تزايد ظاهرة بيع راتب التقاعـد ينعش مـزادا علنيـا عبـر «فيسبـوك»
«بسعر مغري.. راتب تقاعد 360 دينارا للبيع بـ 45 الفا.. للجادين فقط الاتصال على الرقم التالي»... اعلان ترويجي ينتشر عبر صفحات «فيسبوك»، ومثله المئات من الإعلانات التي يتداولها مواطنون بغرض بيع راتب تقاعد الضمان الاجتماعي، في عملية غير قانونية.
تطرح مشكلة بيع راتب التقاعد قضية مهمة في المجتمع في ظل تسجيل عشرات الحالات، وتستدعي، بحسب خبراء اجتماع واقتصاد، البحث عن معادلة لحفظ الامن الاجتماعي، والتصدي للمس براتب المتقاعد وذويه بتحصينهم من العوز والحاجة، كون راتب التقاعد مخصص لتوفير معيشة ملائمة للشخص المتقاعد وأفراد أسرته، كدخل دوري يتقاضاه بكرامة وكحق من حقوقه في نهاية كل شهر.
هذا البيع، يراه كثيرون هروبا من واقع معيشي صعب ومتطلباته الكثيرة في ظل تاكل الدخول وارتفاع كلف المعيشة، وهو يعد، في جانب ما، اعلانا صريحا عن عدم قدرة هؤلاء الافراد على مواجهة اعباء الحياة المتزايدة.
طرفا المعادلة، البائع والمشتري، يستفيدان من هذه العلاقة التجارية «غير القانونية»، لكن خبراء اقتصاديون واجتماعيون يرون ان ارتفاع حالات بيع راتب التقاعد بطرق مختلفة، يطرح مشكلة مهمة ضحاياها اسر تفقد بالمحصلة وتحت ضغط الحاجة وغياب الوعي القانوني رواتبها التقاعدية الشهرية، ما يفتح على وقوع اضرار اجتماعية ونفسية ومعيشية وامنية واسعة.
«من يشتري راتبيّ؟»
يقول مصدر مطلع في مؤسسة الضمان الاجتماعي لـ «الدستور» ان «اغلب الراغبين ببيع رواتبهم هم من أصحاب التقاعد المبكر، وهم دون خط الفقر، وقد تقل احيانا عن راتب المعونة الوطنية»، حيث يبرر هؤلاء اقدامهم على بيع «التقاعد» غير القانوني بانهم يحرمون، وفق القوانين السارية، من ممارسة عمل آخر بسبب تلقيهم راتب التقاعد، ما يحول دون تحسين أوضاعهم.
الموظف السابق في القطاع الخاص نادر الجمل بحث قبل نحو سنتين عمن يشتري راتبه التقاعدي، لانه، على حد قوله، لم يجد ثمن علاج لابنه المصاب بالتوحد، وهو لا يملك تأمينا صحيا.
«الغاية تبرر الوسيلة .. لم اجد من يعطيني فلوس .. ابني بحاجة شهريا الى علاج بـ 500 دينار، وراتبي التقاعدي 300 دينار..فكيف هي المعادلة .. لا افهم.. الضمان يقف بلا مشاعر إنسانية حيال المتقاعدين وخاصة في مجال التأمين الصحي .. فمن يشتري راتبي؟»، يقول الجمل، في حديثه لـ «الدستور».
الجمل، الاب لثلاثة أبناء، يقول انه رغم أهمية وجود راتب تقاعدي يحميه وعائلته في المستقبل إلا أنه كان بحاجة لبيعه، ولم يجد أمامه سوى هذه الطريقة.
واضاف «الأمور الحياتية الأخرى فرضت علي بيع راتبي لاواجه التزاماتي اليومية الاخرى»، لافتا الى انه لم يجد عملا جديدا منذ تقاعده من عمله في مجال الامن والحماية.
البحث عن بدائل لحفظ «الراتب»
«الهدف من الراتب التقاعدي هو حماية الإنسان المتقاعد وذويه من الفقر والحاجة.. وطالما هذا هدف وشعار الضمان، لماذا لا ينظر لهذا المبدأ في بعض الحالات الاستثنائية»، حسب المصدر.
يعزي المصدر ظاهرة بيع الرواتب الى «ارتفاع الكلف المعيشية، وازدياد الاعباء، وتدني الرواتب، في ظل غياب العدالة الاجتماعية والاشتراطات التعجزية للبنوك لمنح القروض».
لكن الخبير الاقتصادي حسام عايش يرى، في حديثه لـ «الدستور» ان توجه متقاعدي الضمان لبيع رواتبهم التقاعدية، مرتبط بعدم وجود بدائل اخرى للدخل سوى الراتب التقاعدي بحيث يلجا البعض الى تاجيره او تضمينه لاخرين لاكثر من سنة مقابل قرض يقل عن قيمة هذه الرواتب.
ويعتبر عايش، في حديث لـ»الدستور» ان هذا التوجه يعبر عن جملة من الامور في مقدمتها ان اصحاب هذه الرواتب لا يستطيعون الحصول على قروض من البنوك او من مؤسسات الاقراض؛ لانها ذات قيمة منخفضة، ما يعني، على حد تعبيره، ان هذه الرواتب لا تسمح لاصحابها بالحصول على القرض المشروط بجملة من المعايير، التي لا تنطبق على اصحاب هذه الرواتب.او ان يكون لديهم التزامات اضافية لا تسمح للبنوك بتقديم هذه القروض.
ويعلل عايش حاجة هؤلاء الافراد الى هذه الاموال من اجل اقامة مشروع خاص او للانفاق على احتياجات طارئة لديهم، تتطلب منهم قيمة نقدية اكبر من دخلهم، الامر الذي يدفعهم الى مثل هذا الاجراء.
ويخلص عايش الى مثل هذه الاجراءات تدل على ان الاوضاع «ليست على ما يرام بالنسبة لهؤلاء المتقاعدين»، وزاد «هؤلاء كعينة تمثل فئة طبقات محدودة الدخل او الطبقات التي تنطبق عليها مواصفات الفقر.. وهذه الفئات تعاني من مشكلة تدبير امر تمويل متطلباتها، وهي مستعدة ان تذهب بعيدا جدا في التخلي عن مصادر دخلها المختلفة، مقابل الحصول على مال في الوقت الحاضر خوفا من تراجع قيمته الحقيقية بفعل التضخم وارتفاع الاسعار مستقبلا».
الرغبة بقرض سكني
الخبير الاقتصادي مفلح عقل يرى ان بيع رواتب تقاعد الضمان «تعبير صارخ» عن الفقر والحاجة، مؤكدا ان ظاهرة بيع بعض المتقاعدين لرواتبهم تحت ضغط الحاجة الآنية، لسنوات قادمة «فكرة بشعة».
ويقول ان راتب التقاعد يجب ان يكون المورد الأساسي للمتقاعدين للعيش بكرامة، طالما بقي المتقاعد حيّا.
ويعتقد عقل، في حديثه لـ «الدستور» ان ظاهرة بيع الراتب لا تختلف في «بشاعتها وعدوانها» على المحتاجين عما حدث في حال البورصات العالمية، ولما حدث في البتراء من ظاهرة «التعزيم».
«بدي اشتري بيت بدل الايجار.. الضمان يعطيني قرض بدون فائدة؟ طبعا لا .. شو بدو يكفي تقاعد 120 دينارا؟ مصروف ولا أكل ولا فواتير؟»، بهذه الكلمات يلخص أحمد العابد حاجته لبيع راتبه التقاعدي.
يقول، لـ»الدستور»: «قضيت عمري على مدى 30 عاما بوظيفة محاسب في احدى الدوائر الحكومية، لكني بعد ان استنفذت كافة الطرق والقنوات لشراء بيت صغير، لم يبق امامي الا ان ابيع راتبي».
ما اضطر العابد لبيع الراتب مقابل 25 الف دينار ميزة ان المبلغ يدفع له دفعة واحدة، لافتا الى الى أنه وقع اتفاقا لدى محام، قريب له، ليحصل المشتري على راتبه عبر بطاقة «فيزا كارد».
ولفت الى أن «العديد من أصدقائه يقبلون على هذه العملية، الأمر الذي شجعه للقيام بها والإعلان عن رغبته في بيع راتبه».
«ايش بدها تكفي 120 دينارا .. قسط جامعي لابني، ولا ايجار البيت، وغير فواتير الكهرباء.. نعم، بعته بلا ادنى تفكير، انا في مأزق كبير .. فأين حماية الطبقة الوسطى؟» يقول العابد.
«الضمان»: بيع الراتب غير قانوني
الناطق الإعلامي باسم مؤسسة الضمان الاجتماعي موسى الصبيحي يشير الى إنه على علم بظاهرة بيع الرواتب «كون هواتف المؤسسة تتلقى استفسارات من قبل متقاعدين بهذا الشأن».
وحذر الصبيحي، في حديثه لـ «الدستور» من ان بيع الرواتب «إجراء غير قانوني، يحدث خارج المؤسسة فقط»، مؤكدا أن دور المؤسسة ينحصر بتحويل الراتب الى الشخص الذي يستحقه، وإيصاله إلى حسابه في البنك، وعدا ذلك، ليس للمؤسسة علاقة بأي اتفاقيات بين طرفي عملية البيع.
وبين أن راتب الضمان جاء حماية للأفراد وأسرهم، ولا بد من المحافظة عليه، معلقا «قليل دائم خير من كثير منقطع».
وتغطي مظلة الضمان الاجتماعي اليوم ما يزيد على (840) ألف مشترك فعّال، وأكثر من (120) ألف شخص يتقاضون رواتب تقاعدية من الضمان، وفقا للمؤسسة.
فيما يعتبر عقل ان مشتري راتب التقاعد «مراب بلا شك لقيامه باستغلال حاجة متقاعد لمبلغ آني، فيعرض علية شراء راتبه التقاعدي لسنوات قادمة، مقابل المبلغ الذي يحتاجه»، لافتا الى ان المشتري يوثق حقه، ويطلب تحويل الراتب لصالحه، بالتزامن مع موافقة المتقاعد على هذه الطلبات»، وذلك تحت الحاجة الملحة، ليكتشف بعدها انقطاع مورد رزقه الوحيد.
واوضح ان الاستيلاء على راتب المتقاعد، الذي غالبا ما ينفق ما اقترضه على حاجة طارئة يصبح بعدها بلا دخل «عمل غير قانوني، واستغلال بشع جدا».
«تقوم فكرة بيع راتب التقاعد البشعة على مفهوم القيمة الحالية لدفعات منتظمة في العادة يكون سعر الخصم الذي يستعمل لإيجاد القيمة الحالية نفس سعر الفائدة السائد في السوق، لكن بالتأكيد لا يكتفي المشتري بهذا، بل يرفع سعر الخصم إلى مستوى فاحش، وهنا يكمن الاستغلال الأبشع»، وفقا لعقل.
وينصح عقل الجميع بتوعية الأقارب والأصدقاء بخطورة مثل هذا الإجراء، ودفع كل من قام ببيع راتبه الى ان يمتنع عن سداد من باعه، إلا ضمن ما يسمح به القانون، معللا ما سبق بان هذا البيع يكمن وراءه «ربا فاحشا»، وان القانون لايبيح هذا، كما أن القانون يحمي ثلثي الراتب من الحجز ليترك لصاحب الراتب ما يسد رمقه.
مغامرة غير قانونية
القانوني كمال المشرقي يؤكد ان بيع راتب التقاعد «إجراء غير قانوني، وينطوي على مغامرة، بين البائع والمشتري». متسائلا:كيف يتم بيع راتب لمدة معينة أو مدى الحياة مقابل مبلغ معين من المال يتفق عليه الطرفان، ولا أحد يعرف عمره؟ دون التفات لأي اتفاق تمّ بين المتقاعد والشخص المشتري.
الجمل يجيب على سؤال القانوني، بالقول: «ذهبنا إلى مكتب محاماة، واتفقت مع المشتري على التنازل عن الراتب مقابل 40 الفا، بحيث يضمن الاخير ان يوضع في حسابه بالبنك كل شهر 300 دينار، وهو راتب تقاعدي».
ويؤكد الجمل الى ان عملية التنازل حدثت بوجود شهود من العائلة، بحيث يتم ضمان حق المشتري بالراتب في حال الوفاة، مشيرا الى ان المحامي وثق باوراق رسمية عملية التنازل عن الراتب، شريطة استلامي مبلغ الـ 40 الف نقدا.
لكن الجمل، رغم تصحيح مسارات حياته بمبلغ الـ 40الفا، وبعد مضي سنتين على عملية التنازل، لا يجد نفسه احسن حالا من قبل، وما زال يعاني من «العسر» المالي، وان علاجه لابنه نكبة، ما بعدها نكبة، على حد تعبيره.
الى ذلك، يدعو عايش الجهات الرسمة لان تتدخل مباشرة، لكي توقف مثل هذه الامر حماية لاصحاب الرواتب التقاعدية ومنعا لتفشي هذه الظاهرة، التي يتحول فيها صاحب الراتب سؤاء كان متقاعدا الان او موظفا في وقت سابق برهن راتبه لسنوات لجهات ليست محكومة بالنظام والقانون الذي يسمح بوضع حد لاي تجاوزات لها.
واكد ان مؤسسة الضمان الاجتماعي «مطلوب منها ومن الجهات الرقابية والامنية ان تراقب وتتابع مثل هذه العملية وان تضع حدا لها».
مزاد علني ينتعش عبر «فيسبوك»
قصة بيع راتب التقاعد لم تتوقف على اتفاقات (المشتري والبائع) فيما بينهما، بل تعدتها لأكثر من ذلك، حيث فتحت القصة امام وسطاء (خدمات)، واشخاص عاديين يبحثون عن ربح سريع، عملا نشيطا ومربحا، يتحقق بجذب اعلى سعر لصالح البائع.
«بسبب الأوضاع الاقتصادية، التي لم تتبدل منذ سنوات .. راتب تقاعد للبيع مدى الحياة.. العرض لأعلى سعر.. والبادي يربح»...على مدى ايام، تجدد هذا الاعلان في احدى صفحات (البيع والشراء) المروجة عبر موقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك»، والذي تقف خلفه، كما تبين لمعد التحقيق، «شلل» ووسطاء يحققون من البائع والمشتري،على حد سواء، مبالغ مالية كبيرة، شريطة الحصول على اعلى عرض بيع للراتب التقاعدي.
الوسيط جواد العملة، الذي يقف وراء هذا الاعلان، يقول لـ «الدستور»: «نعمل من اجل الربح وتحقيق اعلى سعر بيع للذي يريد بيع راتبه .. نساعده على تحقيق سعر محترم .. ونستفيد ايضا .. تجارة وسوق .. ويفتح الله».
«صرنا معروفين .. والناس بتوصل ناس .. وبيع بوصل بيع .. الكل بحب يتعامل معنا.. ما بناخذ كثير اجور وساطة بس 200 (دينار) من البائع .. والمشتري كذلك .. الوضع صعب .. وبدنا نعيش»، وفقا للعملة.
العملة، وغيره من الوسطاء، تخرجوا من الجامعة منذ 5 سنوات، ولم يجد عملا أكثر ربحا غير العمل بهذه الوساطة، على حد قوله، لافتا الى ان الناس تلجأ اليه لبيع راتبها، وتفضل التعامل معه وزملاءه، لتحقيق اكبر فائدة مالية.
ويشير العملة الى ان أكثر من 3 الاف مواطن، باعوا رواتبهم التقاعدية، عن طريقه، خلال أقل من 4 سنوات، بينهم أكثر من الف متقاعد حكومي.
وحول طرق بيع الراتب، بين العملة ان الطرق مختلفة وكثيرة «لكن طريقة التنازل بالوكالة عند محامي، الاكثر رواجا وشيوعا، ويليها بطاقة الصراف او تحويل تقاعد البائع للمشتري عن طريق البنوك».
ما طرح سابقا، يجده المشرقي «استغلالا» بحيث يجب حماية راتب الضمان ومنع بيعه بأي شكل كان؛ لأن القصد من الراتب تمتع الفرد بسبل العيش الكريم.
ويلفت إلى ان التشريعات والاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان نصت صراحة على هذه الحماية وتلزم الدولة باحترامه وحمايته.
في الاطار الاجتماعي، يرى الاقتصادي عايش ان بروز هذه الظواهر الجديدة غير الشرعية «يعني ان الاوضاع الحياتية والمعيشية اصبحت من الخطورة بمكان حيث ان المواطن لم يعد قادرا على تدوير دخله لمواجهة الاعباء المتزايدة».
وهو يدعو الى تمكين الناس وخاصة ابناء الطبقة الفقيرة والمتوسطة من تحسين دخولهم وتوفير فرص العمل المختلفة التي تسمح بتحسين ظروفهم الحياتية.الدستور