الاردن وخياراته الصعبة
أكد التيار القومي التقدمي أن المخرج الوحيد من الأزمة المركبة التي يعاني منها الأردن يتمثل بإجراء تغيير جذري في المسار الاقتصادي السياسي الاجتماعي الذي اختطه الحكم في العقدين الماضيين.
وشدد التيّار على ضرورة الإطاحة الفوريّة بالنهج النيوليبرالي والفساد بشكل تام وشامل، وإعادة صياغة العقد الاجتماعي على أساس قيم ومبادئ الدولة المدنية، وإعادة التأكيد على البعد العروبي للأردن، منوها إلى أن عروبة الأردن والدولة المدنية ضمانتان ضروريتان للحفاظ على أردنية الأردن وعلى تموضعه في مجابهة الخطر الصهيوني.
وتاليا نص البيان:
منذ أن قام الأردن وهو بحكم موقعه وعدد سكانه وتواضع قدراته الاقتصادية أكثر عرضة من غيره للتأثر بالأحداث الجارية في الإقليم. ولهذا السبب اتبع الأردن سياسة تجلت بالحفاظ على التوازن في علاقات الأردن الداخلية والخارجية وتجنب تصاعد التوتر في العلاقتين معًا، وفي حال حصول ذلك كان الموقف الرسمي يسعى لإحداث انفراج في إحدى هاتين العلاقتين على الأقل. وبذلك أظهرت السلطة قدرة على التقاط اللحظة وتغيير المسار عند اقتضاء الحاجة.
أما الآن، فإن الأردن يمر بأزمة ربما كانت فريدة من نوعها حيث تتضافر الأزمة الداخلية المتفاقمة في ميادين الاقتصاد والاجتماع والسياسة مع الأزمة الخارجية الناجمة عما آلت إلية الانتفاضات الشعبية العربية واختطافها على يد الجماعة الأفضل تنظيمًا وتمويلًا (الإخوان المسلمين). أي أن الأردن الآن في خضم أزمة مزدوجة تجعل من الصعب اللجوء للداخل للحماية من المتغيرات الخارجية من دون تقديم تنازلات داخلية جوهرية، كما تجعل التكيف مع المتغيرات الخارجية صعبًا من دون ضرب التوازنات الداخلية… إنه حقًا لمأزق غير مسبوق!
في محاولة لفهم الوضع سنحاول تبسيط الواقع إلى أقصى حد لندرس خيارات الأردن: أمامنا محاور قيد التشكل في المنطقة، طبعًا لدينا محور إيران-سوريا-حزب الله (والبعض يحلو له أن يضيف العراق إلى هذا المحور)، لكن هذا المحور مشغول بهمومه وغير قادر على المبادرة على ما يبدو، وعلى أي حال فالأردن الرسمي يجد نفسه بالتأكيد خارج هذا المحور. وبذلك فإن الأردن أمام محور من اثنين:
الأول هو محور قطر-مصر-تركيا-غزة-الإخوان المسلمين وبالتأكيد فإن الأردن الرسمي يجد نفسه أيضًا خارج هذا المحور، وتكفي نظرة سريعة إلى المواقف الداخلية المتعلقة بالانتخابات لتؤكد هذا الاستنتاج ولتظهر الجانب الخارجي من هذا الكباش الداخلي الذي شهدناه في الأشهر الماضية؛ فهذا المحور يسعى للهيمنة على القرار الأردني، وهو يرى إن في سقوط سوريا ومصر في حضن الإخوان المسلمين فرصة ذهبية لفرض تغيير على مقاسه في الأردن. ويعزز هذا التصور سعي الإخوان المسلمين وتحالفهم المذكور للسيطرة على الأزهر.
أما المحور الثاني فمحور غير فعال في الظاهر ويتكون من السعودية الكويت والإمارات. ونظرًا للضغط الذي ينجم عن المحور الأول، فإن الأردن يجد نفسه أقرب للانضواء في هذا المحور بالرغم من الشروط الصعبة التي تفرض عليه، وما حجب الدعم أو تأخيره والتعامل المهين مع طلب الأردن الانضمام لمجلس التعاون الخليجي (بغض النظر عن موقفنا منه) إلا دليلًا على أن الأردن لا يحظى بالقبول التام في هذا المحور. وهذا المحور يعمل في الخفاء لأن الإدارة الأمريكية غير راضية عن بعض أدواته المرتبطة بالقاعدة مع أنها تحتاجه، لذلك تراها تغض الطرف عما يمكنها غض الطرف عنه. وهذا المحور منافس للمحور الأول، يتحالف معه في لحظات (مثل غزوة الصناديق) ويتناحر معه في أخرى (مثل تحريم الخروج على مبارك أو مثل معركة إمارة بيت المقدس في غزة) أو يسعى لإثبات نفسه في مواجهته كما في بروز القوى السلفية ومنها جبهة النصرة في سوريا مؤخرًا. إن الاضطرار الأردني للتعاطي مع هذا المحور يمثل تهديدًا استراتيجيًا للإصلاح وللتوازنات الداخلية.
الملفت للانتباه هو كون المحوران حليفين لأمريكا، وما تنافسهما إلا ضمن الحدود التي تسعد الإدارة الأمريكية التي لا تمانع أن يتنافس حلفاؤها على إرضائها، ففي تنافس هذين المحورين تفتيت للوطن العربي عبر إنعاش سياسات الهوية والتكفير والإقصاء، وتدمير لكل بؤر التنوير والتقدم، وفرصة ذهبية للاقتتال “المنخفض الشدة” الذي لا يورط الإدارة الأمريكية في حرب، وينعش سوق السلاح، ويضع إسرائيل في موقع مريح استراتيجيًا.
هذان المحوران وهيمنتهما على الإقليم يمثلان مأزق الأردن الرسمي الذي لا يكاد يعرف أين الملاذ. فاستمرار الصراع بينهما يجعله عرضة للتجاذب والضغوط وعلى الأخص الضغط الاقتصادي، وسيكون أي إنقاذ من أي محور مشروطًا؛ فالمحور الأول يريد السلطة السياسية، ويغطي مطالبه بدعاوى الإصلاح، أما المحور الثاني فمستعد للدفع لكي يتم التراجع عن الإصلاح (الذي لا نزال بانتظاره). ولو شاء الأردن حل المأزق بالانضواء في أي منهما فإنه سيفتح الباب أمام تغيير كبير في التوازنات الداخلية إلى حد يغير طبيعة العلاقة التاريخية بين الحكم والشعب وهذا بحد ذاته مسار خطر.
إننا نخشى من أن تؤدي صعوبة شروط كلا المحورين وتفاقم الأزمة الخارجية واستمرارها في ظل تفاقم الأزمة الداخلية إلى خلق ظروف موضوعية تدفع الأردن الرسمي دفعًا إلى الاحتماء بإسرائيل. قد يرى البعض أن هذا السيناريو خيالي، ولكن استمرار الضغط على الأردن الرسمي في ظل غياب القرار الواضح بتحمل أثمان الانفراج الداخلي يخلق وضعًا غير قابل للاستمرار – فأين المفر؟ لا يزال الأردن يحاول شراء الوقت بانتظار انجلاء الصورة في سوريا. وفي الحقيقة فإن السيناريوهات المتعددة لسوريا تقلق الأردن؛ فأي انتصار في سوريا لأي من المحورين المذكورين يشكل تحديًا جديًا له، أما السيناريوهات الأخرى فتفرض بدورها تحديات أخرى.
وفي هذا السياق نلحظ اكتساب فلسطين مؤخرًا صفة دولة غير عضو في الأمم المتحدة، ومع أن هذا الأمر يعد مكسبًا من حيث المبدأ للشعب الفلسطيني، إلا إنه أمر قابل للاستغلال بأكثر من طريقة. وما يهمنا هنا هو إمكانية استغلال هذا القرار لإعادة صياغة العلاقة الأردنية-الفلسطينية على المستوى الرسمي (حيث التلاحم ووحدة المصير هو سمتها على المستوى الشعبي). ومن وجهة نظر السلطة الفلسطينية فإن هذا القرار يمثل فرصة ومخرجًا حيث إنها تعيش مأزقها الخاص سياسيًا واقتصاديًا وأخلاقيًا، وحيث الاستيطان يقضم الأراضي، وحيث أن حل السلطة ليس ممكنًا بحكم المصالح التي ترعرعت على مدى العقدين الماضيين. وقد ذكرت صحيفة القدس العربي في عدد 13/12 أن أبا مازن قد طالب بالاستعداد إلى مرحلة تنتقل فيها السلطة إلى “مشروع الكونفدرالية مع الأردن ومع أطراف أخرى من المجتمع الدولي”. لاحظ “أطراف أخرى”!!!
هل يعقل أن توفر إسرائيل “حلًا” لمأزق السلطة الفلسطينية في ظل صعود حماس، ولمأزق الأردن في ظل الصراع عليه؟ هل هذا هو البينيلوكس الذي تم الترويج له على مدى سنوات عدة؟ هل هذا حل، أم هروب إلى الأمام؟ هل يقوى المجتمعان الأردني والفلسطيني على تحمل تبعات هذا القرار؟ لا داعي للاستفاضة هنا، فالحل سيكون حلًا على مقاس إسرائيل، فلا حق عودة، ولا عدالة، ولا إصلاح ولا هم يحزنون. ترتيب كهذا قد يدعو الإدارة الأمريكية إلى الضغط على كلا المحورين لدعم الأردن، لكن الثمن الذي سندفعه سيكون مرتفعًا للغاية وسيكون عنوانه العريض تفكيك الرابط الذي يصنع الشعب وتحويل الناس إلى مجرد سكان. والآمال التي تروج لمليارات الدولارات التي ستنهال علينا لقاء هذه الخطوة سيتبين أنها أوهام لا تعدو كونها شراء وقت قبل أن تتفجر التناقضات مجددًا بشكل أكثر حدة. لا داعي للاستفاضة هنا، فالمخاطر واضحة لكل ذي عينين، لكن فلننهي هذا المقال باقتراح البديل.
مخرج الأردن الرسمي هو أن يدرك أن مخرجه هو المخرج الشعبي – أي الانفراج الداخلي. وعلى الأردن الرسمي أن يتحمل بشجاعة مسؤولية المأزق الذي وصلنا إليه بعد سنوات من العبث فيدفع الثمن الضروري للخروج من المأزق الشامل. وهذا الثمن ليس حملة علاقات عامة تتخذ شكل حوارات أو تخفيض أسعار أو إطلاق سراح بضعة معتقلين أو تحويل بضعة أفراد لمكافحة الفساد (على أهمية هذه الخطوات)، إن الثمن هو تغيير جذري في المسار الاقتصادي السياسي الاجتماعي الذي اختطه الحكم في العقدين الماضيين. ومن جملة العناوين التي يمكن التطرق لها:
1- الإطاحة بالنهج النيوليبرالي والفساد بشكل تام وشامل وسريع وبدون “تحميل جميلة”. فهذا النهج هو المسؤول عن إعاقة الانفراج الداخلي وبالتالي فهو الذي يخلق الظروف الموضوعية للسيناريو الإسرائيلي- ناهيك عن “مآثره” في الاقتصاد والصحة والتعليم والثروة الوطنية… إن أي محاولات لتطعيم الحكومة القادمة بوجوه يسارية أو قومية أو ليبرالية لن تجدي نفعًا لأن الحد الأدنى الضروري للخروج هو التغيير الجذري وإعادة التموضع وليس التجميل وشراء الوقت. باختصار، الثمن المطلوب دفعه يقع على عاتق المسؤولين عن إيصالنا إلى هذه المرحلة، وعلى المستعدين للتعاطي مع الحلول الوسط أن يدركوا مخاطر استغلالهم كديكور في حملة علاقات عامة ومن ثم التخلص منهم كثمن ضروري للدخول في أي محور من تلك المطروحة. وفي حال عدم التخلص منهم، فإن المطلوب منهم أن يرضوا بهذه الأحلاف وأن يروجوا لها. إن أي مشاركة يسارية أو قومية أو ليبرالية في الحلول الوسط قبل ضمان هذا التغيير المطلوب إنما تعادل قبولهم أن يكونوا كرت مساومة في يد النيوليبراليين وبذلك يتحسن الموقع التفاوضي للأردن الرسمي إذا قرر الانضواء في أي من المحاور المشار إليها.
2- إعادة صياغة العقد الاجتماعي على أساس قيم ومبادئ الدولة المدنية. والدولة المدنية هي الدولة التي ترعى “الملعب السياسي” من دون أن تكون لاعبًا سياسيًا. إنها الدولة التي تصون المواطنة والقانون وتضمن لكل ذي حق حقه.
3- إعادة التأكيد على البعد العروبي للأردن فبدون هذا البعد يسهل الانضواء تحت الجناح الإسرائيلي من جهة، ومن جهة أخرى ينحل الشعب إلى هويات فرعية متناحرة. عروبة الأردن ليست شعارًا بل هي العلاقة الأولى التي تضمن تماسكه. عروبة الأردن والدولة المدنية ضمانتان ضروريتان للحفاظ على أردنية الأردن وعلى تموضعه في مجابهة الخطر الصهيوني.
تحت هذه العناوين تندرج عناوين فرعية كثيرة مثل قانون الانتخابات، التعليم، الصحة وما إلى ذلك مما لا يمكن الخوض فيه في هذه العجالة.
يبقى أمامنا بضعة تساؤلات: هل يمتلك الأردن الرسمي الإرادة السياسية لخوض هذا المسار أم تراه سيتردد إلى درجة أنه لن يجد أمامه إلا أحد المحورين أو السيناريو الإسرائيلي؟ ألن يكون التردد في هذه الحالة عاملًا من عوامل تفاقم الأزمة؟ ألا يشكل الإصرار في السير نحو الانتخابات تعميقًا للأزمة؟ هل هناك إدراك أن الحلول الأمنية لن تكون مؤثرة في حال تحول أي من تلك السيناريوهات إلى واقع؟
لو اتبع الأردن مسار المخرج الشعبي فهل سينجح؟ هل يمكن أن يكون جزيرة لوحده بمعزل عما يجري في الإقليم؟ هل سيقوى على متطلبات هذا السيناريو الشعبي من دون سيادة مبادئ الدولة المدنية؟ هل هذا المخرج ممكن من دون صراع اجتماعي؟ ومن دون أدوات لإدارة هذا الصراع بصورة سلمية حضارية؟
التيار القومي التقدمي (تحت التأسيس)
المنسق العام: م. خالد رمضان
عمان 24122012