بانوراما الحراك.. لعنة العزف المنفرد وتحديات اليسار
كتب تامر خرمه
بعد اللقاء الذي جمع شبيبة الحزب الشيوعي بالحراكات الشبابيّة والقوى الناشئة، عادت الأحزاب القومية واليسارية إلى ساحات "الحسيني" التي تغيّبت عن فعاليّاتها منذ انتهاء هبّة تشرين، حيث تبنّى الائتلاف الشبابي والشعبي للتغيير فعاليّة الجمعة بعد لقاء آخر جمع كلاً من شبيبة حزب الوحدة الشعبيّة والحزب الشيوعي.
ورغم تواضع أعداد المشاركين في فعاليّة الجمعة، إلا أن أهميّتها تبرز من خلال الدور الذي لعبه نشطاء الحزب الشيوعي، الذين تمكنوا بعد معركة النضال الداخلي من فرض إرادتهم وحمل قيادة الحزب على تغيير موقفها ومقاطعة الانتخابات النيابيّة، لتبدأ الشبيبة بعقد سلسلة لقاءات مع القوى الناشئة، وتمهّد لعودة الأحزاب اليساريّة إلى الشارع الذي اقتصرت فعاليّاته -لعدّة أسابيع- على الحراكات والتيّارات الناشئة دون أي غطاء سياسي.
التنسيق بين الحراكات الشبابيّة والشعبيّة من جهة، والأحزاب السياسيّة من جهة أخرى هو ما يجعل لهذه الفعاليّة أهميّتها بصرف النظر عن أعداد المشاركين فيها أو مكان تنظيمها، الذي ثبت بعد التجربة أنّه مجرّد بؤرة استقطاب إعلامي لا يمكن لها أن تقود إلى استنهاض الشارع وتحرير الحراك من إطاره النخبوي.
ولكن رغم كلّ شيء، فإن العناصر الشابّة في الأحزاب السياسيّة بدأت بكسر حالة الجمود الناجمة عن احتكار القرار لدى الرموز الحزبيّة، لتسهم الشبيبة بدور فاعل في فرض معادلة جديدة لأشكال وآليّات العمل، تنسجم مع معطيات الواقع الذي بدأت تتبلور فيه قوى وتيّارات تسعى إلى تجاوز الصيغة الكلاسيكيّة لصناعة القرار التنظيمي.
أمّا التقاء شبيبة حزب الوحدة الشعبيّة وشبيبة الشيوعي في فعاليّة مشتركة ضمّت مختلف الحراكات الشبابيّة والتيّارات الفتيّة -كتيّار التغيير والتحرير والتيّار القومي التقدّمي- فقد يكون مؤشرا للارتقاء بالعمل المشترك نحو صيغة ائتلافيّة حقيقيّة، تتجاوز تلك الصيغ الشكليّة التي افتقرت إلى شروط استمرارها نتيجة لهيمنة عقدة النرجسيّة وتضخم الذات لدى بعض أطرافها.
ومن جهة أخرى، فقد تنجح الشبيبة الحزبيّة في تجاوز خطاب المعارضة الخجولة التي اقتصرت على تقديم النصائح للسلطة، دون ان تحاول تشكيل وعي جمعي رافض للسياسات الرسميّة، وقد كان لهذه الشبيبة دورها البارز خلال هبّة تشرين في ملامسة همّ المواطن واستنهاضه لمعركة التغيير السلمي.
ولكن.. هل ستتمكن شبيبة الأحزاب اليساريّة من حمل قياداتها على تجاوز لعبة العزف المنفرد والارتقاء بالعمل الجماعي عبر صيغة ائتلافيّة تضمّ مختلف القوى التقدميّة ؟
قبيل الانتخابات النيابيّة السابقة، آثر حزب الوحدة الشعبيّة التحالف مع الإسلاميين نتيجة وحدة الموقف من تلك الانتخابات، وبالفعل كان لهذا التحالف دوره في تفعيل "المقاطعة الإيجابيّة".. ولكن مرحلة ما بعد الانتخابات شهدت العديد من الخلافات داخل لجنة التنسيق الحزبي، ولا سيّما فيما يتعلّق بالقضايا الخارجيّة، الأمر الذي دفع حزب الوحدة الشعبيّة إلى المبادرة بتشكيل ائتلاف الأحزاب القوميّة واليساريّة.. غير ان هذا الائتلاف مازال يفتقر إلى عوامل نجاحه حتى اليوم، إثر تباين المواقف من العمليّة الانتخابيّة من جهة، ونتيجة لميل "الوحدة الشعبيّة" إلى التحالف مع الاسلاميين من جهة أخرى.
التقارب بين "الوحدة" والاسلاميّين، سواء فيما يتعلق ببرنامج وآليّات عمل الجبهة الوطنيّة للإصلاح أو بالموقف من الانتخابات النيابيّة، انعكس سلباً على تجربة ائتلاف الأحزاب القوميّة واليساريّة، وذلك نتيجة إصرار بعض الأحزاب على اللعب وفق قواعد السلطة عوضاً عن الاضطلاع الجدّي في المواجهة السلميّة.. ولكن ما زاد الطينة بلّة هو تحالف "الوحدة الشعبيّة" مع الاسلاميّين في انتخابات نقابة المهندسين، التي باتت تحتكم إلى ذهنيّة إقصائيّة أثارت حفيظة ممثلي الأحزاب القوميّة واليساريّة.
أمّا اليوم، بعد أن نجح الشيوعيّون في استقطاب دماء جديدة للحزب، وبلورة رؤية شبابيّة قادرة على فرض أبجديّاتها، وإعلان قرار مقاطعة الانتخابات النيابيّة، فإن الفرصة باتت متاحة أمام حزب الوحدة الشعبيّة لإعادة بناء تحالفاته، بما يسهم في عودة اليسار إلى موقعه الطبيعي في المشهد السياسي.
الإيمان بضرورة العمل المشترك كان واضحا في نشاط شبيبة الحزب الشيوعي خلال الفترة الماضية، كما كان لتيّار التغيير والتحرير دوره الجوهري في بناء صيغة ائتلافيّة تجمع معظم الحراكات الشبابيّة والشعبيّة، لتلتقط زمام المبادرة وتدفع بكل ثقلها في محاولة الخروج من حالة الركود التي هيمنت على الحراك بعد هبّة تشرين.. وأمام هذا الواقع فإن حزب الوحدة الشعبيّة الذي لم يجد أمامه سوى التحالف مع الإسلاميّين قبيل الانتخابات النيابيّة السابقة، بات يمتلك فرصة ذهبيّة لتفعيل دور اليسار في حال استجاب لمبادرات رفاقه في الحزب الشيوعي.
تجاوز الخلافات الثنائيّة بات ضرورة لا يمكن تجاهلها، حيث يفرض الواقع معادلة جديدة تستوجب توحيد الجهد والارتقاء بالعمل المشترك، بعيدا عن محاولة استغلال القوى الناشئة والتعامل معها على أنّها مجرّد أدوات لترجمة قرارات المكتب السياسي لهذا أو ذاك الحزب.. وفي حال أراد اليسار حقاً أن يتجاوز ما يسمّى بـ "ثنائية السلطة والاسلاميّين" فإن عليه قراءة هذه المعادلة التي دفع الواقع باتجاه بلورتها.
العمل المشترك كان بوصلة الحراكات الشبابيّة والشعبيّة في الجنوب، حيث يستمرّ التنسيق بين نشطاء الحراك على أعلى مستوياته، ولم تكن مسيرة الجمعة التي شهدتها مدينة الطفيلة سوى مؤشر على ما ستشهده الأيّام المقبلة من تفعيل للعمل الوحدوي في معركة التغيير السلمي، حيث شارك في تلك المسيرة كلّ من حراكات الطفيلة، والكرك، والعقبة، والشوبك، وحراك قرى الحمايدة، وحراك الحجايا، تحت شعار 'جمعة الارادة و التصميم '.. فهل تنجح الحراكات في العاصمة عمّان بالارتقاء إلى ذلك المستوى الذي بلغه حراك الجنوب ؟! سؤال ما زالت إجابته رهن بالقدرة على تجاوز عشق الذات والرغبة الجامحة بالعزف المنفرد على أوتار الاستقطاب الإعلامي.