jo24_banner
jo24_banner

رحلة إلى مدينة ناشطة غيَّرت أبويها وحاولت تغيير العالم ولا تزال!

رحلة إلى مدينة ناشطة غيَّرت أبويها وحاولت تغيير العالم ولا تزال!
جو 24 :
عندما حضر والدا الناشطة الأميركية ريتشيل كوري -التي دهستها جرافة إسرائيلية في غزة عام 2003- حفل تأبين بجامعتها شارك فيه حاخام وقسٌّ وإمام.. تحدث الإمام عن الأثر الذي يبقيه الإنسان بعد موته. حينها شعر الأب بأن الإمام لا يتحدث عن ابنته الشابة؛ بل يخبره عما يجب أن يفعله.. هنا إبحار خاص في حياة ناشطة شابة، زيارة إلى مدينتها، والمؤسسة التي أُسست لحفظ ذكراها وأفكارها، وقراءة في رسائلها الشخصية؛ لنعرف أكثر عن تجربة فتاة حلمت بتغيير العالم وإنهاء معاناة المظلومين، وكيف يتواصل عملها الذي كرست له حياتها حتى بعد مماتها.

(1)

حينما دخلت مع سندي وكريج (والدَي ريتشل كوري) إلى مقهى ومعرض Traditions بمدينة أوليمبيا الأميركية، كان أول من صادفنا هو روبرت، عضو مجموعة "طلاب من أجل العدالة في فلسطين" بجامعة Evergreen -حيث كانت تدرس ريتشل كوري- وقتها بادر كل من سندي وكريج بسؤال روبرت عن رأيه في تبنّي مؤسستهما للبيان التضامني لحركة Black Lives Matter (لحياة السود أهمية) مع فلسطين.

على باب المقهى، توجد صورة لريتشل وسط ملصقات كثيرة تعلن عن مبادرات وحفلات قائمة أو ستحدث قريباً. تبدو ريتشل في هذه الصورة أكبر قليلاً عما ظهرت عليه في فيديو تقرأ فيه خطاباً ضمن حملة نظمتها مدرستها، درس الأطفال خلالها عن "الجوع" في العالم، وأرادوا أن يفعلوا شيئاً، فقرروا إقامة مؤتمر صحفي في المبنى التشريعي بأولمبيا.



traditions_cafe


تم اختيار ريتشل لتقرأ ما كتبته بنفسها، وتظهر مدرّستها - في الفيديو- وهي تساعدها على ضبط وقفتها أمام الكاميرا، تخبرني سندي بأننى أستطيع أن أسمع -في الخلفية- صوت الحجارة الصغيرة التي كان يلقي بها زملاء الفصل، كل صوت يعني أن طفلاً قد مات بسبب الجوع؛ ليمكن الوعى بعدد الضحايا من الأطفال في الدقيقة الواحدة، حينها كانت ريتشل تقريباً في سن العاشرة وهو وقت أقرب إلى تلك اللحظة التي فاجأت فيها والدها مرة بالقول إنها مشغولة بالعمل على إيجاد "صوت" يميز كتابتها ولم يعرف كيف يردُّ!

درست ريتشل في المرحلة الابتدائية ضمن برنامج مدرسي بديل باسم Lincoln Options، بدأ كفصلين بمدرسة McKinly في الثمانينات وتوسع ليحتل حالياً مبنى مستقلاً، البرنامج يُعرف بأنه مؤسسة غير ربحية تسمح للآباء والمدرسين بأن يكونوا فاعلين في وضع تصورات لبرامج تعليمية تناسب أطفالهم، انخرط كل من سندي وكريج في التأسيس والمشاركة ضمن هذا البرنامج حتى قبل أن تصل ريتشل للمرحلة الابتدائية، وأحياناً ما يطلب منهما حتى الآن زيارة المدرسة والتواصل مع فريقها.

قرأت ريتشل خطابها لمناهضة الجوع عام 1989، وقالت فيه: "أنا هنا؛ لأنني أهتم، ولأن 40 ألف شخص يموتون يومياً من الجوع، أنا هنا لأن معظم هؤلاء من الأطفال".

بعدها بسنين ستكتب لأمها، ضمن سلسلة رسائل إلكترونية، عن معاناة أطفال آخرين:

"مضى على وجودي في فلسطين حتى الآن أسبوعان وساعة واحدة، وما زلت لا أملك سوى كلمات قليلة لأصف ما أرى... لا أعرف، لو أن الكثير من الأطفال هنا عاشوا دون أن تحيط بهم جدران تمتلئ بالثقوب؛ بسبب قذائف الدبابات، وأبراج جيش احتلال تراقبهم باستمرار من مسافات قريبة.
أعتقد، ولو أني غير متأكده تماماً، أن حتى أصغر الأطفال هنا يفهم أن الحياة لا تصير على هذا النحو في كل مكان. قبل يومين من مجيئي إلى هنا، قتلت دبابة إسرائيلية طفل عمره 8 سنوات.. كثير من الأطفال هنا يتمتمون لى باسمه -على- أو يشيرون إلى ملصق على الجدران يحمل صورته".
قبل الحرب الأميركية على العراق بـ3 أيام، وقفت ريتشل كورى، عضو حملة التضامن الدولية، أمام جرافة مدرعة من نوع Caterpillar D-9R تابعة للجيش الإسرائيلي؛ لحماية بيت الدكتور سمير نصر الله (في رفح الفلسطينية) من الهدم، مستخدمة أساليب متبعة وهي ترتدي سترة برتقالية وترفع صوتها عبر مكبر صوت، لكن الجرافة الإسرائيلية لم تتوقف وقتلتها دهساً في 16 مارس/آذار 2003! وقتها، عرف كثيرون منا ريتشل وإن كنت أظن أنها معرفة لم تكتمل.

كنت قد شاهدت، منذ شهور، عبر الإنترنت مقاطع من مسرحية "اسمى ريتشل كوري" My Name is Rachel Corrie وتقارير عنها، وكان الفنان البريطانى الشهير Alan Rickman أعدَّ المسرحية معتمداً على كتاب جمع أعمال ريتشل المتفرقة، وأعيد تقديم المسرحية في عروض بمعالجات وبلغات مختلفة حول العالم.

يمتلئ الفضاء التخيلي، والواقع أيضاً،- بالمواقف وردود الفعل المتباينة حول قصة ريتشل؛ بين تقدير عميق لما قامت به ورفض يصل أحياناً إلى حد التشفّي في الطريقة التي قُتلت بها، ورغم بشاعة التشفى فإن أكثر ما أغضبني، كان المحاولة المستمرة لتصوير ريتشل على أنها ساذجة ألقت بنفسها ضمن معركة لا تعرف حدودها، فكرت في أن أي ممن انحازوا إلى الثورة المصرية يمكنهم أن يتصوروا أن من يتبنى هذا الموقف قد يردد عبارة "إيه اللى وداها هناك"!

غضبت، ليس فقط لأن ريتشل انحازت إلى قضية أؤمن بعدالتها (بالتأكيد هذا أيضاً)، ولكن لأن قراءاتي المتأنية لرسائلها إلى أسرتها من غزة أكدت لي أنها كوَّنت مواقفها عبر الملاحظة المباشرة والمقارنات، وأظهرت محاولتها التدقيق في استخدام الكلمات -وسط خبرات مؤلمة- بحرص ومنطقية.

لقد كتبت لأمها سندي تقول:

لقد سألتني عن المقاومة السلمية..
كنت أعدّ الشاي وألعب مع الطفلين الصغيرين حينما وقع القصف بالأمس وحطم كل النوافذ في بيت الأسرة (التي أقيم معها). أمرُّ بوقت صعب الآن، أشعر بالغثيان الشديد من أنني أتلقى كل هذا الحب والاهتمام من ناس يواجهون الموت، أعلم أن هذا قد يبدو مبالغةً بالنسبة لكم وأنتم في أميركا... شعرت بعدما تحدثنا بأنك ربما لم تصدقيني تماماً، وأعتقد أن هذا جيد؛ لأننى أؤمن بأن أهمية التفكير النقدي المستقل تفوق أي شئ آخر.
وأدركت أيضاً أنني أكون معكِ أقل حرصاً من المعتاد في ذكر مصادر ما أقدمه من تأكيدات، والسبب أنني أعلم أنك ستقومين بالبحث بنفسك، لكن هذا يقلقني بشأن مهمتي هنا. كل الموقف الذي حاولت أن أسرده أعلاه -وأشياء أخرى كثيرة- تؤسس بشكل ما تدريجياً -في كثير من الأحيان بشكل خفي لكن واسع- لتدمير قدرة هذه المجموعة من البشر في الاستمرار على قيد الحياة.
هذا ما أراه هنا: الاغتيالات، هجمات الصواريخ، إطلاق النار على الأطفال.. كلها أعمال وحشية، ولكن ترعبني فكرة أن التركيز عليها قد يُفقدني فهم السياق المتصل بما يحدث.
كانت ريتشل تحاول ترتيب أفكارها دون انفعال وهي تواصل تعريف ووصف ما عايشته:

الغالبية العظمى من الناس هنا، حتى لو لديهم الإمكانات المادية للهرب، حتى لو رغبوا في الاستسلام والتوقف عن المقاومة حفاظا على أراضيهم- لن يستطيعوا؛ فهم لا يمكنهم الذهاب لإسرائيل للتقديم على تأشيرات السفر. وحتى الدول التي قد يتوجهون إليها، لن تسمح لهم بالدخول (سواء بلادنا أو الدول العربية).
ومن ثم، أظن أنه حينما تتوقف كل سبل البقاء في محبس (غزة) لا يستطيع الناس الخروج منه يمكن وصف ما يجرى بالإبادة الجماعية، حتى لو أمكنهم الخروج، أعتقد أنه يظل من الممكن وصف ذلك بالإبادة الجماعية، ربما يمكنكم البحث عن تعريف الكلمة وفقاً للقانون الدولي، لا أذكر التعريف الآن... أتمنى أن أصير أفضل في وصف ما يجري، آمل ذلك، لا أحب استخدام الكلمات المشحونة، أعتقد أنك تعلمين عني ذلك، أنا أقدّر الكلمات فعلاً، أحاول التوضيح قدر استطاعتي لأترك الناس تصل إلى استنتاجاتها.
ترى سندي أن "ريتشل" -التي قُتلت وهب في سن الـ24- كانت أبعد ما تكون عن السذاجة؛ لأنها تعرف الآن وبعد خبرة في عمل المؤسسة ما يعنيه أن يكون العقل مدرَّباً على الكتابة وما يستدعيه ذلك من قدرة على البحث وتعميق الأفكار، وهو ما كانت ريتشل تستطيعه وتبدع فيه، وتؤمن سندي بأن قصة ريتشل استمرت في تردُّد صداها عند كثير من الناس؛ لأنها كانت تملك صوتاً عبر كتابتها، وربما هذا ما دفعهم في مؤسسة ريتشل للاهتمام بفنون الكلمة المكتوبة التي يحاول أصحابها أن يحدثوا تغييراً.

يتذكر كريج أن عمره حينما كان بالجيش في أثناء حرب فيتنام كان يزيد على عمر ريتشل، عند مقتلها، بنحو أسبوع ونصف الأسبوع فقط، يُعدّ كريج نفسه محظوظاً؛ لأنه لم يكمل مدته في الجيش وقتها وعاد للجامعة، وهو يرى أن التفكير في مسألة السذاجة، يستدعي أيضاً تأمل فكرة إرسال شباب صغير السن لحرب مثلما حدث في فيتنام، لم يشك كريج أبداً في ذكاء ريتشل وتفهُّمها، لكنه أدرك من رسائلها -التي تصف آثار الرصاص على الجدران في بيت به أطفال كأمر مسموح به وليس استثناء- أنها أمام جيش خارج عن السيطرة.

نتفق على أن ريتشل كانت عادلة متعقِّلة، كما نتفق على أن اختزال تجربتها في مشهد قتلها على يد الاحتلال الاسرائيلي -رغم قسوته ورمزيته- ليس أفضل شيء يمكن فعله، وربما لهذا كتب كريج في رثائه لـAlan Rickman معبراً عن امتنانه له؛ لأن معالجته للمسرحية أظهرت ريتشل كشخصية حية متعددة الأبعاد؛ تحلم وتفكر وتثرثر وتثير الضحك أحياناً.

أفترض عبر هذه السطور أن أثر ريتشل ممتد، لمعَ أمامي جانبٌ منه حينما صحبتني سندي إلى مركز نشاطات الطلاب بجامعة ،Evergreen حيث يتوسط المكان الآن -وبعد وقت طويل من تاريخ قتل ريتشل- نصب تذكاري صُمم بخصوصية؛ لتكريم ذكراها، وإن كنت لم أفكَّ شيفرته إلا بعد شرح من سندي.

الطلاب.. المقاطعة وقيود الجامعة

جاء "روبرت " من ولاية Maine، شمال الساحل الأميركي الشرقي، إلى الساحل الغربي؛ ليدخل جامعة Evergreen بأولمبيا، وهو يعرف عن تاريخ المدينة غير البعيد من شهودها حركة نسوية متمردة في التسعينات إلى المظاهرات المناهضة للحرب في بداية الألفية، وعن "ريتشل كوري" التي يرى أنها شكلت دفعاً لحركة التضامن مع فلسطين بالجامعة في الأعوام التي تلت رحيلها، وتجدد هذا الدفع عبر حملات "حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات" BDS التي أُطلقت كمبادرة مدنية فلسطينية في عام 2005 وتحولت إلى حملة دولية في 2007.

ينخرط أغلب أعضاء "طلاب من أجل فلسطين" في Evergreen بحركات اجتماعية متعددة وأنشطة مناهضة للرأسمالية، إلا أن أغلب الأنشطة المتعلقة بفلسطين تظل متمحورة حول الحرم الجامعي وتستهدف رفع وعي الطلاب حول القضية (فلسطين/"إسرائيل") عبر ورش عمل تعليمية وتعريف بمنتجات أو استثمارات تتواطأ مع الاحتلال (أو الأبارتهايد الإسرائيلي).

يميل "روبرت" -نظرياً- إلى تنمية علاقات وثيقة بين "طلاب من أجل فلسطين" وغيرها من المنظمات والحركات الاجتماعية داخل الجامعة وخارجها، لكن على المستوى العملي يجد الأعضاء أنفسهم أمام عوائق لوجيستية وسياسية تسببها القواعد المقيدة لأنشطة المجموعات الطلابية وسياسات الجامعة، ومع هذا يظل الوضع في أولمبيا غير معتاد؛ إذ تضم المدينة مؤسسة ريتشل التي تملك جذوراً قوية في المجتمع المحيط بها وتتعاون مع حركات الطلاب التضامنية.

ورغم أن نشاط "طلاب من أجل فلسطين" كان في مرحلة كمون نسبي عند دخول "روبرت" إلى الجامعة عام 2014- فإنه لاحظ أن اسم "ريتشل كوري" ظل معروفاً حتى بالنسبة للطلاب غير المسيَّسين، وأن قوة الأثر السياسي لذكرى ريتشل عادة ما ترتبط بتأسيس عمل منظم داعم لفلسطين وقرارات واضحة مثل تلك التي اتخذها طلبة الجامعة لتبني دعوة BDS عام 2016 إلى مقاطعة شركة Caterpillar المنتجة لنوع الجرافات التى قتلت ريتشل وتخدم أنشطة الاحتلال الاستيطانية، وهب خطوة كان يسهل ملاحظة أثرها داخل مركز النشاط الطلابي -وقت زيارتي له- حيث انتشرت الملصقات المعبرة عن حملة المقاطعة.



boycott_calls



BDS من فلسطين إلى متاجر أولمبيا

داخل مؤسسة ريتشل كوري، يعمل "أندرو ماير" بطريقة تعبر بقوةٍ عن تنسيق يتزايد بين المؤسسة وحركة BDS، كان أندرو هو أول من راسلتُه؛ حتى يمكنني التعرف أكثر على ريتشل ومؤسستها: من أين أتت؟ وماذا تركت وراءها؟ فـ"أندرو" هو المسؤول عن التواصل الإعلامي والسياسات العامة بمؤسسة ريتشل، وهو أيضاً داعم نشط لحركة BDS ومؤسس لها في أولمبيا.

كان أندرو -وعكس روبرت- في أولمبيا وقت إعلان مقتل ريتشل، وهو يذكر هذا اليوم جيداً ومساهمته في زيادة اهتمامه بالوضع في فلسطين، لكنه وبخلاف الاطلاع والتثقيف لم يكن قد كرس -حتى ذلك الوقت- نشاطاً بعينه لصالح القضية.

سمع أندرو شهادات كثيرة تؤكد أن العدوان الإسرائيلي على غزة عام 2008 كان محفِّزاً لبداية نشاط كثيرين ممن يُعتبرون اليوم متضامنين مع القضية الفلسطينية، وهو أمر ينطبق عليه أيضاً، فقد حدث وقتها أن وجهت مؤسسة ريتشل وعدد من المنظمات المحلية دعوة لاجتماع عاجل، حضره أندرو وقرر على أثره التواصل مع سندي وكريج ليبدأ العمل معهما.

اهتم أندرو بتكتيكات المقاطعة منذ وقت مبكر؛ لذلك فقد أدرك على الفور قيمة الدعوة التي خرجت من المجتمع المدني الفلسطيني لإنشاء حركة BDS، أما فرصة مساهمته بشكل ملموس فقد جاءت في 2009 عبر تأسيس فرع الحركة في أولمبيا؛ للتوعية بالجرائم الإسرائيلية وبناء حملات لتنفيذ دعاوى المقاطعة.

في 2010، ظهرت نتائج قوية لهذا العمل؛ حينما أصبحت تعاونية أولمبيا الغذائية أول متاجر بقالة تقاطع رسمياً البضائع الإسرائيلية، واستمر أندرو بنشاطه في أثناء دراسته الجامعية بأولمبيا ودراسته للماجستير في بريطانيا وعبر المساعدة في إنشاء وتقديم ورش عمل عن استراتيجية المقاطعة والكتابة تعليقاً على الأحداث.

يكره أندرو أن يصف موت ريتشل بأنه زاد من "شعبية" حملات المقاطعة -خاصة لـCaterpillar- لكنه لا يجد مصطلحاً أفضل، وهو يظن أن العوامل والمحفزات الشخصية قد تساعد الناس في اتخاذ قرار المشاركة في حملةٍ ما، إلا أن الأساس يظل مرتبطاً بالاستراتيجية الشاملة والتكتيكات التي وضعها المجتمع المدنى الفلسطيني، الذي يمتن "أندور" له كثيراً؛ لأنه نجح في إنشاء قناة تضامن دولي فعال.

(2)


كيف صنعت "ريتشل" خياراتها؟

تتمدد على حائط كبير في شارع Capitol Way بأولمبيا، جدارية صُممت كشجرة ضخمة، تتعدد أوراقها التي تمثل كل منها منظمة تعمل بصورة ما لمناهضة الاحتلال الإسرائيلي، الجدارية تحمل عنوان تضامن بين مدينتى أولمبيا ورفح ضمن أعمال مؤسسة ريتشل بالتعاون مع Break the Silence Mural Project، وهى مليئة بتفاصيل بصرية وكواليس تستحق الاستقصاء والاهتمام.



rafah_wall


وُضعت أرقام اتصال في حالة تعرضت الجدارية لأي تخريب، ولكن مؤسسة ريتشل لم تتلقَّ أي اتصال بهذا الشأن، ترى سندي أن هذا قد يكون سببه أن سكان أولمبيا قد أحبوا الجدارية أو أنهم ربما لم يفهموا بشكل واضح ما تمثله.

اختار عدد من مواطنى أولمبيا الانخراط في نشاطات للتضامن مع فلسطين، وفي 2007 كان هناك نشاط اشتُهر لمناهضة الحرب، عبر عرقلة إرسال معدات عسكرية للعراق من ميناء أولمبيا، لكن اختيارات الناس تتعدد؛ فالمنطقة نفسها يوجد بالقرب منها قاعدة تدريب عسكرية ويقرر بعض العسكريين أحياناً التقاعد فيها؛ نظراً إلى هدوئها وجمالها، وتعلم سندي أن مواقف عدد منهم تخلق احتكاكات وجدلاً مع النشطاء المحليين، لكنها تجد آخرين منهم يعملون على قضايا مهمة؛ ففي المبنى نفسه الذي تقع فيه مؤسسة ريتشل توجد مجموعة تتعامل مع تساؤلات الجنود وقضايا المشرَّدين من المحاربين القدامى، وهي تفاصيل تدعم تصور سندي بأن أولمبيا تظل بيئةً تتفاعل فيها مجموعات واختيارات مختلفة بشكل يثير الاهتمام.

قد يدفعنا حديث سندي عن اختيارات الناس في أولمبيا لسؤال: كيف كوَّنت ريتشل خياراتها؟

كانت ريتشل الطفلة الأصغر في أسرتها، يفصلها عن أخيها الأكبر "كريس" 7 سنوات، وعن أختها "سارة" 5 سنوات، لم يكن فاصلاً كبيراً لكنه أسهم في أن يمتلك أخواها نظرة مغايرة؛ إذ كان الوضع الاقتصادي وشكل الحصول على المعلومات وقت دخولهما إلى الجامعة يختلفان عن الوقت التى وصلت فيه ريتشل للمرحلة نفسها.

كادت ريتشل تشهد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول بشكل مباشر، حيث تصادف يومها محاولتها السفر في رحلة داخلية، لتبدأ لديها أسئلة جديدة دفعتها لمحاولة اكتشاف ما يجري حولها بصورة مختلفة في ظل ثورة معلوماتية غير مسبوقة، وربما يكون هذا أيضاً قد ضمِن ما وصفته سندي بأن كل جيل غالباً ما يشهد حدثاً ما، قد يغير نظرته للعالم، كما جرى مع سندي نفسها إثر حادث اغتيال الرئيس الأميركي الأسبق جون كينيدي.

لكن كريج يعود للوراء أكثر؛ ليناقش خيارات ريتشل، فيرى أنها كانت أصغرَ من عرفهم ممن رفضوا تجاهل المهمَّشين، كانت ريتشل في الحادية عشرة حينما كتبت قصيدة عن مشرَّد في أولمبيا وكيف يقرر الناس إعطاءه دولاراً دون النظر إليه وبينما يتجنبون رائحة فمه.

وفي مرحلة الثانوية، ربما قابلت ريتشل أختها "سارة" وهي مع أحد الأشخاص، فتعرّف سارة على أنها أختها ولا تعرّف هذا الشخص؛ لضمان خصوصيته. والسبب أن ريتشل كانت تعمل ضمن خدمة خط رعاية لتلقي مشكلات المراهقين وإحالتهم إلى متخصصين لمساعدتهم، وحينما وصلت لنهاية المرحلة الثانوية قدمت خدمة للبالغين أيضاً، لاحقاً تعرّفت أسرة ريتشل بعد رحيل ابنتهم على بعضِ من قدمت لهم هذه الخدمة وأصبح أحدهم صديقاً للأسرة.


اكتشاف العالم والذنب الطبقي

أما نقطة التحول بالمفهوم السياسي، فجاءت حينما كانت ريتشل في سن الخامسة عشرة، وقتها زار بعض الشباب الروس أولمبيا، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، واستضافت أسرة ريتشل، من بينهم، سيدةً شابةً أكثر من شهرين، ثم سافرت ريتشل إلى روسيا لتبادلها الزيارة وقضت 6 أسابيع هناك، وظهر تأثُّرها بالتجربة التي وصفت فيها كيف وجدت أناساً لطافاً على استعداد لمشاركة القليل الذي لديهم، وجدت ريتشل صعوبة -بعد تلك الرحلة- في العودة كطالبة أميركية تعيش حياة معتادة، بينما أصبحت تدرك الفجوات العديدة بينها وبين بشر آخرين حول العالم.

ظل شعور بالذنب لأسباب طبقية وحقوقية ضمن ما يحرك ريتشل ويُشعرها بمسؤولية ما، ربما تشكل قراراتها الشخصية. كتبت قبل مقتلها بأيام قليلة تناقش والدها في سيناريوهات محتملة لما بعد زيارتها التضامنية لفلسطين:

لا أريد أن أترك هذا المكان (رفح) ويملأني الشعور بالذنب إذا لم أعد إليه، بينما أستطيع السفر والعودة بسهولة (عكس أهالي المدينة هنا)، أعتقد أنه أمر مميز أن نصنع ارتباطاً بالأماكن؛ لهذا أحب أن أخطط للعودة إلى هنا خلال عام. وبين كل الاحتمالات (التي ذكرتها سابقاً)، أظن أن المرجح أنني سأذهب للسويد أسابيع قليلة في طريق عودتي (لأميركا). أستطيع أن أبدل تذاكر الطائرة من باريس للسويد والعودة بنحو 150 دولاراً. أعلم أنني كان يجب أن أحاول التواصل مع الأقارب في فرنسا، لكن أعتقد أنني لن أفعل ذلك؛ لأنني سأكون غاضبة أغلب الوقت، ولن أكون مبهِجة لمن حولي، أعتقد أنها نقلة مترَفة أكثر من اللازم حالياً، وسيتملكني شعور بالذنب الطبقي طوال الوقت.
تتذكر سندي بوضوح، كيف كانت ريتشل تشعر بتمتعها بالامتيازات، التي ربما قد يشعر بها بعض الأميركيين البيض من الطبقة الوسطى، خاصة ممن يصلون للتعليم الجامعي، وذلك رغم أن ريتشل كانت فخورة بأنها استطاعت أن توفر نفقات دراستها، بعد أن عملت ضمن مشروع بيئي لمدة عام، ورغم أنها كانت الأقل طلباً للدعم المادي من بين إخوتها.

تملك ريتشل نوعاً آخر من الشعور بالذنب عند دخولها إلى جامعة Evergreen؛ إذ قابلت طلاباً وزملاء حُرموا مما تمتعت به هي من أسرةٍ اهتمت بها وبتعليمها وحرصت على فرصها في اللعب والحياة، وكان لـ"ريتشل " أيضاً أسرة ممتدة كبيرة من طرفى سندي وكريج أغلبهم في الغرب الأوسط بولايتي إيوا ومينيسوتا، لكن الأمور مع الأسرة لم تكن بهذه السهولة كل الوقت؛ فرغم حب ريتشل واحترامها أخويها فإنهما كانا في موقع مختلف في العمل والحياة قد يجعلهما أحيانا ينطلقان من منطق سياسي مختلف، وأحياناً أيضاً كانت الأمور صعبة ومؤلمة بين ريتشل ووالدها كريج في نقاشات حول العمل أو غيره، تقول سندي إن ريتشل ربما أرادت منهم أن يتحركوا (يتغيروا) بشكل أسرع، لكنها كانت حريصة معها (ومحبة لها) على وجه التحديد.


ريتشل حليفة سندي التي أرادت أن تخيفها

تمتلئ كتابات ريتشل بالتعبير عن عمق العلاقة بينها وبين سندي، وتنقل قراءة هذه الكتابات إلى مستوى آخر من المعرفة بـ"ريتشل".. ربما يكشف عن جوهر القلق والرغبة الأصيلة في الاختلاف والتغيير. في شتاء 1998، كتبت ريتشل لوالدتها:

أعرف أنني أخيفك، لكن لا يناسبني أن أكون (لاعب سيرك) يسير على حبل مشدود بزي محدد بينما يوجد أسفله شبكة أمان، أود أن أرسم وجهي بلون عينيك، لكني لا أريد أن ألبس زيَّك، حينما أنظر إليك أرى موسيقى.. أرى في وجهك أغنية تُعزف وفي صوتك حينما تتحدثين إلى.. حينما تتحدثين إلى أصدقائي..
يجب أن أفعل شيئاً يُخيفك، أعتذر لأني أخيفك، لكنني أريد أن أكتب.. أريد أن أرى… .

في لحظة ما، شعرت بأنني ربما بالغت في توجيه أسئلتي إلى كريج؛ تجنباً لرؤية الوجع الذي يملأ وجه سندي ويتسلل إلى صوتها رغم السنين ورغم نشاطها المستمر، لكنني لم أستطع أن أهرب حينما واجهتني بقولها: "دائمًا ما شعرت حين تركت ريتشل عالمنا بأنني فقدت حليفتي في هذه الأسرة، تعرفين كيف تسير الأمور بين أفراد الأسرة الواحدة حينما تحتدم النقاشات ويختار كل واحد أن ينحاز إلى طرف ما، ابني كريس وسارة وكريج عادة ما كانوا يتحالفون معاً وأكون أنا وريتشل في الطرف الآخر، لقد كانت تطمئنني على نحو هادئ، كانت إذا ما ثار نقاش وحدث أن احتدَّ علي كريج أشعر بذراعها يحيطني دون كلام ويدها تربت علي.. تعرفين ذلك النوع من الدعم".

أقرأ لـ"ريتشل" وأحاول أن أفهم أكثر ما أرادت سندي وصفه.. كتبت ريتشل عن يد والدتها أيضاً، في أغسطس/آب 2002 تقول: "علَّمتني أمي أيضاً أن أرى الغموض، بعض الناس لا يفهونه على الإطلاق وهذه مأساة! هي عامرة بالغموض، إنه في ثنايا يديها، كفَّا أمي يتوهجان... لأمي يدان مسحورتان".

السفر إلى غزة: جذور القرار

رغم حماسة ريتشل ونشاطها المستمر بالجامعة ووسط مجتمعها في أولمبيا، لم يكن قرار سفرها إلى غزة كما لو أنها استيقظت يوماً وقررت الذهاب، وإنما اتبعت خبراتِ آخرين سبقوها، كان هناك نوع من انتشار الفكرة في أوساط النشطاء بالجامعة ممن لهم صلات وتحركات مباشرة بشأن فلسطين، ومنهم من سافر إليها من أولمبيا بعد أول دعوة بعنوان Freedom Summer في عام 2002، وآخرون من جامعات أخرى سافروا إلى الضفة الغربية وغزة.

لم يكن كريج وسندي يعيشان بأولمبيا في الوقت الذي بدأت فيه ريتشل الحديث عن رغبتها في السفر إلى فلسطين، لكنهم قابلوا لاحقاً كثيراً ممن تعرفت عليهم ريتشل؛ لتتعلم عن حقيقة الموقف في فلسطين، خصوصاً من أعضاء حملة التضامن الدولية "ISM" التي -وكما تؤكد سندي- أُسست بعد دعوة ماري روبنسون في الأمم المتحدة لإنشاء قوات مراقبة بعد الانتفاضة الثانية في 2000، وبالطبع تم إعلان حق الفيتو ضدها من قِبل الولايات المتحدة الأميركية، فظهرت "ISM"؛ لتقوم بالمهمة وتخلق واقعاً وكان من بين أعضائها فلسطينيون، ويهود من داخل إسرائيل، وأميركيون مناهضون للاحتلال ومنخرطون منذ وقت طويل في المقاومة المدنية.



rachel corrie


ومن بين هؤلاء، غسان أندوني الأستاذ بجامعة بيرزيت، الذي كان قد انخرط وعائلته في أشكال مختلفة للمقاومة في بيت ساحور منذ فترات طويلة، ظهرت بوضوح مع الانتفاضة الأولى، وآخرون مثل "هويدا عراف" التي تعيش عائلتها في ولاية Michigan، لكن أبويها من الضفة الغربية، فاستطاعت السفر إلى هناك وعملت فترةً في منظمة "بذور السلام"، ثم تزوجت يهودياً أميركياً مناهضاً للاحتلال الإسرائيلي وهو الناشط الدولي المعروف آدم شابيرو، وعملا معاً ضمن حركة التضامن الدولية، وهؤلاء هم بعض من بادروا بالحركة وتبعتهم ريتشل.

ربما يقابل كريج وسندي أحياناً لوماً خفياً في تساؤلات بعضِ من يتعرف على قصة ريتشل وكونها كان يمكن أن تسافر إلى مكان آخر أقل خطراً، يواجه كريج الأمر بواقعية ويقول إن الحقيقة وقعت وإن ريتشل قد سافرت إلى غزة وقُتلت هناك، بينما عادةً ما تُردِّد سندي أنها بالتأكيد لا تتمنى أن يموت آخرون مثل ريتشل، لكن محاولة تغيير العالم ليست بالشيء السيئ على أي حال، ولو أن هناك شخصاً ما حاول فعلياً تأخير قرار سفر ريتشل فقد كان مدرس اللغة العربية بجامعتها، وهو فلسطيني من الناصرة، ورأى أن من الأفضل أن تستمر في دراستها اللغة العربية؛ لأنها كانت تتقدم في دراستها وأعتقد أنها لو أكملت لتحدثت العربية بطلاقة.



cindey_craig



تقاطعات الألم والإلهام بين الشخصي والدولى

تتمنى سندي ألا تعيش شعوراً مماثلاً لذلك اليوم الذي تلقت فيه خبر مقتل ريتشل... كان واقعاً فظيعاً، ومع هذا فأحياناً ما تشعر سندي بأن آخرين مرُّوا بتجارب، ربما أشد قسوة، مثل اللاجئين الآن.

بعد مرور أسبوعين من مقتل ريتشل، تلقت سندي دعوةً للذهاب إلى سياتل لمقابلة Linda Biehl التي قُتلت ابنتها إيمي Amy في جنوب إفريقيا عام 1993، قبل أول انتخابات بعد نهاية الفصل العنصري، كانت إيمى داعمة لحقوق التصويت وقُتلت بوحشية في مواجهة حشود غاضبة في فترة اضطراب بعد سنين من حكم عنصري بشع، أسس والدا "إيمي" مؤسسة باسمها في جنوب إفريقيا وحاولا إكمال ما تمنَّته ابنتهم.

ثمة اختلافات كبيرة بين سياقات قصتي ريتشل وإيمي، لكن مقابلة الأسرتين كانت شيئاً قوياً ومؤثراً؛ لأن أسرة ريتشل كانت تمر بشيء لم تعهده واحتاجت بشدة للتواصل مع من مروا بتجربة شبيهة، أو كما قالت سندي: "مع من مروا بمأساة شخصية أخذت بعداً دولياً".

بخلاف تقاطع تجارب الألم والإلهام بين أسرتي "بيهل " و"كوري"، يمكننا أن نجد روابط تأسيسية في سياق أوسع بين جنوب إفريقيا والنضال الفلسطيني، مثلما أشار مؤسسو "BDS" صراحةً إلى استلهامهم تجارب حركة مناهضة الفصل العنصري بجنوب إفريقيا، بشكل معاصر، ويعلق أندرو على هذا قائلاً: "من يمكنه فهم القوى الدولية الداعمة لرأسماليةٍ مؤسَّسةٍ على التفوق العرقي ومنتِجة للفصل العنصري أفضل من الفلسطينيين؟!".

يجد أندرو تشابهاً مخيفاً بين المواقف والحجج المناهضة التي تقدمها شخصيات رسمية إسرائيلية ضد حركة BDS وتلك الردود التي كانت تدلي بها القوى السياسية التي حاولت الحفاظ على نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، وهو يستطيع أن يرى ترابطاً بين مسار حركة BDS في فلسطين مع تجربة محاربة الأبارتهايد في جنوب إفريقيا مع فارقٍ هام -في رأيه- وهو أن نجاح "BDS" يتحقق بوتيرة أسرع، حيث تواجه إسرائيل حركة دولية شعبية متزايدة لهدم نظامها الإثني المغلق الذي أُسست عليه.

رغم قسوة ما مر بهم، تقول سندي إنهم كانوا محظوظين؛ لأن كل ما مروا به أعطاهم قوة، كانت ريتشل ابنتهم الصغرى ولم ينتظرهم بعدها الكثير من المسؤوليات، وربما جعلهم هذا على استعداد أكبر لاتخاذ خطوة جديدة في حياتهم، عبّر عنها كريج بشكل واضح؛ حينما تحدث وقتها عن خشيته من أمرين: الأول أن يسمح لنفسه بأن تتملَّكه الكراهية، فقد أراد ردَّ فعل مختلفاً، وهو رأى أن موقعهم خارج دائرة الصراع يجعل وجهة نظرهم تتركز على فكرة ألا يفقد أي أحد أبناءه بصرف النظر عن هوية الضحية، والأمر الثاني الذي خشي منه هو أن " ينسى"، يعرّف "كريج " عن نفسه منذ خدمته في الجيش بأنه يستطيع الاستمرار وتجاوز المحن، خاف أن تسير الأمور بشكل عادي بعد مقتل ريتشل ولم يودَّ أن يحدث هذا.

حضر كريج مراسم لتأبين ريتشل في جامعتها، قام بها حاخام وقسّ وإمام، يقول كريج إن الإمام تحدث عن أن الإنسان إذا مات لم يبقَ له إلا أثر أفعاله وذكر أصدقائه ومحبيه له، وقتها شعر كريج كما لو كان الإمام يتحدث إليه لا عن ريتشل، شعر كريج بأن لديه فرصة لفعل شيء.

(3)


مؤسسة ريتشل كوري .. كواليس التجربة وحركات التغيير

كان كريج وسندي في مرحلة تسمح لهما بالتغيير، وجاء قرارهما بإنشاء مؤسسة "ريتشل كوري"؛ لتكون جزءاً من هذا التغيير.

تعمل أخت سندي محامية، وأرادت المساعدة فقامت سريعاً بالإجراءات اللازمة؛ حتى يمكن قبول المؤسسة كمنظمة غير ربحية 51-c وفقاً للقانون الأميركي، وفي إطار التحضير للمؤسسة، تعرف كريج وسندي على سيدتين في أولمبيا تطوعتا بتقديم مساعدة كبيرة لهما في وضع الخطوات التفصيلية الصغيرة للمؤسسة. وتزامناً مع هذا وبالطريقة نفسها، واجه سندي وكريج الإعلام دون خبرة سابقة، لكنهما فكرا في أنهما إذا لم ينشرا قصة ريتشل في الوقت الذي يطالبهما الناس بذلك فستُنسى، عملا بطريقة سريعة وتلقائية؛ فمثلاً كانا يجلسان على الأرض بينما تكتب ابنتهما "سارة" النقاط التي سيستعينان بها للحديث في حوار إذاعي وهكذا.

ورغم أن ريتشل قُتلت قبل الحرب على العراق مباشرة واستمر الاهتمام بقصتها يوماً أو أكثر فقط في الإعلام السائد الذي توجه سريعاً بعدها إلى الحرب- اهتمت كثير من وسائل الإعلام البديل بأن تسمع منهما أكثر، تقول سندي: "اكتشف الناس أن لدينا ما نقوله ونستطيع ونحتاج إلى أن نقوله، فكان لدينا عدد هائل من الجولات حول البلاد وتستمر إلى الآن إلى حد ما".

تجعلني زيارتي مقر "مؤسسة ريتشل كوري"، صغير المساحة، أتفهم اعتقاد سندي أنهم ربما أخطأوا في التسمية؛ إذ إن كلمة "مؤسسة" قد تدفع الناس لاعتقاد أنها كيان ضخم يملك تمويلاً كبيراً، والحقيقة أنها تعتمد بشكل كبير على تبرعات صغيرة تصل إلى 25 دولاراً أو أقل وعلى بعض المنح التي تحتاج إلى جهد كبير في التقديم لها ومحاولة الحصول عليها.

يعمل داخل المكتب 3 لـ¾ الوقت لشؤون الإدارة، وللسياسة العامة والاتصالات، ولإدارة البرامج، ويساعد الجميع بعضهم بعضاً، يعمل سندي وكريج بشكل تطوعي، ورغم أنها لم تكن ترغب في ذلك فإن الأمور دفعت سندي لتكون "المدير التنفيذي"، وترى سندي أنه من حسن الحظ أن خبرتها الإدارية وخبرة كريج في الشؤون المالية تجعلهما يكمل بعضهما عمل بعض، كان مجلس أمناء المؤسسة قد بدأ بـ4 أشخاص ويشغل عضويته الآن 8 أشخاص، وتعتمد بِنْية العمل في المكان على تشكيل لجان لتنفيذ المشروعات والمهام المتعددة.

وُضعت أهداف عامة لـ"مؤسسة ريتشل"، وكان من بين الأشياء مفتاحية التعليم، والتواصل، وبناء علاقات حقيقية مع المتعاونين والداعمين... وتقيم المؤسسة ندوات دورية ويساعدهم في تحضير النقاشات أعضاء هيئة التدريس العرب بجامعة Evergreen، دعمت المؤسسة مشروعات ومبادرات أخرى مثل "مهرجان أولمبيا العربي" (الذي أقيم في أكتوبر/تشرين الأول 2016)، وجاءت فكرته باقتراح من فلسطينيين أميركيين قائمين على مهرجان مماثل في مدينة سياتل، وحرصاً على مصداقية مثل هذه الفعالية دعا مقدمين ومؤدين من تجمعات عربية في منطقة بورتلاند؛ إذ لا يوجد مجتمع عربي كبير في أولمبيا.


ثنائيات التجربة: المحلي مقابل الدولي و السياسي مقابل الإغاثي

كان لتجربة ريتشل أبعاد محلية باهتمامها بمجتمعها في أولمبيا، وأخرى دولية عبر حركة التضامن الدولي مع فلسطين، لكن أندرو لا يعتقد أن ثنائية المحلي/الدولي تكون دائماً دالةً في نشاط مؤسسة ريتشل أو في التضامن مع القضية الفلسطينية بشكل عام. يقول أندرو إنه من الممكن تقرير نقطة تركيز في وقت بعينه وليس بالضروري تقسيم العمل إلى محلي وقومي/ دولي؛ فمثلاً جهود حملة محلية مثل مقاطعة " التعاونيات الغذائية في أولمبيا " للمنتجات الإسرائيلية تردد صداها على المستوى الوطني (داخل الولايات المتحدة الأميركية) والدولي بطريقة ربما أكثر تأثيراً مما حدث على المستوى المجتمعي الذي تمت الحملة من داخله.

وفي السياق نفسه، يدعو أندرو إلى استراتيجية مرنة ودرجة من الواقعية حول ما يمكن فعله ضمن مجالات التضامن، فهو يرى -على سبيل المثال- أن سفر المتضامنين الدوليين إلى فلسطين أمر هام؛ ليروا بأعينهم جرائم النظام الإسرائيلي، ولإظهار الاهتمام بحقيقة وضع الفلسطينيين، لكن أندرو يرى أنه واقعياً يبدأ 90 % من العمل الحقيقي حينما يعود المتضامنون إلى بلادهم؛ ومن ثم يصبح "المحلي"، بشكل ما، هو جوهر العمل الدولي التضامني.

يجد سندي وكريج صعوبةً في رفض أي من الأنشطة التي تُعرض عليهم للمشاركة فيها أو رعايتها، لكنهم لا يركزون على العمل الإغاثي، ليس فقط لأن مؤسسة ريتشل لا تملك الموارد الكافية لتقديم المساعدات الإنسانية؛ بل لأنهم يركزون بالأساس على تغيير السياسات، ويرى كريج أنه حتى تجميع المساعدات المالية للأعمال الإنسانية يعدّ عملاً سياسياً في حد ذاته؛ لأن الناس تحتاج أن تفهم الناس طبيعة قضية ما حتى يدركوا الحاجة لتقديم المساعدة بشأنها.

يقول كريج: "... نحاول أيضاً أن نقوم بتقديم ما نريد وفقاً لما يطلبه الفلسطينيون، ولهذا فحينما رغب بعض أصدقاء ريتشل (وهم أصدقاؤنا الآن) في أن يعقدوا بطولة كرة قدم باسمها في قطاع غزة وافقنا؛ إذ فهمنا من أميركي-فلسطيني أن مثل هذه البطولة نوع من المقاومة بعد الهجمات التى تمت على القطاع... وهكذا فحتى مثل هذا العمل تحول لفعل سياسي.. كل شئ له علاقة بالسياسة".

وعلى ذكر العلاقة بالسياسي، حاول في البداية بعضُ من عمِل على تقديم مسرحية "اسمى ريتشل كوري" عدم تسييسها؛ لتجنب أي صدام محتمل، ورأى كريج أن يسمح بهذا إذا كان يمكن أن يجذب جمهوراً أوسع قد يتبنى وجهات نظر مختلفة، لكنه سيجد فرصة لرؤية ما يحدث في فلسطين عبر عيون شابة أميركية، وهو أمر يحمل في حد ذاته حمولةً سياسيةً كافيةً. لكن بصورة ما ومع ردود الفعل المشجعة، احتفظت المسرحية مع الوقت برؤى ريتشل السياسية أيضاً.



rachel corrie



على المسرح: أكثر من ريتشل

اعتبرت سندي تقديم المسرحية ضمن عروض عديدة خبرة تعليمية ممتعة لهم، وتقول: على المستوى الشخصي، رأينا كم يكون المسرح مؤثِّراً ووسيطاً إبداعياً، رأينا شابات مختلفات يقمن بالدور، ولم تكن أي منهن تشبه الأخرى؛ بل وقد يتغير أداء الفنانين كل ليلة، كما تتغير ردود فعل الجمهور، تعلمنا كيف يعمل الناس في المسرح كفريق وكيف يختلف من بلد لآخر، لقد رأينا المسرحية في آيسلندا، وفرنسا، وتركيا... كان هناك طالبة تدرس بجامعة Oregon وشاهدت المسرحية من إخراج أستاذها، فقررت أن تنفذ العرض في تركيا وأن تدعونا... لقد شاهدنا المسرحية بالعربية وبالعبرية، في حيفا داخل الـ48.

بعد 5 سنوات بالضبط من مقتل ريتشل، قدمها المخرج الفلسطيني "رياض مصاروة" الذي رحل في عام 2016. قيل لـ"كريج" إنه قد يجد العرض العربي طويلاً وأقرب إلى المونولوج، لكنه يستدرك: "لقد أحب المخرج رياض ريتشل من زاوية فكرية وناقش كتابها وأفكارها في العرض".

من بين محاولات التجريب والتجديد في عرض مسرحية ريتشل، لفت نظري بشدةٍ، فيديو لعرض تم في جامعة نيويورك NYU، قدَّم ريتشل في مراحلها العمرية المختلفة فتيات من خلفيات عرقية مختلفة؛ إحداهن أميركية من أصول إفريقية وأخرى من أصول لاتينية وبيضاء، كان عرضاً مختلفاً ودالاً على استمرار محاولة طيف واسع وتعددي من الشباب الأميركي التعرف على قصة ريتشل.

ويبدو هذا مختلفاً عن الظرف الذي أُعلن فيه تأجيل مسرحية ريتشل، في خطوة أشبه بإلغاء العرض من قبل NY Theatre Workshop عام 2006، وقتها كان العرض قد تم في لندن ونجح بقوة، لكن وكما تقول سندي: "بالنسبة لداعمي السياسة الإسرائيلية، كانت قصة ريتشل تشكل تهديداً، وكان لديهم استعداد لعمل أي شيء لوقف عرضها، لكنه كان خطأً كبيراً من المجموعة؛ لأن حجب العمل حقق مزيداً من الاهتمام به، وربما خلق توقعات كبيرة، فلا أظن أن هناك عملاً مسرحياً قُدّم في هذا البلد كُتب عنه كل هذا الكم قبل عرضه".

غضب نشطاء في نيويورك لعدم عرض المسرحية، وكونوا مجموعة باسم Rachel’s Words أو "كلمات ريتشل"، وتعاون العديد من الناس، منهم مؤدون وفنانون، على رأسهم الشاعرة والكاتبة Maya Anglo التي قدمت قراءة لبعض أعمال ريتشل، وألَّفت موسيقى خصيصاً لهذه الفعالية التي تحدَّث فيها كل من سندي وكريج وحضرها نحو 1400 شخص. أما المكان الذي نُظمت فيه الفعالية، فكان Riverside Church، وهي الكنيسة التي قدَّم فيها مارتن لوثر كنغ خطابه الشهير ضد الحرب في فيتنام.


مقاربات ما بين العنصرية والاحتلال: تاريخ وجدل

تشجع واقعة إقامة عرض بديل لمسرحية عن ناشطة أميركية ضد الاحتلال الإسرائيلي في مكان شهد حلقة هامة من نضال حركة الحقوق المدنية- على التفكير في تلك المقاربة التي ظهرت وتنمو بين مواجهة التمييز العنصري في الولايات المتحدة الأميركية والوعي بطبيعة الجرائم الإسرائيلية وتوليد معارضة ضدها.

تذكر سندي أن محاميهم اقتبس في مرافعته، أمام محكمة إسرائيلية ضمن قضية ريتشل، فقرات من خطابات مارتن لوثر كنغ، وأشار إلى أن حركة التضامن الدولية "ISM" تحاول أن تكمل في فلسطين ما بدأته حركات الحقوق المدنية الأميركية.

في 2015، حضر كل من سندي وكريج مؤتمراً لـ "الحملة الأميركية لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي" في مدينة أتلانتا، التي شهدت تاريخاً طويلاً لحركة الحقوق المدنية بما دعم صلاتٍ وتعارفاً، ليس فقط مع أصوات شابة داخل حركة Black Lives Matter، لكن أيضاً مع قيادات قديمة للنضال المدني ضد التمييز، استمر التعاون بينهم وبين مؤسسة ريتشل في سياتل.

يرى أندرو أن المقاربة بين النضالين -ضد التمييز العنصري وضد الاحتلال- تعد قطعة هامة من الصورة، لكنها ليست العدسة الوحيدة التي يمكن عبرها لفت الانتباه للقضية الفلسطينية داخل الولايات المتحدة الأميركية؛ بل ويظن أن قصر الحوار على نموذج الاحتلال هو تصور محدود، يناقش أندرو تحفُّظه -بهدف تجذير المطالب الحقوقية- ضمن جدل معقد ومستمر بين أوساط النشطاء والسياسيين (عادة ما يرتبط بمسألتي حل الدولتين/حل الدولة الواحدة):

"إذا ركزت على الاحتلال، فإن هذه السردية ترتكز على ما بعد 67 وما يعتبر الآن حدود (المناطق الفلسطينية). وبصرف النظر عن مدى قصدية هذا، فإن هذا التوجه يخفي العنف التأسيسي الذي مارسته القوى الصهيونية وأدى إلى إعلان إقامة إسرائيل على أثر حملة تطهير عرقي تسببت في نزوح 750 ألف فلسطيني".
وفي السياق نفسه، أشار أندرو إلى تغيير تم مؤخراً لاسم "الحملة الأميركية لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي" (التي سبقت الإشارة إلى مؤتمرها الوطني بأتلانتا في 2015) إلى " الحملة الأميركية للحقوق الفلسطينية" كانعكاس للأفكار التي تشتبك مع رؤية يعتبرها أشمل لطبيعة القضية.

يتفق أندرو مع أن المواقف الأخيرة لحركة Black Lives Matter بشأن دعم حقوق الفلسطينيين لافتة، لكنه يؤكد أنها عودة (أو وصل لما سبق)، وليس مرحلة جديدة؛ إذ إن حركة التضامن بين الأميركيين من أصول إفريقية والفلسطينيين تحمل تاريخاً عميقاً وعملاً سياسياً ملموساً، وهو أمر يُعاد الاهتمام به الآن على مستوى حركي ويهتم بتفصيله بعض الأكاديميين والنشطاء على السواء، لكنه مازال يحتاج لنشر مزيد من الوعي به؛ فعلى سبيل المثال، أُدهش كريج في سياق تعاون مع Aaron Dixon مؤسس حركة Black Panthers (أو الفهود السوداء) في سياتل المعرفة القديمة للحركة منذ الستينات بالقضية الفلسطينية والصلات التي جمعت بينها وبين قيادات فلسطينية منذ وقت مبكر.

لكن هذه الدهشة تتبدد لدى أجيال أصغر من المهتمين وتظهر المراحل المختلفة كأنها خطوط متصلة، يقول روبرت: "... لقد دعمت حركات تحرر السود الفلسطينيين عقوداً، من حركة الفهود السوداء إلى نشطاء فرجيسون الذين عبروا عن دعمهم حينما تم الاعتداء على غزة في 2014،" وهو يعتقد أن أشكال معاناة الفلسطينيين والأميركيين من أصول إفريقية متباينة، لكنه لا يرى تطابق الخبرات شرطاً للتضامن.



rachel_memory



أقف أمام النصب التذكاري لـ"ريتشل" في جامعتها وقد صُمم كهرم مصقول يعلوه طائر، وقد وُضع في صندوق زجاجي كُتب عليه بالإنكليزية Reflection on Peace and Justice – in the memory of Rachel Corrie 1979- 2003، وإذ تبدو الكلمات كانعكاس لمعان السلام والعدالة ودعوة للتفكير فيهما تخليداً لذكرى "ريتشل كوري"، وإن خلا التصميم من أي معلومات توثق كيف قُتلت ريتشل ومن المسؤول عن قتلها، فما إن تقف أمام النصب حتى تنعكس صورتك أنت على الهرم بينما يعلوها انعكاس لاسم ريتشل وتاريخ ميلادها ووفاتها، كأن النصب صُمم كسؤال حي عما يمكن أن نفكر فيه ونفعله إذا ما استوقفتنا تجربة ريتشل.

تابعو الأردن 24 على google news
 
ميثاق الشرف المهني     سياستنا التحريرية    Privacy Policy     سياسة الخصوصية

صحيفة الكترونية مستقلة يرأس تحريرها
باسل العكور
Email : info@jo24.net
Phone : +962795505016
تصميم و تطوير