بانوراما الحراك.. عندما تقرع أجراس التغيير لانتشال الوطن من الغرق
كتب تامر خرمه
في أعلى مراحل التطور التاريخي للمجتمعات البشريّة، يكون مفهوم "الدفاع المدني الشامل" مهمّة أساسيّة للمواطن الذي اجتاز أهمّ مراحل الرقيّ الإنساني، كما يبدأ الناس في ذلك النموذج الاجتماعي بتشكيل اللجان الشعبيّة باعتبارها الخطوة الأولى على طريق الانتقال إلى مرحلة ما يعرف بـ "التسيير الذاتي".
هذا النموذج الإنساني الذي حلم به كثير من المفكرين وعلماء الاجتماع، وملايين المناضلين الذين وهبوا أرواحهم في رحلة بناء جنّة الإنسان على الأرض.. كرّسه نشطاء الحراك بكامل جماليّته ورقيّه.. وأين ؟ هنا في الأردن الذي فشلت إدارته بمواجهة تقلّبات الطقس وموجات البرد.. ليتجلّى ذلك الفرق الشاسع بين حلم الحراكيّين، والعصور البائدة التي تصرّ منظومة الفساد على إبقائنا أسرى ضعفها وتخلّفها.
البنية التحتيّة التي تعرّت تماماً -قبل أن يذوب الثلج- كشفت فداحة الواقع الذي فرضته منظومة الفساد والاستبداد، فلم يصمد شارع واحد أمام زخات المطر، حتى خشينا أن يغرق الأردن بأكمله في تلك الفيضانات التي داهمت منازل المواطنين وعزلت مناطق بأكملها، لتتجلّى "المعجزة" في "تسونامي الأراضي الصحراويّة".. معجزة تحتسب لهذه الإدارة التي "أبدعت" في توفير البنية التحتيّة القادرة على تحويل الأردن إلى "فينسيا العرب".
وبعيدا عن استعراضات التنديد أمام كاميرات الإعلام، وبيانات الشجب التي لا تسمن ولا تغني من جوع، شمّر نشطاء الحراك عن سواعدهم وهرعوا لمساعدة المواطنين وفتح الطرق وتفريغ الشوارع والمنازل من المياه، وإنقاذ العالقين بمركباتهم وتنظيم حركة السير، ليكونوا خير سند لمرتّبات الدفاع المدني وشرطة المرور، وعمّال المياومة، في ترجمة حقيقيّة لأنبل معاني المسؤوليّة والانتماء.
اللجان الشعبيّة نقلت الحراك الأردني نقلة نوعيّة، تلمّس فيها الحراكيّون الحاجات المباشرة للناس، وقدّموا لهم أجمل نموذج يمكن للمواطن أن يبلغه في أعلى مراحل الرقيّ والتقدّم.. ما يفسّر حالة الارتياح الواسع التي أبداها المواطنون تجاه هذه المبادرة، حيث تبدّدت الأفكار المسبقة -الناجمة عن حملة التشويه الشعواء ضدّ نشطاء الحراك- عند أوّل قطرة مطر.
على مدى سنتين، لم يشهد الحراك الأردني فعاليّة بأهميّة "حملة الإنقاذ" التي بادر إليها الحراك انطلاقاً من شعوره العالي بالمسؤوليّة تجاه الناس، حيث تفوق هذه المبادرة في أهميّتها كلّ ما شهدته مناطق الاستقطاب الإعلامي من فعاليّات احتجاجيّة منذ بدء الربيع الأردني.
الفعاليّات الروتينيّة التي اعتدنا تنظيمها في مناطق معيّنة وضمن ساعات محدّدة من كلّ جمعة، استنفدت غايتها منذ نحو سنة، حتى باتت مجرّد استحقاق نخبويّ لا يمكن له أن يقود إلى استنهاض الشارع في معركة الإصلاح والتغيير.. كما أنّها لم تعد تشكّل أي ضغط على السلطة، التي لا تمانع وجود حالة معارضة يمكن تصويرها أمام الإعلام الغربي على أنّها مؤشر لارتفاع منسوب الديمقراطيّة وحريّة الرأي والتعبير.
ولكن الحاجة للحفاظ على استمرار الحراك وديمومته، حملت النشطاء على المضي بالفعاليات الروتينيّة رغم إدراكهم لضعف تأثيرها، سواء على الشارع أو على السلطة، حيث لا يمكن للحضور الإعلامي لمثل هذه الفعاليّات أن يلغي حقيقة كونها باهتة بقدر نخبويّة القوى الكلاسيكيّة وعقليّتها النمطيّة.
وأمام هذا الواقع، بادرت بعض القوى الناشئة إلى ابتكار وسائل وآليّات عمل أكثر فاعليّة، تنطلق من فكرة البناء وخلق التراكم اللازم لاستنهاض الشارع، وكسر إطار العزلة الذي فرضته نمطيّة بعض القوى الكلاسيكيّة، بعد أن استلمت زمام المبادرة من أجل تحسين ظروف معركة الوصول إلى البرلمان، دون التحدث بلغة الناس او تلمّس أولويّاتهم.
إدراك الواقع وقراءة متغيّراته، دفع القوى الشبابيّة، التي عبّرت عن حالة متميّزة من الوعي السياسي- الاجتماعي، للتعامل مع كلّ ما يطرأ من مستجدّات على أفضل نحو، بل نجحت هذه القوى باستثمار المتغيّرات السلبيّة بما يجعلها تبدو وكأنّها أفضل الفرص.. وتجدر الإشارة هنا إلى طريقة تعامل الحراك مع التواجد الكثيف لقوّات الدرك في محيط دوّار الداخليّة خلال هبّة تشرين، حيث ابتعد الحراكيّون في نهاية الأمر عن مناطق الاستقطاب الإعلامي، ونجحوا باستنهاض الشارع من خلال الانطلاق من الأحياء الشعبيّة، وخلق حالة من الوعي الجمعي انسجمت تماماً مع شعارات التغيير الوطني الديمقراطي.
أمّا التقلّبات الجويّة، فقد دفعت بالحراكيّين إلى المبادرة بأهمّ فعاليّة شهدها الربيع الأردني، حيث راكم الحراك خلال يومين ما يمكن الاستناد إليه في بناء الحاضنة الاجتماعيّة، التي لا يمكن دونها تحقيق أهداف الحراك.. فيما غرقت بروباغاندا السلطة ودعاية النموذج الصوري للديمقراطية، وصور ويافطات المرشحين لمجلس الخدمات النيابيّة، في المياه التي ملأت أنفاق وشوارع المملكة.
كما أن التنسيق العالي بين أهمّ الحراكات وأكثرها قدرة على التغيير خلال "حملة الإنقاذ"، يعدّ خطوة واسعة على طريق بناء إطار موحّد، من شأنه أن ينقل معركة التغيير إلى حيّز الإمكانيّة المتحقّقة، قبل أن تفرض المتغيّرات الإقليميّة استحقاقاتها على الواقع الأردني.
وفي حال نجح الحراك بتحويل مبادرة اللجان الشعبيّة إلى نهج عمل واستراتيجيّة تحدّد شكل وطبيعة الفعاليّات القادمة.. سيكون حريّا بالسلطة أن تبادر إلى تنفيذ كافّة وعودها المتعلّقة بعمليّة الإصلاح، لأنّها لن تتمكّن ساعتئذ من مواجهة المعادلة التي سيفرضها النشطاء في تلك المرحلة، التي تسمّى ببساطة "نقطة اللاعودة".