الأختام الطينية هوية سكان الخليج الأولى
منذ أكثر من نصف قرن إلى يومنا هذا والبعثات الأثرية في دول الخليج العربي وسواحلها، ما زالت تعثر في القبور الأثرية على الأختام المتميزة..من بين مجموعة ما يعثر عليه من عظام وفخار وأسلحة ومجوهرات وأدوات الحياة الأخرى.
واللافت أن الميت آنذاك لم يكن يُدفن بلا ختم، مهما كانت درجته الاجتماعية في الحياة، ليضم الختم معصمه على شكل إسوارة، أو في عنقه على شكل قلادة، حيث كان المعتقد قبل الأديان التوحيدية الثلاثة، بأنه سيحيا من جديد في العالم الأسفل، عالم القبور، فلا بد من التعريف به أثناء مروره إلى هناك بهذا الختم الذي يُعد جواز سفره المعتمد في العالمين الأعلى والأسفل، ولكون هذا الختم هوية هذا الإنسان السالف في المنطقة.
فلا بد أن يحمله كل فرد على حدة، ومن المدهش أننا لم نجد إلى الآن ختمًا يشبه آخر رغم المئات من الأختام في مجمل سواحل الخليج العربي، والبحرين بوصفها سليلة الحضارة الدلمونية الممتدة من جبيل في لبنان إلى جزيرة فيلكا الكويتية، وتماثلها أختام أم النار في أبوظبي، ومليحة بالشارقة وساروق الحديد في دبي.. وإلى ماجان في عمان، بالإضافة إلى مواقع أثرية أخرى.
وثيقة
وسواء في حضارة دلمون أو في منطقتنا أو لدى الحضارات القديمة الأخرى حولنا، من بلاد الرافدين مرورًا بعيلام وماجان فإلى بلاد السند، فإن الختم كان ضرورة ثقافية واجتماعية واقتصادية وأمنية، فهو بمستوى مسميات هامة تعادل في أيامنا هذه أوراقا رسمية وإثباتات أو مستندات مثل: براءة الذمة والرخص والمأذونيات بأنواعها.. وكذا لكونه تعريفًا بالممتلكات، وبوصفه هوية الفرد إن كان بحارًا أو صيادًا أو كاهنًا أو تاجرًا أو معالجًا، أو حتى ربة البيت.
فإن الجميع يرتدي هذا الختم الصغير المصنوع من مواد مختلفة تصنع من أحجار كريمة، وصلدة وصابونية ناعمة، وأصداف وأطيان وأخشاب.. وتبقى كلها منقوشة ومحفورة بدقة، ليبقى الهدف هو التعبير عن حامله رسمًا وحفرًا.
تاريخ البصمة
وأثناء فحصي لتلك النماذج التي وجدتْ طريقها نحو متاحف دول الخليج العربي. تبين لي انه لا شك في أن جميعها رُسمت من قبل فنانين مهرة، لما في كل ختم من ابتكار متفرد لا يشبه معه أيها الآخر.
ورغم أعدادها الهائلة ورغم صغر حجم الختم الذي لا يتعدى قطره ما بين السنتمتر الواحد إلى الثلاثة سنتيمترات، فإن تلك الرسوم العديدة في تلك المساحة الضيقة التي لا ترى إلا إذا دمغت بالطين، لكنها بقيت رسوما إبداعية ومبتكرة تمثل هوية صاحب كل ختم، لتماثل الأختام البصمة في وقتنا الحاضر.
معايير
لا أحد يستطيع الولوج تمامًا في صناعة الأختام الخاصة وقوانينها والطريقة الدقيقة لأسلوب صناعها، سواء كانت تلك الأختام أحادية الوجه أو مزدوجة الوجه أو أسطوانية، لكنها حتمًا قامت على تصنيفات ومعايير هامة، فرغم الأشكال المسطحة لوجه الختم الأمامي، فإن الرموز بقيت مختلفة عن أي ختم آخر، وهذا ما نسميه بالإبداع الفني والفكري لدى صانعه، حيث لا تقليد. أما الوجه الخلفي للختم الذي يتخذ شكل زر فإنه بخطوط طولية لا يتعدى عددها في المجمل، الثلاثة خطوط.
يبقى الشرط الثابت في صناعة الختم هو الثقب لإدخال الخيط فيه كي يتدلى على العنق أو اليد.. ولعل الأهم من كل ذلك، دلالات تلك الأختام وما يمكن قراءته من تلك الأشكال، ليُعد ختم الماضي كالهوية في حاضرنا، التي تعتمد على مسمى حامله وعمره وصورته الشخصية ووظيفته.. للتعريف به، وهذا ما جعلنا نتعرف أكثر على ماضينا القديم وعلى حياة أولئك القدماء ونمط عيشهم الاجتماعي والسياسي والاقتصادي رغم مرور آلاف السنين، لمجرد قراءتنا للختم..
لنقتحم بالتالي ذوق المجتمعات الخليجية في فن التشكيل والمواهب الفنية في تلك الحقب، بالإضافة إلى أسلوب العيش والعلاقات السياسية والمبادلات التجارية.. لتصبح الأختام من أهم المصادر التي يعتمدها الباحث أثناء بحثه في مواضيع تعود إلى ألفي سنة قبل الميلاد.
رموز
تفوقت بعض المناطق في أختامها الحجرية النادرة بشفافيتها النقية، كما في بلاد الرافدين، أو كما أختام جزيرة فيلكا في الكويت، المحتفظة بإطارها..وغيرها من الأختام التي تتميز بمكانة أصحابها من ملوك وكهنة وتجار ومُلاك.
كما إن مجمل الأختام بقيت في زواياها حاضرة برموزها الدينية، وبالتالي نادرًا أن لا نجد الشمس أو القمر أو النجوم غير حاضرة في الختم، لارتباطها جميعًا بالعبادات في أرض الخليج العربي، قبل ظهور الأديان السماوية، وبالأخص الدين الإسلامي الذي أنهى وجود هذه العبادات تمامًا من المنطقة.
الطين
لا ننكر سر جاذبية الأختام الحجرية الثمينة، إلا أن الأختام الطينية بقيت الشائعة والغالبة في أعدادها من بين الأنواع الأخرى في القبور، لأنها لعامة الناس وهم من كانوا يشكلون معظم السكان.. وحتى هذا الطين لم نجده سليم الشكل في معظمه، فإن الجيد منه سُخّن جيدًا في الأفران بعد النقش عليه ليصمد كل تلك الأزمان في داخل القبر، بينما التالف منه اكتفى بتجفيفه عبر تعريضه لأشعة الشمس.
ختم مربع
يتضمن هذا الختم الفيلكاوي، المربع النادر، نقشاً محفوراً في الطين، لرجل عارٍ يقف في وسط قاربه المسطح، ويواجه الشمس، وليس هذا لغزًا أو طلسمًا، لكنه ختم مرسوم لقراءة هوية حامله.. ليقول بأنه يواجه الحق والحقيقة، وذلك حسب اعتقاده، حيث يبرز الضوء من هذا القرص الذي ينير طريقه.
بالإضافة إلى جرار الطعام أو التخزين ليمضي برحلته كبحار.. وعمود أو جذع خلف ظهره، ليوازن هذا الفنان التشكيلي الأول منتصف المساحة للختم ويأخذ عين الناظر نحو التوازن. ويعود هذا الختم إلى الألف الثالث قبل الميلاد، تلك الفترة الدلمونية المبكرة وحضارتها التي ضمت ساحل الخليج الجنوبي والغربي.
ختم دائري
كثيرة هي الأشكال، ومتنوعة، في هذا الختم الحجري، فهناك نجمة وزهرة وبشر وحيوان ووعل وديك وثوران وظباء ونبات الأرز، قش ربما، غصن أو فرع شجرة، وذراع ممدودة نحو نجم قطبي..
وباعتقادي أن هذا الفن التشكيلي المميز في هذا الختم الخليجي الدلموني الذي يعود بعمره إلى ثلاثة آلاف عام هو لتاجر وملّاك، فالمربعات المخططة تعبير عن الأرض والمُلكية من بستان بمزروعات وحيوانات، بالإضافة إلى الكواكب والنجوم التي تُعبر عن إيمانه ودينه.. ولكن أيضًا ما يجب ذكره أن الختم ربما تعبير عن جنة دلمون وأرضها المقدسة، كما هو الاعتقاد في ذلك الوقت.
ختم مراحل القمر
يمثل هذا الختم الدائري مرحلة من مراحل القمر، والنجم القطبي يظهر في الختم بوضوح أيضًا، إلى جانب السبائك، ووعل بقرونه المقدسة لأنها تعبر عن مراحل القمر، والمعروف آنذاك أن السبائك كانت من النحاس إن لم تكن من الحديد أو القصدير.
ويشتمل كذلك على ذراع ممدودة تعبر عن هوية صاحب الختم، التاجر، وتعاملاته مع تجار وصناع الحديد والسبائك.. ورغم الكسر في طرف الدائرة لكن الشرح بشكل عام، بائن، فالظبي الذي يجري باتجاه الرجل، يجري مثيله من الناحية الأخرى.
ختم مزدوج الوجه
تعددت المواضيع في الأختام، من دينية واجتماعية.. وصور عن الحياة اليومية. وتطورت كذلك تقنيات الحفر في الختم، خاصة تلك الثنائية منها في الوجه الذي يبدو كقبة.
وتطورت أيضًا مثاقب الحفر، وهنا أدوات ميزت كل مرحلة في تصويرها، مع تأثيرات وافدة من بلاد الرافدين وبلاد السند وحضارات مجاورة أخرى، بسبب موقع الخليج التجاري والحضاري بين ماجان ودلمون، العابر بين هاتين الحضارتين. لكن بقيت أختام شواطئ الخليج في مجملها لا تخلو من الرموز الفلكية، بجانب المدلولات العمرانية.
حُلي
رغم مرور الزمن على تلك الأختام التي استعملت للتعريف بهوية الفرد، لكنها أيضًا وبمرور الزمن، أخذت شكل منحنى الحِرز لحفظ الأفراد من العين الشريرة والحاسدة، فاستمرت تلك الأختام في صنعها ونقشها إلى وقت ماض قريب، ليتدرج مفهوم الأختام كهوية إلى تقاليد راسخة عبر الزمن، فاستقرت بقاياها في قلائد الذهب التي نرتديها في وقتنا الحاضر بالخليج العربي.
وتأتي تلك الأختام الأسطوانية على شكل أقراط في الأذن، أو دوائر هي في أصلها أختام دائرية، بالإضافة إلى الأختام المربعة على شكل وسام، أي تلك القلائد الذهبية من الصناديق الصغيرة المزخرفة التي تعلق على الصدر.
1991
كشفت أول إحصائية لمتحف البحرين الوطني عام 1991م، تضمنه 305 أختام دلمونية حجرية، و268 ختماً صدفياً، لتبدو الأختام أهم الحفريات بالخليج العربي.
428
عدد أختام جزيرة فيلكا الكويتية، التي عرضتها البعثة الدنماركية بثمانينيات القرن الفائت، وكانت مفاجأة لأهل الخليج العربي إذ تعود بمجملها لما قبل الميلاد.
3
صنفت الأختام في الخليج حسب البعثات الأثرية، إلى ثلاث مجموعات: الأختام ذات الوجه الواحد، الأختام ذات الأشكال المزدوجة، الأختام ذات الشكل الأسطواني.