jo24_banner
jo24_banner

الفساد في السياسات الدوائية وامتيازات "الحيتان"

الفساد في السياسات الدوائية وامتيازات الحيتان
جو 24 :

لقد محصت الموضوع من كافة جوانبه مرارا وتكرارا، لعلني أرجع عن التشخيص الذي توصلت إليه بعد خبرة 25 عاما في مجال صحة وسلامة الغذاء، وهو أن المواطن الأردني تهان كرامته في غذائه ودوائيه نتيجة السياسات الغذائية والدوائية المجحفة، التي تنتهجها المؤسسة العامة للغذاء والدواء من قبل القائمين عليها... إلا أن الأمانة العلمية والانتماء الأعمى لتراب هذا الوطن الغالي، غلبت على رغبتي الكامنة بأن أقنع نفسي بما هو جلي.

في الحلقة الثالثة تستكمل د. سناء قموة كشف الفساد لكن في موضع اخر يمس صحة المواطن / المستهلك الاردني في الصميم، وهو ما يرتبط في السياسات الدوائية المطبقة محليا، من حيث تسجيل، وتسعير، ومأمونية، وفعالية الدواء المنتج محلياً (الجنيس)، والمستورد أجنبياً (الاصيل).

الفساد في السياسات الدوائية

ملف الدواء، هذا الملف القديم الجديد، والذي ما يزال عالقاً منذ عدة سنوات بسبب التدخل المباشر من قبل أصحاب المصالح في رسم السياسات الدوائية، الهادفة فقط لخدمة مصالحهم الذاتية، وعلى حساب قوت الأغلبية الساحقة من المستهلكين. وهنا تجدر الإشارة إلى أن هذه القضية ظهرت بشكل صارخ منذ عشر سنوات، عندما اعتلى أعلى الهرم الوظيفي في وزارة الصحة أصحاب المصالح من المتنفذين، الذين جندوا الإدارات المتعاقبة في المؤسسة العامة للغذاء والدواء لرسم سياسات دوائية تخدم مصالحهم الخاصة بعيدة عن مصلحة المستهلك. وبشكل عام يمكن إيراد الانتهاكات في مجال تسجيل وتسعير والرقابة على مأمونية وفعالية الدواء كما يلي:

تسجيل الادوية

هنالك خلل واضح في عمليات التسجيل للأدوية، الأمر الذي يظهر الحاجة والضرورة لتحديث الأسس، والتعليمات، والأطر المتعلقة بالرقابة المنظمة لعملية التسجيل، ذلك أن ما هو متبع حالياً عبارة عن ممارسات هدفها تحقيق المصالح الشخصية، بعيداً عن تطبيق معايير موضوعية تساوي بين حقوق كافة الأطراف ذات الصلة بالدواء وتجذر الاحتكار.

الرقابة على المأمونية والفعالية

غياب معايير الرقابة ومتطلبات ضمان المأمونية والفعالية للأدوية إن كانت منتجة محلياً أو مستوردة ويمكن رصد بعض المخالفات منها:

• بعض العينات التي يصطحبها صاحب العلاقة (مستودع أو منتج) معه إلى المختبر، لا تمثل واقع الكمية الفعلية للدواء المطروح بالأسواق، إذ أنها في أغلب الأحيان عينات معيارية يتم على ضوئها الإنتاج في المصنع، وبالمحصلة نتيجة الفحص المخبري لا يمثل الأدوية التي تصل للمستهلك، ذلك أنه من المفروض أن يكون هناك لجنة لأخذ عينات من مختصين مؤهلين ومحايدين في مجال الدواء، حيث يجب أن تؤخذ العينات حسب أسس علمية معتمدة، وبشكل عشوائي تمثل قدر المستطاع الكميات التي ستصل المستهلك من الدواء. هذا بالإضافة إلى وجود ضعف في نوعية الفحص المخبري وطبيعته، كما أنه هنالك نقص شديد في الفحوصات التي تؤمن فعالية ومأمونية الدواء. إذ تفتقر إلى الفحوصات الواجب توفرها لضمان فعالية وسلامة الدواء كتحديد المادة الفعالة كماً ونوعاً، الذائبية والامتصاص Dissolution والملوثات Contaminants : الكيماوية.

• المماطلة بإصدار التقارير المخبرية، وخاصة عند التسجيل لجهة ما بتقديم حجج مختلفة، منها عدم توفر المواد المعيارية للفحص، لتغيير المواصفات الخاصة بالفحص وعدم توفرها في الملف … الخ. بالمقابل الإسراع بإصدار التقارير المخبرية لجهة أخرى دون وجه حق.

• المماطلة بإصدار التقارير المخبرية أو إخفائها وخاصة في حالة العطاءات الحكومية حتى يضطر الجهاز الحكومي من شراء الأدوية بأسعار عالية من المستودع خارج نطاق العطاء.

• الإصرار على عدم توحيد الفحوصات المخبرية، وإصدار تقارير بنتائج فحوصات لم يتم إجراؤها.

• التوزيع غير العادل لعينات الفحص، إذ يعتمد مختبر الدواء في توزيع العينات على المزاجية والمصالح المتبادلة، وقد ضبطت عينات وزعت للفحص تحمل رقم المختبر تباع بالصيدليات وصدر بها نتائج فحوصات مخبرية، وتم إجازتها دون إجراء الفحص عليها.

• في حالة مخالفة الدواء تلجأ مديرية الدواء إلى طلب إعادة الفحص من المختبر بناءً على طلب صاحب العلاقة، والخطورة هنا تكمن في أن القرار يؤخذ دون عرضه على اللجنة المختصة لدراسة مبررات السماح بإعادة الفحص من عدمه، وإنما بقرار شخصي من مديرة الدواء بعد أن ترسل مواصفات جديدة مفصلة حسب المخالفة، وتطالب المختبر بأن يضع النتيجة حسب المواصفة الجديدة غير المقرة بالشكل الرسمي.

السياسة التسعيرية

السياسة التسعيرية للدواء، كانت وما زالت مجحفة بحق المستهلك الأردني، وهناك مزاعم يتبناها أصحاب المصالح من منتجي الأدوية في الأردن إذ يدعون (أن الصناعة الدوائية تساهم بشكل ايجابي في خفض الفاتورة العلاجية، وكذلك في تعديل الميزان التجاري للأردن، وخفض عجزه). أن مثل هذه الادعاءات الغريبة بعيدة عن الصحة، ومضللة لصاحب القرار وتثير الاستهجان، لأنها تفتقر إلى المنطق، ولغة الأرقام الاقتصادية المتبعة في تسعير الدواء في الأردن، سواء أكان منتجاً محلياً أو مستورداً. الحقيقة بداية أن تعليمات التسعير التي تنتهجها المؤسسة لا تخدم إلا جيوب أصحاب المصالح، بل أنها مجحفة بحق المتلقين للدواء، إذ تعتمد التسعيرة باحتساب الوسيط لتسعيرة الدواء باعتماد الدول الأوروبية التالية: بريطانيا،اسبانيا، فرنسا، ايطاليا، بلجيكا، اليونان وهولندا، أو أيهما أقل مقارنة بالتسعيرة المعتمدة لدى المملكة العربية السعودية. ولدى مقارنة الأسعار مع المنظمة الدولية لتسعيرة الدواء MSH من قبل منظمة الصحة العالمية، وجد أن أسعار الأدوية في الأردن أعلى ب(15) ضعفا بالمقارنة مع أسعارها بالدول التي تقاربنا بمستوى الدخل الشهري للأسرة، بينما في سوريا أربعة أضعاف، وفي لبنان ستة أضعاف، أي أن الأردن تنفرد بالمنطقة بارتفاع فاحش بالأسعار. ويعود ارتفاع أسعار الأدوية هذا في الأردن لدعم تصدير الدواء المنتج محلياً، حيث أن آلية التسعير المتبعة حالياً وضعت لخدمة هدف التصدير، وليس لخدمة المواطن الأردني؛ ما عكس ارتفاع سعر الدواء المستورد كون الدواء المنتج محليا (الجنيس) يسعر ب(80%) من سعر الدواء الأصيل المستورد. كما أنه وبالمقارنة مع بعض الدول العربية المتقاربة نوعا ما من حيث متوسط دخل الأسرة مع الأردن، نجد أن نسبة الربح الذي يفرضه المستورد على الدواء في الأردن 30% بينما في سوريا 8% وتونس 8,7% ولبنان 10%. بينما نسبة الربح للدواء المنتج محليا (الجنيس) أي ليس أصيل يتراوح بين 600_1000% حيث أن المواد الخام مستوردة من الهند والصين بأسعار منخفضة جدا، وهذا يترتب عليه تدني بالجودة، أما المواد الخام المستخدمة لإنتاج الأدوية لأمور التصدير يتم تصنيعها في ألمانيا والبرتغال في مصانع لمستثمرين أردنيين من منتجي الأدوية في الأردن ذات جودة عالية، علما أن 30% من الدواء لدينا بالأردن منتج محلي والباقي مستورد.

ارتفاع سعر الدواء المستورد والمنتج محليا يساهم بصورة مباشرة بارتفاع الفاتورة العلاجية، إذ أن التقرير السنوي للمجلس الصحي العالي يبين أن حجم الإنفاق على الدواء في عام 2008 وصل 36% من حجم الإنفاق الصحي، حيث أن حجم الإنفاق على الصحة 1,381 مليار دينار (8,85% من الناتج المحلي الإجمالي) أما حجم الإنفاق على الدواء فقد بلغ 496 مليون دينار (36% من حجم الإنفاق الصحي 3,08% من الناتج المحلي) بواقع زيادة عن عام 2007 أي خلال سنة واحدة بنسبة 11,5% وهذه زيادة كبيرة إضافة إلى النسبة المرتفعة جدا للإنفاق على الدواء، فالدول المتقدمة تنفق 12-23% من مجمل الإنفاق الصحي على الدواء.

امتيازات لصالح حيتان الدواء

الدواء المنتج محليا يحظى بامتيازات عديدة، حيث أن المواد الخام الداخلة بالصناعة معفاة من الضريبة، وكذلك لا تفرض الحكومة أية ضرائب على الأدوية المصنعة محليا لدى تصديرها، وبالتالي لا يدخل خزينة الدولة أية مبالغ من وراء هذه الصناعة رغم أن هذه الصناعة تعود على أصحابها بأرباح طائلة، حيث أن المنتجات المحلية حققت أرباحا تقدر ب 443 مليون دينار من قيمة الصادرات من المنتجات الأردنية للدواء لعام 2006_2007 حسب تقرير مؤسسة تشجيع الاستثمار، فلو فرض عليها ضريبة تصدير كالسلع الأخرى، والتي قد تصل إلى 25% ولكن لتكن 16% أخدين بعين الاعتبار بأن هذه الصناعات المحلية تؤمن خمسة ألاف وثلاثمائة فرصة عمل، بالتالي كان سيدخل خزينة الدولة آنذاك مبالغ كبيرة جدا، أما حاليا ومع نمو التصدير لهذه الأدوية، نجد أن أحد المنتجين الكبار للدواء المحلي حسب ما نشر بالجريدة أن مجموع إيراداته لعام 2010 كان 669 مليون دينار بينما الأرباح 500 مليون دينار، علما أنه لدينا بالأردن 17 شركة دوائية، لذا يمكن في حال فرض ضريبة على ما يتم تصديره أن ترفد الخزينة بمبالغ طائلة.

نستنتج مما تقدم أن عمليات التسعير الحالية للأدوية تخدم جيوب القلة القليلة من محتكري الدواء، من خلال تحقيق أرباح خيالية وعلى حساب المواطن، وتساهم بشكل كبير في رفع الإنفاق الصحي، ولا تساهم برفد خزينة الدولة بأية مبالغ تذكر، علماً بأن قيمة المبالغ التي ترفد الخزينة من جراء فرض الضريبة على الأدوية الجنيسة (المنتجة محلياً) قد تصل إلى ما لا يقل عن نصف مليار دينار سنوياً، كان من الممكن أن تخصص هذه الأموال الضائعة نتيجة الإعفاءات غير المبررة لرفع سوية شرائح المواطنين من ذوي الطبقة الوسطى وما دون، وكذلك لرفد صندوق تنمية المحافظات، ولا تنتظر الحكومة هذه الجهات من التبرع بهبات بمبالغ لا تسمن ولا تجدي.

تلجأ المؤسسة العامة للغذاء والدواء بين الحين والأخر إلى تضليل المواطنين بأنها قد خفضت سعر بعض الأدوية بناء على تخفيض سعرها عالميا، وعندما لا يلمس المواطن إي تخفيض يذكر، تقوم المؤسسة بتبرير ذلك بأن الكميات المتوفرة لدى المستودعات والمتداولة بالصيدليات تم شراؤها بالسعر القديم العالي، وواقع الحال لو كان هناك إرادة حقيقية لدى إدارة المؤسسة، ورئيس مجلس إدارتها معالي وزير الصحة الذي يصرح في عدة مناسبات تخفيض سعر الدواء، لكان التوجه الصحيح هو إعادة النظر بسياسات التسعير وتعديل تعليمات التسعير، بحيث تتناسب ودخل المواطن الأردني.

بالنهاية تحرص المؤسسة الغذاء والدواء على استبعاد مؤسسات المجتمع المدني من المشاركة برسم السياسات الدوائية حتى لا يفتضح أمرها، وتنكشف توجهاتها جليا بمحاباة أصحاب المصالح من المتنفذين على حساب دم المواطن الأردني، إذ للأسف أتخذ معالي وزير الصحة رئيس مجلس إدارة المؤسسة، ومدير عام المؤسسة ومديرة الدواء، وبعض أصحاب المصالح من النواب أعضاء اللجنة الصحية والبيئة في مجلس النواب موقفا مضادا، عندما طالب ائتلاف مؤسسات المجتمع المدني الصحي المشكل من “مجموعة هيئات وجمعيات ومؤسسات تمثل المجتمع المدني المعني بالصحة والمريض والمستهلك” تمثيل مؤسسات المجتمع المدني في اللجنة العليا للدواء والصيدلة التي تتألف من القطاع العام، الخاص، والنقابات، وذلك عندما كانت لجنة الصحة والبيئة تناقش مشروع قانون الدواء والصيدلة من حيث ضرورة تعديل المادة 4 من القانون المتعلقة بتشكيل اللجنة العليا للدواء والصيدلة بحيث يتم تمثيل مؤسسات المجتمع المدني بها لأنها الأقدر على المساهمة في إيجاد سياسات دوائية صحية متكاملة ومبنية على أساس احتياجات المواطن وخاصة المرضى منهم، ولم يكتفِ وزير الصحة بالرفض، بل أبدى موقفة بالاستهزاء بالائتلاف وبمن يترأسه.

(مجلة راديكال)

تابعو الأردن 24 على google news