تفسيرهما في أدبيّات العلاقات الدوليّة المعاصرة،وهما إستراتيجية الاختراقوإستراتيجية إعادة التشكيل.ويتركّز التباين في تعيين حدود كلٍّ من الإستراتيجيتين وظروفها وآليّاتها،وهو ما يتّضح في النظريّات البنائية والنيوليبرالية والجيوثقافية ونظريّات العولمة وغيرها.
ووجد الباحث أنّ هناك ارتباطًا بين طبيعة تصويت الدول العربيّة على القرارات التي تتخذ في المنظّمات الدوليّة من حيث مدى مطابقة هذا التصويت لتصويت القوى الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية من جهة، وطلبها للقروض من المنظّمات الاقتصاديّة العالميّة من جهة أخرى.
بمعنى أنّ الدول العربيّة تكيّف قراراتها بما يتلاءم مع مطالب المنظّمات والدول المانحة للقروض.وهذا جزء من الاختراق الذي يتعرض له النظام العربيّ، إضافةً إلى اختراق النخب المثقّفة. أمّا الاختراق الخشن للنظام الإقليميّ العربيّ،فيجري من خلال القواعد العسكريّة المباشرة والتعاون الأمنيّ الكثيف بين تلك الأنظمة وبعض الدول العربيّة، إضافةً إلى الاختراق من خلال الأقلّيات.
يرى الباحث أنّ المشكلة الأساسيّة في الوطن العربيّهي عدم التجانس بين الحدود الاجتماعيّة والحدود السياسيّة، لذلك لا بدّ من إعادة النظر في هذه الحدود من أجل وضع حدٍّ لهذا الاختراق، خاصّةً في ظلّ مشروع الشرق الأوسط الكبير.
وعقّب الطيب زين العابدين على ورقة وليد عبد الحيّ، واتّفق مع ما جاء فيها من أنّ النظام الإقليميّ العربيّ هو أكثر الأنظمة اختراقًا في العالم. ولكن،رأى أنّ المتحدّث تجاهل عدّة مجالات للاختراق منها توجّهات رئيس الدولة الكبرى (الولايات المتحدة الأميركية) نحو تصوره لطبيعة الحاكم في الدول العربيّة وهشاشة الأنظمة السياسيّة في الوطن العربيّ.
ولاحظ زين العابدين أنّ المتحدّث تجاهل فشل مشروع الشرق الأوسط الكبير، ورأى أنّه كان ينبغي له عرض أسباب الفشل. ولم يتعرّض الكاتب لتأثيرات الربيع العربيّ التي حدّت من التدخّلات الأجنبيّة لأنّها جاءت بأنظمة أقلّ ارتباطًا بالخارج.ومن ثمّ طرح المعقّب الحلول التي يجب العمل بها من أجل وضع حدٍّ لهذا الاختراق، أهمّها الاستقلال الوطني في صنع القرار السياسيّ.
أمّا المداخلة الثانية،فكانت لمروان بشارة تحت عنوان "مصالح الولايات المتّحدة وأهدافها في النظام الإقليميّ العربيّ". وحدَّد الباحث المصالح الأميركيّة في المنطقة العربيّة بعدّة أمور، أهمّها الوصول إلى مصادر الطاقة دون منازعةقوًى أخرى، إضافةً إلى منع وجود منافسٍ دوليٍّ للولايات المتّحدة في المنطقة،وعدم وجود دولة عربيّة قادرة على وضع حدٍّ للتدخّل الأميركيّ. ويجد الباحث أنّ هناك اختلافًا بين وجهتَي نظر الولايات المتّحدة وإسرائيل في معنى "أمن إسرائيل"، إذ تجد الولايات المتّحدة أنّ أمن إسرائيل لا يعني ضمان "أمن الاحتلال الإسرائيليّ" الذي ترغب فيه
إسرائيل.
اعتمدت الولايات المتّحدة على إيجاد وكلاء لها في المنطقة قادرين على ضمان مصالحها من خلال دعهمهم بالأسلحة أو المساعدات الاقتصاديّة. وفي الوقت نفسه، تعمل على منع نهوضٍ عربيّ يحدّ من مصالحها. لذلك سنجد أنّها معادية لأيّ مشروعٍ عروبي قوميّ أو مشروعٍ إسلامي عروبيّ.
ويرى الباحث أنّ أوباما جاء بإستراتيجية براغماتيّة تعمل على تحقيق السّلام في الشرق الأوسط. ولكنّه اضطرّ إلى أن يخفض سقف التوقّعات مع التفاعلات الإقليميّة والدولية في تلك الفترة. وعندما جاءت الثورات العربيّة، قرّرت الولايات المتّحدة أن تتعاطى مع كلّ ثورة على حدة،وتستعين بحلفائها للتعامل مع بعض الثورات (السعودية في ثورتَي البحرين واليمن، وتركيا والخليج في الثورة السورية، والأوروبيّون فيالثورة الليبيّة).
يكمن خوف الباحث الأساسيّفي استغلال الولايات المتّحدة النزاعات المذهبية والاثنيّة التي قد تحدث في المنطقة العربيّة.
تدخّل أسامة أبو ارشيد معقّبًا على مروان بشارة، مشيرًا إلى اتّفاقه معهفي جلّ ما أشارت إليه ورقته وأثنى عليها،لكنهلاحظ غياب تقديم تحليل معاصر للأهداف الأميركيّة في المنطقة. إذإنّ الجميع متّفق على مصالح الولايات المتّحدة في المنطقة. ويرى أبو ارشيدأنّ الولايات المتحدة الأميركية أحدثت تغييرًا في مقاربتها تجاه المنطقة، لكنّها لم تحدث تغييرًا في إستراتيجيتها.
المصالح تحكمت في استجابة أوربا وروسيا والصين للثورات العربيّة
وعند استئناف الجلسة الأولى في قسمها الثاني، عرض الدكتور بشارة خضر، مدير مركز بحوث ودراسات العالم العربي في جامعة لوفان - بلجيكا ، ورقة عنوانها: "الاتّحاد الأوروبي والعالم العربي: من الحوار الأوروبي - العربي إلى "الربيع العربي"، ضمّنها تقييمًا لمجمل العلاقات بين العالم العربيّ والاتحاد الأوربيّ.
وأشار خضر إلى أنّ حاجة أوروبا إلى العالم العربيّ هي حاجة إستراتيجية، فهو مفتاحها إلى أنحاء العالم، وممرّها إلى القارّات الثلاث، وكلّ اضطرابٍ يحدث في البلدان العربيّة، يعيق - مباشرةً - حجم التبادل وتدفّق الثروات، لذلك فأمن الفضاء العربيّ مصلحة إستراتيجية حتّى لو كان ذلك على حساب الديمقراطيّة في المنطقة، وعلى حساب حقوق الشعوب العربيّة، وعلى حساب الشعب الفلسطينيّ.
وأضاف خضر أنَّ المصلحة الأوروبيّة تستلزم علاقةً قويّة مع العرب، فحجم التبادل بينها وبين العالم العربيّ يمثّل ثلثَي حجم التبادل بين الصين وأوروبا، ويفوق بدرجات حجم التبادل مع دول أميركا اللاتينيّة، إضافةً إلى مسألة هجرة القوى العاملة إليها، وعلى الرغم من أنَّ أكثر من 70% من القوى العربيّة العاملة المهاجرة، فهي تضمّ شريحة مهمّة من الطبقة الوسطى، تقتضي المصلحة الأوروبيّة دمجهم في مجتمعاتها، وهو الأمر الذي تعيقه سياسات العنصريّة والتمييز داخل المجتمعات.
وخلص بشارة إلى أنّ أوروبا ساهمت بصورةٍ غير مباشرة في الحفاظ على "الوضع السياسيّ القائم"، ولم تتسبّب علاقاته الحميميّة بالحكّام الفرديّين في إحراج البرلمان الأوروبيّ فحسب، بل قوّضت أيضًا صورة الاتّحاد الأوروبي في عيون العرب، على الرغم من الأهمّية الاقتصاديّة التي يمثّلها العالم العربيّ بالنسبة إلى أوروبا.
وعن استجابة أوروبا لـ"الربيع العربي"، قال بشارة إنّ الشراكة الجديدة التي قرّرها الاتّحاد الأوروبي مع العالم العربيّ تعتمد على صيغة "المزيد مقابل المزيد"، وهي تعني إصلاحات أسرع ومكافآت أحسن، وتتلخّص المكافآت في المال والسوق والتنقّل. ومع أنَّ زيادة المساعدات أمرٌ سخيّ، وفتح الأسواق أمر ثمين، وتعزيز التنقّل ضروريّ، ولكن الأهمّ من ذلك هو دعم الديمقراطيّة والترويج للأمن البشري من خلال إسداء المشورة لا إعطاء الدروس.
وأكّد بشارة أنّ مبادرات الاتّحاد الأوروبي الأخيرة لا تسير في الاتّجاه الصحيح لأنّها تعزّز علاقاته بإسرائيل في حين أنّ إسرائيل تحكم قبضتها على الأراضي الفلسطينيّة من خلال مصادرة الأراضي وسياسات الاستيطان والعقوبات الجمعيّة، وختم بشارة بقوله إنّ الربيع العربيّ يوفّر فرصةً نادرة للاتّحاد الأوروبي لتولّي زمام القيادة، ولإجراء عمليّة "إعادة تقييم إستراتيجي لسياسته".
من ناحيته، عقّب أستاذ العلوم السياسية الدولية في جامعة باريس خطّار أبو دياب، مشيرًا إلى ضرورة إبراز أكثر لأهميّة العلاقات الأوروبية مع إسرائيل، ومنها مثلًا شؤون البحث العلمي والتعاون التكنولوجي على مستوى عالٍ، فالاتّحاد الأوروبي ليس جمعيّة خيرية، بل هو تكتّل عملاق يوازن مصالحه الإستراتيجية وفق مقتضيات القوّة في المنطقة.
كما أكّد أبو دياب على ضرورة قراءة حجم الهوّة الثقافية بين دول العالم العربيّ ودول الاتّحاد الأوروبيّ، فقد لعبت عدّة مفترقات تاريخيّة في تشكيلها وكان أهمّها حرب الجزائر التي مثّلت علامةً فارقة في تركيب النظرات المتبادلة بين الأوروبيّين والعرب، كما لعبت تدفّقات الهجرة وآثارها الاقتصاديّة في توسيع الهوّة بين الثقافتين، والتي انعكست لاحقًا بصورة دينيّة.
وبعد هذا النقاش، قدّم الخبير في مركز الأهرام للدراسات الإستراتيجية الدكتور محمد فايز فرحات دراسةً بعنوان "السلوك الصينيّ الروسيّ إزاء موجة الربيع العربيّ: قراءة في ما وراء المصالح الاقتصاديّة"، والتي حاول من خلالها فهم السلوك الروسيّ - الصيني إزاء موجة الربيع العربي.
وقال فرحات إنّه منحازٌ إلى تقديم عواملَ أخرى لتفسير السلوك الصينيّ والروسيّ إلى جانب المدخل الاقتصادي، أهمّها الانتقال من نظام أحاديّ القطبية إلى نظامٍ متعدّد الأقطاب، والسعي إلى الحفاظ على المبادئ التقليدية التي تأسّس عليها النظام الدولي عقب الحرب العالمية الثانية، وتحديدًا مبدأ السيادة وعدم التدخّل في الشؤون الداخلية، وأخيرًا النظر إلى هذا السلوك باعتباره انعكاسًا لطبيعة الأنظمة السياسيّة الداخليّة في كلا البلدين.
وذهب فرحات إلى أنّ الأزمة السورية تُعدّ حلقة مهمّة في سياق عمليّة التحوّل من نظامٍ أحاديّ القطبية إلى نظامٍ متعدّد الأقطاب، لأنّ سورية واقعة في قلب الشرق الأوسط وهي إقليم مركزي يمثّل نقطة تقاطع مصالح مختلف القوى الدولية الكبرى الرئيسة في النظام الدولي الراهن، فقد مثّلت هذه الأزمة برأي فرحات اختبارًا لمدى صلابة المحاور الدوليّة والإقليميّة التي تطوّرت في العقد الأخير.
وأرجع فرحات تمسّك الموقفين الروسيّ والصينيّ بمفهوم السيادة وعدم التدخّل في الشؤون الداخليّة إلى أنّه يوفّر أساسًا لتضييق حرّية حركة القوى المهيمنة – سياسيًّا وعسكريًّا - على النظام الدولي الراهن وتحديدًا الولايات المتّحدة وحلف الناتو، ويشكّل أيضًا غطاء لحرّية حركة النظامين الحاكمين في روسيا والصين لمواجهة أيّ اضطرابات داخليّة قد تعوق عمليّة الصعود الاقتصادية الجارية في البلدين.
وخلص فرحات إلى أنّ الثورات العربية تمثّل تهديدًا للاستقرار الداخلي وللنماذج الوطنية في الإصلاح السياسي في روسيا والصين، وأنه نتيجة طبيعيّة لطبيعة الأنظمة السياسيّة في البلدين إذ يفتقدان الكثير مقارنةً بالنماذج المتطوّرة للديمقراطيّات المعاصرة.
وتدخّل مدير مركز الدراسات الآسيوية في كلّية العلوم الاجتماعية في جامعة الكويت محمد السيد سليم معقّبًا مشيرًا إلى ضرورة مراجعة علاقاتنا مع كلٍّ من الصين وروسيا خاصّةً بعد موجة الربيع العربيّ والعلاقة المريرة التي ربطت العرب بالغرب، وأضاف سليم إلى أنّ تجربة العرب بعلاقاتهم مع الغرب وخصوصًا الولايات المتّحدة الأميركيّة هي أنّهم يبحثون دائمًا عن مكاسبَ قصيرة، سرعان ما تتحوّل إلى خسائرَ على المدى الطويل.
وتناولت الجلسة الثالثة والأخيرة من اليوم الثاني موضوع "القوى الدوليّة والتغيّرات الجيوستراتيجية بعد الثورات العربيّة". وقدم فيهاالدكتور عبد الخالق عبد الله ورقة عنوانها " الولايات المتحدة والتّغيّرات الجيوستراتيجية في الوطن العربيّ" وعقّب عليها الدكتور حسن نافعة، وورقة ثانية قدّمتها الدكتورة نور هان الشيخ بعنوان " روسيا والتغيّرات الجيوستراتيجية في الوطن العربيّ" وعقّب عليها الدكتور مروان قبلان. كما تناول الدكتور وليد محمود عبد الناصر ورقة ثالثة عنوانها " الصين والتغيّرات الجيوستراتيجية في الوطن العربيّ" وعقّب عليها الدكتور محمد جلال نعمان.
وتتواصل أعمال المؤتمر في يومه الثالث (الاثنين 17 كانون الأول / ديسمبر) في جلستين تضم كل واحدة منهما فترتين، وتخصص الجلسة الأولى لمناقشة "القوى الإقليمية والعلاقات الجيوبوليتيكية مع الوطن العربيّ"، فيما تتناول الثانية موضوع "القوى الإقليميةّ والتغيّرات الجيوستراتيجيّة بعد الثورات العربيّة".