أحوال الناس في استقبالهم لرمضان
جو 24 : فضَّل الله تعالى شهر رمضان، وأنزل فيه القرآن، هدى للناس وبيِّنات من الهدى والفرقان.
وقد أنعم الله علينا نعمة كُبرى؛ حيث بلَّغنا شهر رمضان، وقيامه نعمة عظيمة وفضل كبير لمن وُفِّق لذلك؛ لما في هذا الشهر الكريم من أسباب المغفرة، ومن أسباب العتق من النار، فمن بلَّغه اللهُ هذا الشهرَ بأنْ مدَّ في أجله حتى أدرك هذه الأيام الغُرَّ، وهذه الليالي الزهر، فقد تكرَّم عليه وخصَّه مما حرم منه غيره، فكم من أناسٍ، وكم من أفراد اختتمت آجالهم قبل حلول هذا الشهر، وختم على أعمالهم.
ينقسم الناس في استقبالهم
لرمضان إلى أصناف
أولا: صنف يتعامل مع رمضان على أنه عادة وعبادة ظاهرة يراه موسما للسهرات والتلذذ بالمطعومات والمشروبات، أما أداء العبادة فيه فهو على سبيل المشاركة الخجولة للآخرين، ورفع الملام عنه من المؤاخذين. يؤديها كما اعتاد المسلمون، بدون اكتساب لفضائله أو تحر لآدابه وتربية للنفس على مكرماته، فلا لسان يحفظ، ولا بصر يغض، ولا سمع ينزّه، ولا جوارح تمنع عن الحرام ولا تحر للحلال وبعد عن الحرام، فحاله في رمضان كحاله قبله لا فرق إلا بالجوع والعطش.
وهذا الصنف يصدق فيه حديث النبي صلي الله عليه وسلم.. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ" رواه الجماعة إلا مسلما، وعنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلا الْجُوعُ وَرُبَّ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلَّا السَّهَرُ" (رواه النسائي وابن ماجه والحاكم).
ثانيا: ومن الناس من دخل عليهم رمضان وذهب رمضان ولم يحرك فيهم ساكنا ولم يؤثر في حيلتهم ولم يهز شيئا من كيانهم، هم الذين يستثقلون هذا الشهر، ويستعظمون مشقته، فإذا نزل بهم فهو كالضيف الثقيل، يعدون ساعاته وأيامه ولياليه، منتظرين رحيله بفارغ الصبر.
ثالثا: نرجو الله تعالى أن نكون منهم هم الذين يترقبون رمضان ليصوموه عبادة يرتجى ثوابها وتربية للنفس تبتغى فضائلها، دعاهم ربهم إليه فأجابوا، وتولاهم فأثابوا، ووعدهم فما ارتابوا، صدورهم بالإيمان منشرحة، وسرائرهم بالذكر مبتهجة، هم الذين يفرحون بهذا الشهر، ويسرون لقدومه. وذلك لأسباب:
أولا، أنهم عودوا أنفسهم على الصيام، ووطنوها على تحمله، ولهذا جاء في السنة النبوية استحباب صيام أيام كثيرة، كصيام الاثنين، والخميس، والأيام البيض، ويوم عرفة لغير الحاج، ويوم عاشوراء مع يوم قبله أو يوم بعده، وصيام شعبان، وغير ذلك من أنواع الصيام المستحب، الذي شرعه النبي صلى الله عليه وسلم لأمته؛ ليعتادوا الصوم، ويتزودوا من التقوى.
وأثر ذلك واضح في الواقع، فإنك تجد الذي يصوم النفل، الأيام البيض على الأقل، لا يستثقل صيام رمضان، بل هو عنده أمر طبيعي، لا كلفة فيه ولا عناء، وأما الذي لا يصوم شيئا من النافلة، فإن رمضان يكون عليه ثقيلا شاقا.
ولقد كان السلف مثالا رائعا في الحرص على النوافل، وروي عنهم في ذلك قصص عجيبة، ومن ذلك: أن قوما من السلف باعوا جارية لهم لأحد الناس، فلما أقبل رمضان أخذ سيدها الجديد يتهيأ بألوان المطعومات والمشروبات؛ لاستقبال رمضان كما يصنع كثير من الناس اليوم، فلما رأت الجارية ذلك منهم، قالت: لماذا تصنعون ذلك؛ قالوا: لاستقبال شهر رمضان. فقالت: وأنتم لا تصومون إلا في رمضان؟ واللهِ لقد جئت من عند قوم السنةُ عندهم كأنها كلها رمضان، لا حاجة لي فيكم، ردوني إليهم. ورجعت إلى سيدها الأول.
وكان لدى الحسن بن صالح جارية، فاشتراها منه بعضهم، فلما انتصف الليل عند سيدها الجديد، قامت تصيح في الدار: يا قوم، الصلاة.. الصلاة، فقاموا فزعين، وسألوها: هل طلع الفجر؟ فقالت: وأنتم لا تصلون إلا المكتوبة؟ فلما أصبحت رجعت إلى الحسن بن صالح، وقالت له: لقد بعتني إلى قوم سوء؛ لا يصلون إلا الفريضة، ولا يصومون إلا الفريضة؛ فردني، فردّها.
ثانياً، أنهم يعلمون أن الامتناع عن اللذات في هذه الدنيا سبب لنيلها في الآخرة، فإن امتناع الصائم عن الأكل، والشرب، والجماع، وسائر المفطرات في نهار رمضان طاعةً لله سبحانه وتعالى يكون سببا في حصوله على ألوان الملذات الخالدة في الجنة، فَلِقُوَّة يقين المتقين بذلك؛ يفرحون بقدوم هذا الشهر الكريم.
ثالثاً، أنهم يدركون أن هذا الشهر من أعظم مواسم الطاعات، والتنافس في القربات، ويعلمون أن الله سبحانه وتعالى يجري فيه من الأجور ما لا يجري في غيره من الشهور، فلا غرو أن يفرحوا بقدومه فرح المشتاق بقدوم حبيبه الغائب، أو أعظم من ذلك.
إعداد: الدكتور زياد الفقيه
عضو رابطة علماء الأردن
وقد أنعم الله علينا نعمة كُبرى؛ حيث بلَّغنا شهر رمضان، وقيامه نعمة عظيمة وفضل كبير لمن وُفِّق لذلك؛ لما في هذا الشهر الكريم من أسباب المغفرة، ومن أسباب العتق من النار، فمن بلَّغه اللهُ هذا الشهرَ بأنْ مدَّ في أجله حتى أدرك هذه الأيام الغُرَّ، وهذه الليالي الزهر، فقد تكرَّم عليه وخصَّه مما حرم منه غيره، فكم من أناسٍ، وكم من أفراد اختتمت آجالهم قبل حلول هذا الشهر، وختم على أعمالهم.
ينقسم الناس في استقبالهم
لرمضان إلى أصناف
أولا: صنف يتعامل مع رمضان على أنه عادة وعبادة ظاهرة يراه موسما للسهرات والتلذذ بالمطعومات والمشروبات، أما أداء العبادة فيه فهو على سبيل المشاركة الخجولة للآخرين، ورفع الملام عنه من المؤاخذين. يؤديها كما اعتاد المسلمون، بدون اكتساب لفضائله أو تحر لآدابه وتربية للنفس على مكرماته، فلا لسان يحفظ، ولا بصر يغض، ولا سمع ينزّه، ولا جوارح تمنع عن الحرام ولا تحر للحلال وبعد عن الحرام، فحاله في رمضان كحاله قبله لا فرق إلا بالجوع والعطش.
وهذا الصنف يصدق فيه حديث النبي صلي الله عليه وسلم.. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ" رواه الجماعة إلا مسلما، وعنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلا الْجُوعُ وَرُبَّ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلَّا السَّهَرُ" (رواه النسائي وابن ماجه والحاكم).
ثانيا: ومن الناس من دخل عليهم رمضان وذهب رمضان ولم يحرك فيهم ساكنا ولم يؤثر في حيلتهم ولم يهز شيئا من كيانهم، هم الذين يستثقلون هذا الشهر، ويستعظمون مشقته، فإذا نزل بهم فهو كالضيف الثقيل، يعدون ساعاته وأيامه ولياليه، منتظرين رحيله بفارغ الصبر.
ثالثا: نرجو الله تعالى أن نكون منهم هم الذين يترقبون رمضان ليصوموه عبادة يرتجى ثوابها وتربية للنفس تبتغى فضائلها، دعاهم ربهم إليه فأجابوا، وتولاهم فأثابوا، ووعدهم فما ارتابوا، صدورهم بالإيمان منشرحة، وسرائرهم بالذكر مبتهجة، هم الذين يفرحون بهذا الشهر، ويسرون لقدومه. وذلك لأسباب:
أولا، أنهم عودوا أنفسهم على الصيام، ووطنوها على تحمله، ولهذا جاء في السنة النبوية استحباب صيام أيام كثيرة، كصيام الاثنين، والخميس، والأيام البيض، ويوم عرفة لغير الحاج، ويوم عاشوراء مع يوم قبله أو يوم بعده، وصيام شعبان، وغير ذلك من أنواع الصيام المستحب، الذي شرعه النبي صلى الله عليه وسلم لأمته؛ ليعتادوا الصوم، ويتزودوا من التقوى.
وأثر ذلك واضح في الواقع، فإنك تجد الذي يصوم النفل، الأيام البيض على الأقل، لا يستثقل صيام رمضان، بل هو عنده أمر طبيعي، لا كلفة فيه ولا عناء، وأما الذي لا يصوم شيئا من النافلة، فإن رمضان يكون عليه ثقيلا شاقا.
ولقد كان السلف مثالا رائعا في الحرص على النوافل، وروي عنهم في ذلك قصص عجيبة، ومن ذلك: أن قوما من السلف باعوا جارية لهم لأحد الناس، فلما أقبل رمضان أخذ سيدها الجديد يتهيأ بألوان المطعومات والمشروبات؛ لاستقبال رمضان كما يصنع كثير من الناس اليوم، فلما رأت الجارية ذلك منهم، قالت: لماذا تصنعون ذلك؛ قالوا: لاستقبال شهر رمضان. فقالت: وأنتم لا تصومون إلا في رمضان؟ واللهِ لقد جئت من عند قوم السنةُ عندهم كأنها كلها رمضان، لا حاجة لي فيكم، ردوني إليهم. ورجعت إلى سيدها الأول.
وكان لدى الحسن بن صالح جارية، فاشتراها منه بعضهم، فلما انتصف الليل عند سيدها الجديد، قامت تصيح في الدار: يا قوم، الصلاة.. الصلاة، فقاموا فزعين، وسألوها: هل طلع الفجر؟ فقالت: وأنتم لا تصلون إلا المكتوبة؟ فلما أصبحت رجعت إلى الحسن بن صالح، وقالت له: لقد بعتني إلى قوم سوء؛ لا يصلون إلا الفريضة، ولا يصومون إلا الفريضة؛ فردني، فردّها.
ثانياً، أنهم يعلمون أن الامتناع عن اللذات في هذه الدنيا سبب لنيلها في الآخرة، فإن امتناع الصائم عن الأكل، والشرب، والجماع، وسائر المفطرات في نهار رمضان طاعةً لله سبحانه وتعالى يكون سببا في حصوله على ألوان الملذات الخالدة في الجنة، فَلِقُوَّة يقين المتقين بذلك؛ يفرحون بقدوم هذا الشهر الكريم.
ثالثاً، أنهم يدركون أن هذا الشهر من أعظم مواسم الطاعات، والتنافس في القربات، ويعلمون أن الله سبحانه وتعالى يجري فيه من الأجور ما لا يجري في غيره من الشهور، فلا غرو أن يفرحوا بقدومه فرح المشتاق بقدوم حبيبه الغائب، أو أعظم من ذلك.
إعداد: الدكتور زياد الفقيه
عضو رابطة علماء الأردن