مشنقة واحدة ومليونا عنق
انشغلت الأوساط السياسية والإعلامية، العربية والإقليمية والدولية بنتائج انتخابات الكنيست التاسع عشر.. وتوقفت بشكل خاص أمام ما أسمته “مفاجأة” صعود “الوسط” و”اليسار”، بما يخلق حالة “توازن” بين جناحي الخريطة السياسية والحزبية في إسرائيل: اليمين واليسار.
والحقيقة أن هذه المقاربة ينقصها الكثير من التدقيق والتمحيص، بشكل خاص في معنى ومضمون “اليمين” و”الوسط” و”اليسار” في السياق التاريخي والسياسي لإسرائيل..مثل هذه التقسيمات والتصنيفات، قد تحمل بعض المضامين المتعارف عليها عالمياً، عندما يتعلق الأمر بالاقتصاد والاجتماع والحريات العامة وحقوق الأفراد والجماعات..بيد أنها تخرج عن سياقها العام، حين يتصل الأمر بالمسألة الفلسطينية ومستقبل الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي وحل الدولتين.
بهذا المعنى، ومن منظور الحقوق الوطنية الثابتة للشعب الفلسطيني، يمكن القول أن جميع من فاز في انتخابات الكنيست التاسع عشر، هم من اليمين، فليس من بينهم (باستثناء القوائم العربية) من يرتضي الاعتراف بمسؤولية إسرائيل عن النكبة والتهجير، وما يترتب على ذلك من إقرار بحق العودة والتعويض لأزيد من خمسة ملايين لاجئ ومشرد فلسطيني.
ومن المنظور ذاته، فإن الكثرة الكاثرة من أعضاء الكنسيت (من غير العرب)، وبنسبة قد تصل إلى أزيد من تسعين بالمائة، لا ترتضي العودة إلى خطوط الرابع من حزيران، أو تفكيك المستوطنات (دع عنك الكتل الاستيطانية) الكبرى..وتزداد الصورة تعقيداً، حين تدرك بأن نسبة أكبر من هذه، لا تقبل بإعادة القدس إلى أصحابها الأصليين، وهم يرفضون “تقسيمها”، بل ولا يعتبرونها جزءاً من الاراضي المُحتلة عام 1967، يتعين الجلاء عنها، عملاً بمنطوق القرارات والمرجعيات والخطط والخرائط التي تمت صياغتها في سياق مدريد – أوسلو.
في ظني أن الأهم من صعود “هناك مستقبل”، واحتلاله المكانة الثانية في تراتبية القوى الحزبية الإسرائيلية وأوزانها، هو صعود “البيت اليهودي” الذي يمثل “لوبي الاستيطان” في السياسة الإسرائيلية، وبحجم يعادل عشرة بالمائة من إجمالي الأصوات التي أسقطت في صناديق الاقتراع..”هناك مستقبل”، حزب طارئ، يمكن أن يتراجع ويذوي، بل ويندثر، كما هو حال حزب “كاديما” الذي حلّ أولاً في الانتخابات الفائتة، وخرج من التنافس في الانتخابات الأخيرة..أما حزب المستوطنين وأنصارهم، فهو حزب عقائدي مقاتل، من طبيعة وهوية الأحزاب العقائدية الدينية (الحريدية) أو القومية المتطرفة، التي لم تفلح التغييرات التي ضرب إسرائيل والعالم في زحزحتها عن مقاعدها في “الكنيسيتات” المتعاقبة.
والمرجح أن ينجح نتنياهو في تشكيل حكومته الثالثة في غضون الفترة الممنوحة له بموجب نظام الدولة الأساسي (لا دستور لإسرائيل بعد)..وهو بمقدوره أن يشكل حكومة من اليمين واليمين المتطرف، وإن كنا نرجح إقدامه على “تطعيمها” بحزب أو أكثر من جبهة “اليسار” و”الوسط”..لضمان هامش من حرية الحركة، ولدرء الضغوط والانتقادات الدولية لأدائه وحلفائه، ومن أجل تمرير جملة من الاستحقاقات الداخلية من نوع الموازنة والمدارس الدينية وتجنيد المتدينين وغيرها.
منذ أن بدأت بمتابعة الانتخابات الإسرائيلية عن كثب، قبل أزيد من ثلاثة عقود، ولا تكاد تخلو انتخابات واحدة من “مفاجأة” من نوع معين، بعضها من طراز ثقيل حقاً..بيد أن الوجهة العامة لإسرائيل، ظلت على ما هي: الانزياح نحو اليمين والتطرف والتدين..والانتخابات الأخيرة في إسرائيل لم تخرج عن هذه القاعدة، اللهم إلا إذا كان هناك من يقنعنا بأن ليفني وموفاز ولبيد، هم فرسان لليسار والوسط، لا يُشق لهم غبار.
إن أخطر ما يمكن أن ينجم هذه الانتخابات ونتائجها، هو عودة “الوهم” و”الرهان” على ما يمكن لما يسمى تيار “الوسط” في إسرائيل، أن يحدثه من تغيير في المواقف والسياسات الإسرائيلية حيال القضية الفلسطينية، وما يمكن أن يترتب على ذلك من تبديد للوقت والجهد في مطاردة “خيط الدخان”، في الوقت الذي يبدو فيه الشعب الفلسطيني أحوج ما يكون، للاستعداد لمواجهة مرحلة استراتيجية جديدة.
رحم الله محمود درويش إذ قال: “ومن اليمين إلى اليمين إلى الوسط..شاهدت مشنقة فقط..شاهدت مشنقة بحبل واحد .. من أجل مليوني عنق !”
(الدستور)