ست دول عربية تشتري أنظمة مراقبة جماعية لمواقع التواصل الاجتماعي والهواتف الخلوية
كشف تحقيق أجرته بي بي سي العربية وصحيفة دنماركية على مدار عام كامل عن أدلة تؤكد أن شركة "بي أيه إي سيستمز" البريطانية للصناعات الدفاعية عقدت صفقات ضخمة لبيع تكنولوجيا تجسس متطورة لعدد من دول الشرق الأوسط، من بينها دول أنظمة حكمها قمعية. (يبث البرنامج على شاشة بي بي العربية 15 يونيو 2017 الساعة السابعة بتوقيت غرينتش).
وتضمنت إحدى هذه الصفقات بيع أنظمة فك شفرات يمكن استخدامها ضد بريطانيا وحلفائها.
وأعربت منظمات حقوقية وخبراء في الأمن الإلكتروني عن مخاوفهم الشديدة من إمكانية استخدام هذه التكنولوجيا المتطورة في التجسس على ملايين الناس أو قمع أي شكل من أشكال المعارضة.
وبدأ التحقيق في بلدة نورساندباي الدنماركية، مقر شركة "إي تي آي" المتخصصة في صناعة أجهزة التجسس المتطورة.
وطورت الشركة نظاما أطلقت عليه اسم "إيفدنت" قادرا على تمكين الحكومات من القيام بعمليات مراقبة جماعية لاتصالات مواطنيها.
وتحدث أحد الموظفين السابقين في الشركة لبي بي سي ، دون كشف هويته، عن طريقة عمل نظام إيفدنت.
وأضاف: "ستكون قادرا على اعتراض أي نشاط على الإنترنت. وإذا أردتَ القيام بذلك في دولة بأكملها، فستستطيع. يمكنك تحديد مواقع الناس من خلال بياتات هواتفهم المحمولة، كما يمكنك تتبع الناس من حولهم. هذه الوسائل تستخدم تكنولوجيا متقدمة إلى حد كبير في التعرف على الأصوات. تلك التكنولوجيا كانت قادرة على فك الشفرات".
وكانت الحكومة التونسية من الزبائن الأوائل الذين اشتروا النظام الجديد.
والتقت بي بي سي مسؤولا سابقا في الاستخبارات التونسية كان يتولى تشغيل إيفدنت لصالح نظام الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي.
وقال هذا المسؤول: "إي تي آي ركبت هذا النظام. وجاء المهندسون لتنظيم دورات للتدريب على استخدامه. يعمل النظام بكلمات دالة. أنت تدخل اسم معارض من المعارضين، ثم تراقب جميع المواقع والمدونات والشبكات الاجتماعية المرتبطة بذلك المستخدم."
ويقول المصدر إن الرئيس بن علي استخدم النظام لقمع المعارضين حتى الإطاحة به في يناير/ شباط 2011، فيما اعتبرت أول انتفاضة شعبية أنطلقت بعدها موجات الربيع العربي بالمنطقة.
جدران وهواتف "لها آذان"
وفي الوقت الذي امتدت الاحتجاجات إلى أنحاء العالم العربي، باتت وسائل التواصل الاجتماعي أداة رئيسية لمنظمي هذه الاحتجاجات.
وبدأت الحكومات في البحث عن أنظمة تجسس إلكترونية أكثر تقدما، ما فتح سوقا جديدة مربحة للشركات العاملة في هذا المجال، مثل بي أيه إي سيستمز.
وفي عام 2011، اشترت بي أيه إي سيستمز شركة إي تي آي وأصبحت الشركة فرعا من مجموعة "بي أيه إي سيستمز أبلايد إنتليجنس".
وخلال الخمس سنوات التالية، استخدمت بي أيه إي سيستمز فرعها في الدنمارك لتوريد أنظمة إيفدنت لكثير من دول الشرق الأوسط التي لديها سجلات مثيرة للجدل في حقوق الإنسان.
وكشفت معلومات حصلت عليها بي بي سي وصحيفة "داجبلاديت إنفورميشن" الدنماركية بموجب قوانين حرية الاطلاع على المعلومات، عن عمليات تصدير لكل من السعودية ودولة الإمارات العربية وقطر وعمان والمغرب والجزائر.
وبينما لم يكن ممكنا الكشف مباشرة عن حالات فردية ترتبط بنظام إيفدنت، كان لمستويات التجسس الإلكتروني المتزايدة تأثير مباشر وبالغ على تحركات نشطاء حقوق الإنسان والمدافعين عن الديمقراطية في الكثير من الدول التي اشترت إيفدنت.
ويقول يحيى عسيري، ضابط سابق بسلاح الجو السعودي وفر من البلاد بعد نشر تعليقات على الانترنت مؤيدة للديمقراطية إنه : "لن يكون من قبيل المبالغة لو قلت إن أكثر من 90 في المئة من أنشط المشاركين في حملات سياسية في عام 2011 قد اختفوا الآن".
وتقول منال الشريف، الناشطة الحقوقية السعودية التي تعيش هي الأخرى خارج البلاد: "استُخدم (النظام الجديد) ليكون الجدران التي لها آذان، والآن الهواتف الذكية هي التي لها آذان".
وأضافت: "ليست هناك دولة تراقب مواطنيها بنفس الطريقة التي تقوم بها دول الخليج. إنهم يمتلكون المال، لذلك في استطاعتهم شراء برامج التجسس المتقدمة."
ودفع هذا الوضع المنظمات الحقوقية والنشطاء إلى التعبير عن مخاوفهم البالغة على مستقبل المجتمع المدني في الشرق الأوسط.
ويحذر جاس هوزين، من منظمة "بريفاسي إنترناشيونال"، وهي منظمة غير حكوميّة في بريطانيا تعنى بالدفاع عن خصوصية الأفراد على الإنترنت، من أن "التجسس سيقوض ثقة الناس في تنظيم الأفكار والتعبير عنها ومشاركتها في محاولة لخلق حركة سياسية."
"تجارة مسؤولة"
وطلبت بي بي سي من حكومات السعودية وعمان والإمارات التعليق على ما جاء في التحقيق، غير أنها لم تتلق أي ردود حتى الآن.
واُجريت جميع صفقات بيع أنظمة التجسس بطريقة قانونية بموجب تراخيص التصدير الحكومية في الدانمارك، التي تصدرها هيئة التجارة الدنماركية.
ورفضت بي أيه إي سيستمز في بريطانيا طلب بي بي سي لقاء أحد مسؤوليها للتعليق على نتائج التحقيق . وقالت إن الطلب يتعارض مع سياسة الشركة بشأن عدم التعليق على عقود بعينها. لكن الشركة قالت، في بيان مكتوب إنها "تعمل مع عدد من المنظمات حول العالم من خلال الإطار القانوني لجميع الدول ذات الشأن ضمن مبادئ التجارة المسؤولة لدينا."
وكشف تحقيق بي بي سي، أن مبيعات أنظمة إيفدنت ربما يمكن أن يكون لها تأثير على الأمن القومي في بريطانيا.
والآن، توفر نسخة محدثة من النظام إمكانية أخرى، هي فك الشفرات، أو تحليل الشفرات، إذا استخدمنا المعنى الفني.
وتتيح هذه النسخة من النظام قراءة الاتصالات حتى إذا استخدمت فيها برامج أمنية لتشفيرها.
ويعتبر تحليل الشفرات أداة قوية ما جعل تصديرها يخضع لقيود شديدة.
تراخيص التصدير
وحصلت بي بي سي على رسائل إلكترونية تعود لعام 2015 بين هيئات التصدير البريطانية والدنماركية، أعرب فيها الجانب البريطاني صراحة عن بالغ مخاوفه إزاء هذه الإمكانية في إشارة إلى مبيعات نظام إيفدنت إلى الإمارات العربية.
وتقول الرسالة: "سنرفض منح ترخيص لتصدير برمجيات تحليل الشفرات من المملكة المتحدة بسبب المخاوف المنصوص عليها في المعيار الخامس (من المعايير اللازم مراعاتها عند إصدار ترخيص التصدير)".
ويشير هذا المعيار إلى الإضرار بالأمن القومي لبريطانيا وحلفائها.
ويكمن هذا القلق في أن هذه البرنامج قد تمنح مستخدميها إمكانية الوصول إلى الاتصالات البريطانية نفسها.
ويقول روس أندرسون، أستاذ هندسة الأمن في جامعة كامبريدج: "بمجرد بيع الجهاز إلى شخص ما قد يمكنه القيام بما يريده به."
وأضاف: "دولة عربية ما تريد شراء أجهزة تحليل الشفرات بزعم أنها ستخصصها لأجهزة إنفاذ القانون بها. هذه الدول لديها سفارات في لندن وواشنطن وباريس وبرلين. ما الذي سيوقفهم عن وضع أجهزة تجسس كثيرة في مدننا ثم استخدام أجهزة تحليل الشفرات لفك رموز المكالمات التليفونية التي يسمعونها؟"
وعلى الرغم من اعتراضات الجانب البريطاني، وافقت الهيئات الدنماركية على تصدير إيفدنت.
ورفضت وزارة الخارجية الدنماركية إجراء مقابلة بشأن القضية، غير أنها قالت في بيان إن هيئة التجارة الدنماركية لم تكن لتمنح ترخيصا بالتصدير إذا رفضت دولة ما في الاتحاد الأوروبي التصدير بسبب دواعٍ أمنية.
ويقول خبراء في الشؤون الأمنية إنه بينما تواجه دول كثيرة في أنحاء العالم تهديدات إرهابية متزايدة، ثمة تبرير واضح لمبيعات أجهزة المراقبة والتجسس."
ويقول جوناثان شاو، الرئيس السابق للأمن الإلكتروني في وزارة الدفاع البريطانية: "إنها تضحية بخيارات للحصول على أخرى".
وأضاف: "أتصور أن الاعتبار الذي يشغل الأذهان لا يرتبط كثيرا بالجانب المادي، لكنه يرتبط بأمن الدولة التي نتعاون معها ومدى قربها من بلدنا. أو أنهم يتعقبون أشخاصا يشكلون تهديدا مباشرا لبريطانيا ونحتاج مساعدتهم."
ووفقا لتقرير أعدته وزارة الداخلية البريطانية عام 2016، اضطلعت تكنولوجيا المراقبة الجماعية بدور مهم في أي تحقيق موسع يُجرى بشأن مكافحة الإرهاب خلال العقد الأخير.
وتابع: "كلما زادت الحوادث الإرهابية، يزداد عدد الذين يشرعون في إعطاء أفضلية للأمن على الخصوصية."
ولم يرغب أي مسؤول من الحكومة البريطانية في التحدث إلى بي بي سي بشأن الآثار الناجمة عن مبيعات أنظمة إيفدنت. لكن وزارة التجارة الدولية أصدرت بيانا، قالت فيه: "الحكومة تضطلع بمسؤوليتها بشأن صادرات الصناعات الدفاعية على نحو جاد وتستخدم واحدا من أقوى أنظمة مراقبة الصادرات في العالم."
وأضافت: "جميع طلبات الحصول على تصاريح (تصدير أسلحة) تُقيم كل حدة وفقا لمعايير صارمة، مع الأخذ في الاعتبار العوامل المتعلقة في وقت تقديم الطلب، من بينها اعتبارات حقوق الإنسان."
"غير مقبول"
وتعتبر النائبة الهولندية، ماريتج سكايك، واحدة من السياسيين الأوروبيين القلائل الذين أبدوا استعدادهم لبحث المخاوف الناجمة عن تصدير تكنولوجيا المراقبة والتجسس.
وتقول إن الدول الأوروبية ستدفع في النهاية ثمن التنازلات التي تقدمها الآن.
ومضت قائلة: "مع كل حالة يُكمّم فيها فمٌ أو ينتهي الأمر بشخص إلى السجن بمساعدة تكنولوجيا تبتكرها دول الاتحاد الأوروبي، أعتقد أنه أمر غير مقبول."
وقالت: "أعتقد بأن تلك الشركات تلعب في حقيقة الأمر أدوارا تجارية، لذلك فإن تطوير التكنولوجيا المتقدمة التي يمكن أن يكون لها تأثير بالغ على أمننا القومي وعلى حياة الناس أمر يتطلب النظر مرة أخرى في أي نوع من القيود التي يجب فرضها عليها، وأي نوع من الشفافية والمساءلة اللازمة في هذه السوق قبل أن تنقلب ضد مصالحنا ومبادئنا الخاصة".