د. ابو غزلة يكتب: نظرة تحليلية لتقرير البنك الدولي حول التعليم في الأردن
جو 24 :
كتب مدير إدارة التخطيط والبحث التربوي سابقا - د. محمد أبوغزلة -
تحمل الأردن منذ التاريخ انعكاسات الأزمات السياسية التي حدثت في معظم الأقطار العربية ونذر نفسه ليكون الملاذ الآمن لهم، وما الأزمة السورية الحالية إلا شاهدا على ذلك، وانطلاقا من إيمان القيادة السياسية ودورها الإنساني والقومي لتوفير الحياة الكريمة لكل من ينشد الأرض الأردنية, ويقوم الأردن بذلك على حساب مقدراته التي يعرفها الداني والقاصي، ونظرا لضخامة الأزمة السورية، فقد كان الأردن يحدوه الأمل في أن تتحمل الدول والمنظمات الدولية وغيرها مسؤولياتها نحو هذه الأزمات لاسيما وإنها أزمة إنسانية عالمية وليست أردنية، إلا أنه ما زال يصارع لوحده تبعات هذه الأزمة وعلى مرآى من الدول التي ضغطت ووعدت بالمساهمة في تحمل أعباء هذه الأزمة، وفي خطاب سمو ولي العهد الأمير الحسين بن عبدالله في مقر الأمم المتحدة فقد شخص بشكل دقيق مدى الحاجة الأردنية للمساعدة في تحمل أعباء هذه الأزمة، وقال"كيف لبلدٍ مثل الأردن أن يوفر ملجأ للملايين من اليائسين والمحتاجين، بينما يدور الجدل في دول أغنى بكثير حول قبول بضعة آلاف منهم؟ وماذا يعني لإنسانيتنا المشتركة أن العالم أنفق ما يقارب 1.7 تريليون دولار على الأسلحة في العام الماضي فقط، ولكنه فشل في توفير أقل من 1.7 مليار دولار استجابة لنداء الأمم المتحدة الإغاثي لدعم اللاجئين السوريين والمجتمعات المستضيفة لهم في دول مثل الأردن؟ وما الذي يعنيه أن تُنفَق التريليونات على الحروب في منطقتنا، بينما القليل ينفق للوصول بها إلى بر الأمان؟ ليس لهذه الأسئلة من إجابات شافية.”
كما أن المحلل للوضع العام في الأردن يرى مقدار العبء الذي يتحمله الأردن على مجالات الحياة كافة، وخاصة ما آل إليه النظام التعليمي الأردني الذي كان مثار فخر واعتزاز في جميع الدول ، ومع قناعتي الأكيدة بضرورة توفير التعليم لكل طالب على الأرض الأردنية ، إلا أنه من الضروري أن نستمر بدورنا الإنساني، لكن يجب أن نغلّب العقل على العاطفة ونتعامل بعلمية مع ذلك ونتصرف في ضوء إمكانياتنا،ونؤمّن الاحتياجات التعليمية لأطفال الأردن وبنوعية عالية حفاظا على السلم الاجتماعي الداخلي وأن يسود الوئام داخل المجتمع نفسه، وتوفير الأمن والاستقرار في المجتمع لتحقيق التنمية والتقدم، ونتعاضد لخدمة المجتمع والوطن.
إن القصور في الرؤية لدى السياسيين في الحكومات السابقة بالتعامل مع الأزمة السورية قد ساهم في هذا التردي الحاصل للنظام التعليمي، لأنه تم تغليب العاطفة السياسية على تفكيرها العقلاني، وعقدت الحكومات الآمال وعاشت على الأحلام والوعود الدولية بتحمل أعباء هذه الأزمة إذا ما فتحت الأردن حددوها لدخول اللاجئين السوريين، فما كان من الحكومة إلا أن فتحت الحدود مرغمة أو عن طيب خاطر، ولكن دون أن تتخذ الخطوات الضرورية لتثبيت الالتزامات المالية الدولية تجاه هذه الأزمة، والتي أثرت على جميع مجالات الحياة، وأدت إلى التراجع في عناصر النظام التعليمي الأردني في السنوات الأخيرة، وهذا ما رصدته التقارير الدولية والوطنية، وخاصة تقرير البنك الدولي الأخير ضمن المشروع الجديد" برنامج إصلاح التعليم في الأردن الذي نحن بصدد تحليله ،فالبرغم من علمية التشخيص للعديد من الجوانب التعليمة في الحقبة الماضية ، والتي كشفت عن التطوير المزعوم للنظام التعليمي، إلا أنه لم يشر إلى الأسباب الحقيقية لما وصل إليه النظام التعليمي، ولم يتطرق التقرير إلى السياسات الاسترضائية والمنافع التي أغدقها البنك على بعض المسؤولين لقبول الأعداد الكبيرة من الطلبة السوريين في المدارس وعلى حساب الفرصة التعليمة للطلبة الأردنيين.
كما لم يتطرق التقرير إلى السياسات الفردية في الحقبة الماضية التي نتهجاها المغدق عليهم والتي حولت الوزارة والمدارس تحديدا إلى حقول من التجارب التربوية للمؤسسات الدولية والمحلية التي حصلت على تمويل من الجهات المانحة، وصرفت المشرفين والمعلمين والمديرين والمعلمين عن ممارسة مهامهم التعليمية، مقابل حفنة من الدنانير يتقاضاها مجموعة من القابعين في مكاتبهم بمركز الوزارة، وأصبحت شغلهم الشاغل، وخاصة منذ اندلاع الأزمة السورية، إضافة إلى أن التقرير لم يتطرق إلى ما تم تخطيطه من قبل بعض المسؤولين بالوزارة في المستوى الإداري الثالث في الوزارة لتوفير أبنية مدرسية وغرف صفية، وتخصيص نسبة 80% من الأموال لتوجيهها للبنية التحتية بدلا من تخصيصها للدعم الفني والسفرات الخارجية واستقدام الخبراء الأجانب من الدول المانحة أو على حساب القروض ،ولكن لضيق الأفق عند صاحب القرار وعدم الوعي لديه بضرورة تقديم بدائل للتعليم في ظل الأزمات المعمول به دوليا ، سهل على المانحين تنفيذ ما يخططون له في تحويل 200 مدرسة إلى فترة مسائية ،وارتفاع نسبها من 10% إلى 16% ، و منح المانحين فرصة للضغط على الدولة لتسجيل الطلبة في المدارس، مما أدى زيادة نسبة الاكتظاظ في الصفوف في المدارس الصباحية، إضافة إلى استئجار العديد من المدارس، وتقليل الفرصة التعليمية للطلبة الأردنيين والسوريين على حد سواء، وتدني أداء المعلم وعدم تمكنه من تغطية المحتوى التعليمي أو التنويع في طرق التدريس، أو منحه الفرصة لمتابعة أداء العدد الكبير من طلبته في الغرفة الصفية، ناهيك عن ارتفاع نسبة العنف المدرسي المتبادل الذي أشار إليه التقرير وركز فيه على أن مصدره من الطلبة الأردنيين، متناسيا الخلفية الأيدلوجية والحالة النفسية التي يعيشها الطالب السوري والذي أدت به إلى التمرد والعدوانية نتيجة ما تعرضت له أسرته من تشريد وما يتعرض له وطنه من تدمير، وانعكس على سلوكه في الغرفة الصفية مع أقرانه أو على بعض الممتلكات المادية في المدرسة.
لا أحد منا ينكر التراجع الحاصل في المنظومة التعليمة وخاصة في السنوات الأخيرة، وإنها تحتاج إلى تكاتف الجهود الوطنية لإنقاذ التعليم في الأردن، وإن ما اتخذ من إجراءات من قبل وزير التربية والتعليم الحالي د. عمر الرزاز خلال هذا العام ينير الطريق ويبشر بأمل قادم لتطوير التعليم وسيكون نقطة البدء في معالجة الكثير مما أتى عليه التقرير، كما أن على الوزارة أن تعدد الخطط الإستراتيجية و الإجرائية لمعالجة بنود التقرير وهي الطريقة العلمية للرد عليه، مما يستدعي من الوزير الاستعانة بخبرات بشرية تربوية قادرة على تقديم العون والمساعدة والمشورة لها بدلا من أن تكون عبئا عليه، وخاصة أنه يواجه الآن حربا ضروس معلن وغير معلن من الحرس القديم بعد أن تكشف انه يسير بسرعة علمية محسوبة لأحداث التغير مقابل سير السلحفاة الذي ظهر من قبل الآخرين عند مناقشة تطوير الثانوية العامة .
إن المحلل للتقرير يجد أن التقرير غلب عليه الطابع السياسي والمالي وشانه شأن كل التقارير والدراسات التي تمول من جهات دولية مقرضة أو مانحة له أهدافها السياسية والاقتصادية، كما أن التقرير يهدف إلى دفع الأردن إلى مزيد من الاقتراض لزيادة الديون عليه والضغط عليه لتمرير أجندات دولية ، ويعرف القائمون والمستفيدون من الخارج والداخل أن النظام التعليمي هو المدخل الأسهل للضغط على الأردن لطلب المزيد من القروض لأنه يدرك أن جميع الأردنيين متلهفون لتطويره لأنه المخرج الوحيد للأردن لإنتاج الموارد البشرية القادرة على تحقيق التنمية المستدامة.
لقد ركز التقرير على تشخيص الواقع التعليمي تشخيصا دقيقا في معظم فقراته وعلى ضرورة توفير تعليم نوعي للطلبة السوريين وفي جميع المراحل بما فيها رياض الأطفال، وتوفير كل مستلزماتهم ،لكنه لم يبن أثر الأزمة على تراجع أداء النظام التعليمي، كما لم يخصص فقرات لتوجيه رسائل للدول كافة لتحمل مسؤوليتها اتجاه هذه الأزمة ، ولم يقدم الأسباب الحقيقية لتراجع أداء النظام التعليمي بوضوح، واعتمد فريق البنك في جمع المعلومات على أدوات ومقابلات أجراه مع بعض العاملين في الوزارة، وتم توجيههم من خلال الأسئلة لأخذ إجابات غير مترابطة بسبب عدم استطاعتهم التعاطي وفهم الأسئلة التي توجه لهم لأنها صيغت باللغة الانجليزية، وبالتالي جاء التقرير بهذا الشكل، كما أن التحليل للتقرير يكشف على أن التوصيات التي تقدم بها تقرير البنك الحالي هي التحديات نفسها التي كلفت الدولة الأردنية مبلغ (500) مليون دينار في مشروع تطوير التعليم نحو اقتصاد المعرفة بمرحلتيه الأولى والثانية، وكأن التقرير يشير إلى أن المبالغ التي صرفت قد ذهبت بلا فائدة، وعليكم الاقتراض من جديد ليصبح المبلغ (700) مليون دينار أردنيا.
كما لم يشر التقرير إلى أن تبعات الأزمة السورية عطلت وأفشلت جميع الخطط التطويرية التي أعدتها الدولة لتطوير التعليم سابقا، كما ان التقرير يعيد سرد توصيات التشخيص والتي تمثلت في أن نتائج تعلم الطلبة المتدنية وصلت إلى مستوى متأزم، ويجب أن يتم بناء نظام تعليمي مرن يعالج تحديات الجودة، وأسهب في الحديث عن رياض الأطفال وتدنى جودته ونسبة الالتحاق به، وأن الأطفال السوريين لم يلتحقوا به متناسيا بان حتى الطلبة الأردنيين لا يجدون مثل هذه الفرصة للالتحاق برياض الأطفال لعدم توفرها ، كما جاءت معظم توصياته منسوخة من خطط الوزارة السابقة كما ذكرنا حول إصلاح "التوجيهي" ، وضرورة توفير حوافز لحث المعلمين على تحسين الأداء، ومواجهة تحديات الغرفة الصفية، كما تطرق التقرير إلى نتائج الاختبارات الدولية وتفوق أداء الطالبات على الطلاب الذكور في القراءة والرياضيات والعلوم، ونتائج دراسة "اقرأ واجما" ،وكذلك حاجة المعلمين للإعداد والتدريب الكافي، وتوفر خطط لصيانة المدارس، ولم يشر التقرير إلا لنجاح وحيد حققته الوزارة وتمثل في نشر نظام إدارة المعلومات التربوية (EMIS)، الذي يتضمن بيانات حول كافة المدارس والطلاب في النظام، ويتطلب تحسينها وتحقيقها توفير مساعدة فنية إضافية وبناء للقدرات، وهذا يؤكد أن التقرير كغيرة من التقارير الدولية يقدم للأردنيين مسوغ للقرض الجديد، ورغم ما ما ورد من ثناء من في تقرير البنك الدولي على تحمل الأردن لتبعات الأزمة ، إلا أنه واقتبس هنا من خطاب سمو الأمير الحسين في الأمم المتحدة عندما قال" لكلام الطيب لا يدعم الموازنة، ولا يبني المدارس، ولا يوفر فرص العمل. كما كان على معدي التقرير أن يجيبوا على التساؤلات التي طرحها سمو الأمير في خطابة أمام الأمم المتحدة "ما الذي يقوله المجتمع الدولي لشعبنا الفتي ؟هل نخبرهم أن القيم التي تحكم نهج حياتنا لا قيمة لها؟ هل نقول لهم أن البراغماتية تطغى على المبادئ؟ أو أن اللامبالاة أقوى من التعاطف ؟أم نقول لهم أن علينا أن نتجنب المخاطرة وأن ندير ظهرنا للمحتاجين، لأن أحدا لن يسند ظهرنا ؟" وأن يستثمرها في مخاطبة العالم وليس القائمين على النظام التربوي في الأردن.
واخير وبما أن قرض البنك شر لا بد منه في ضوء انحسار كل موارد الدعم العربي، والدولي، فعلى الحكومة ممثلة بمؤسساتها التنفيذية أن تدير هذه القرض وتستثمر في توفير البنية التحتية للمراحل كافة بما فيها رياض الأطفال ، وتحسين تمكين وتدريب المعلم في المجال الأكاديمي التخصصي، والمسلكي، وأن تخفف من توجيه المبالغ للدعم الفني الموجه لاستقدام خبراء من الخارج حتى لا نعود لنفس الدائرة ونبقى نندب الحظ،كما على الدولة أن تعد الخطط الاستراتيجية طويلة الأمد الخطط الإجرائية للتعامل مع مثل هذه الأزمات وتتخذ في سبيل ذلك الخطوات الضرورية لإقناع المجتمع الأردني وإعادة الثقة بينهما، وتشجيعهم على المشاركة في اتخاذ القرار بعد أن تخلت الدول والمنظمات الدولية عن مسؤولياتها اتجاه الأردن.