«موضة» سحب الجنسية
فيما العالم يتجه، ومنذ سنوات طوال، للقبول بـ «ازدواج الجنسية» أو حتى «تعددها»، نجد بعض الأنظمة والحكومات العربية، تسير في الاتجاه المعاكس، وتمرر قوانين وأحكام عرفية في مضمونها، تتيح إسقاط الجنسية عن مواطنيها وسكانها الأصليين، على الرغم من أن معظم، إن لم نقل جميع ضحايا هذا الإجراء التعسفي، المجافي لحقوق الانسان، هم مواطنون لا يتوفرون على أية جنسية أخرى.
بعض هذه الدول، بدأ مبكراً في ممارسة سحب الجنسية، مستهدفةً معارضين سياسيين، غالباً سلميين، للأنظمة والحكومات القائمة ... بعضها الآخر، وبالنظر لإفلاس سياساتها واستراتيجياتها في محاربة التطرف والإرهاب، لجأ مؤخراً تحت ذريعة الأمن والاستقرار، إلى تبني المقاربة ذاتها ... مع أن قوانين محاربة الإرهاب في معظم دولنا، لا تميز بين إرهاب ومعارضة، وتعطي تعريفاً للإرهاب، يشتمل على أية ممارسة تقريباً، حتى وإن كانت بمستوى تغريدة على توتير أو «بوست» على الفيسبوك.
زاد الطين بلة، أن بعض الدول ذهبت في إجراءاتها القمعية، حداً يتجاوز قمع حرية التعبير، وصولاً إلى قمع «حرية الصمت»، فلم يعد كافياً للبرهنة على مواطنتك وجدارتك في حمل جنسية بلدك، أن تلوذ بصمت القبور، وتلتزم طريق السلامة، بل بات مطلوباً منك أن تصدع بما تؤمر، وأن تصدح بما تردده الأبواق الإعلامية الرسمية، أطراف الليل وآناء النهار.
تشجعت حكومات وأنظمة عربية عديدة، بتفاقم هواجس الغرب من تفشي ظاهرة الإرهاب، وإقدام عدد من العواصم الأوروبية والغربية على استنان تشريعات مقيدة للحريات، بل ومتجاوزة على حقوق الانسان، وغياب الطلب الغربي على الدمقرطة وحقوق الإنسان في علاقاته مع جنوب المتوسط والعراق وحوض النيل ... فأطلقت لأجهزتها الاستبدادية من أمنية وقضائية العنان، وأعطتها الضوء الآخر لفعل ما تشاء، طالما أن أحداً لن يهتم بذلك، فتناسلت التشريعات السالبة للحريات، وتغولت الأجهزة على حقوق المواطنين وحرياتهم، ومن بينها سحب جنسيات معارضين ومتهمين ومدانين بالتطرف والإرهاب.
والحقيقة أن بعض دول الغرب «الديمقراطي»، قدمت نماذج سيئة للغاية على هذا الصعيد، تستحضرها أنظمة وحكومات عربية، كشاهد على جواز إقدامها على مقارفة أبشع الانتهاكات لحقوق الانسان، بما في ذلك سحب الجنسية، وانتهاك معاهدات جنيف زمن الحرب، وتدشين معتقلات ذاع صيتها في القسوة والعنف، أشهرها غوانتنامو، وقبله باغرام وأبو غريب، الأمر الذي ندينه وندين أية محاولة لاستنساخه.
لا أحد يدعو للتساهل مع الإرهابيين، ولا أحد يقلل من شأن «المكون الأمني» في أية استراتيجية لمحاربة الإرهاب، بيد أن تاريخ هذه المنطقة، القديم والحديث، يثبت بما لا يدع مجالاً للشك، بإن المقاربة الأمنية وحدها، لن تنجح في معالجة الظاهرة واحتواء التهديد، وأن اشتداد القبضة الأمنية يغذي الظاهرة ولا يجفف منابعها، وأن غياب منظومة حقوق الانسان ، قد خلق جيلاً من الراغبين بالانتقام، وأن السجون تحولت في كثير من الأحيان، إلى «أكاديميات» تخرج أفواجاً من القادة الإرهابيين بدل أن تكون مراكز للإصلاح والتأهيل.
بالمعنى الإنساني والشمولي لمفهوم حقوق الانسان، فإن المستهدف بهذه المصفوفة ليس فئة من المواطنين دون غيرها، بل جميع المواطنين والمتجنسين حديثاً والمقيمين من دون استثناء، حتى المجرمين والقتلة والإرهابين، ليسوا خارج هذه المنظومة ولا يتعين أن يحرموا من مظلتها، فلهم الحق في التحقيق الخالي من العنف، وفي توكيل المحامين، وفي مراكز توقيف وتحقيق واعتقال وسجن، مستوفية لشروطها الإنسانية ... لكن المؤسف أن الإجراءات التي تصدر عن بعض الحكومات والدول العربية، تتنكر لكل هذه المعايير... والمؤسف أكثر، أن ثمة «تفهماً شعبياً» لقسوة وغلاظة هذه الإجراءات، بحجة أنها تستهدف نوعية «منحطة» من البشر، وأن هذه الإجراءات أياً كانت، تندرج في سياق «القصاص العادل».