أطفال محرومون من التعليم...غرفة تذكّر بزمن "الكتاتيب"
كتب - ابراهيم عزازمة
من عرائش كانت مسنودة بأعمدة قطعت من شجر الطرفاء، والآن غرفة سقفها من الكرتون والخشب.. يتعلم اطفال الباكستانيين في مناطق غور الاردن ما تيسر من العربية وحفظ القرآن.. لاجل التعلم فقط.
من قرى وأرياف على أطراف الباكستان جاؤوا، بأرديتهم القبلية التقليدية وبأسرهم وأطفالهم حطت رحالهم في غور الأردن. لا يعرفون مهنة تعينهم على مصاريف الحياة سوى مهنة الزراعة. ولأن تحدي اللغة من التحديات الأزلية، لم يستطع الأطفال الباكستانيون الالتحاق بالمدارس التي تعلم باللغة العربية، مع أنهم يعرفون بعضا من مفرداتها العامية.
التحدي أفضى بهم إلى التفكير بإنشاء مدرسة بإمكانات بسيطة، وتقشف ينبئ بما يعانونه من شظف العيش، وتذكر بزمن " الكتاتيب".
بداية كانوا يدرسون في عريش تقع في أرض زراعية شمال بلدة الكرامة، ملقى على أعمدتها من الشجر بعض أردية الخيش البالية، وثمة أطفال تحتها ينتظرون بدء الحصة الأولى. سرعان ما توقفت، وسُحبت أعمدتها التي تسندها، وصار مكانها بوّاراً، ولم يبق منها سوى طالبين ومعلمهم، بعدما كانوا أربعة وثلاثين طالباً، واظبوا على الدوام فيها ستة أعوام، وخرجوا بلا شهادات.
عبدالله ابن الثانية عشر، كان من طلاب هذه المدرسة، تعلم فيها ست سنوات، إلى أن تركته ولم يتركها، بسبب اندثارها وفنائها، يقول عبدالله "درست في هذه المدرسة ست سنوات، تعلمت القراءة والكتابة باللغة العربية واللغة السندية، والحساب، وتركتها عندما هُدمت "العريش"، وانتقلت إلى مكان آخر، ثم ذهبت للعمل مع أهلي في الزراعة" وهذا ما بدا على ملابسه، فكان بكامل أناقة المزارع المكافح!!..
وبتبرع سخي من أحد المزارعين الباكستانيين، جرى بناء غرفة على أطراف مزرعته لتكون هي المدرسة الجديدة، قوامها غرفة واحدة، سقفها من الكرتون والخشب، نوافذها عارية، وخلفها دورة المياه، وأمامها خزان مياه للشرب مشترك مع العمال الوافدين القاطنين هناك، يستظل فيها خمسون طالباً، اثنان وثلاثون من الذكور، وثماني عشر من الإناث، تتراوح أعمارهم ما بين السادسة والثانية عشر، يفترشون الأرض على حصير بال، وتتوزع أحذيتهم على بوابتها وكأنها دار عبادة، يجللها من فيها بما فيهم من براءةٍ وطهر.
المدرسة الجديدة، قوامها معلم واحد، يعلم تلاميذه القراءة والكتابة باللغة السندية، وتتوزع بين يدي التلاميذ كتب مدرسية مهترئة متنوعة، مناهج باكستانية وأردنية، يتعلمون العربية من خلال القرآن الكريم، الذي لا تتجاوز عدد النسخ معهم أصابع اليد، يتقدمهم المعلم ويجلس على كرسيه البلاستيكي، يستمع لقراءاتهم ويستمعون بانصات لتلاوته، فهو من نذر نفسه لتعليم هؤلاء بأجر زهيد، وأسمى أمانيهم مجموعة من الكتب والكراسات التالفة ليتعلموا منها، فالفقر والبراءة هما السمتان الأبرز لهؤلاء الأطفال، يبدأون دوامهم من الصباح الباكر وحتى الواحدة ظهراً، يتخللها استراحة بشراء بسكوتة بخمسة قروش لمن يمتلكها.
باسم (أحد طلبة المدرسة) 13 سنة، عاصر المدرستين، ويتقن العربية نطقاً وكتابة، بعد مواظبته على الدوام منذ سبع سنوات، لكنها لن تُحسب له، كون المدرسة غير معترف بها ولا تتبع لأي جهة، يتمنى باسل الالتحاق بمدرسة تليق بشغفه وحبه للتعلم، يقول" اتمنى الانتقال الى مدرسة فيها مقررات أكثر، وفيها معلمون أتعلم منهم" ولا تتوقف أحلامه عند هذا بل يوافي سردها بما يعكس خوفه من المستقبل الذي يتربص به، "أطمح أن أحصل على شهادة الثانوية العامة، والذهاب للدراسة في الباكستان".
نورا وسناء،6 سنوات، لا يعرفن من العربية الا القليل، كان الخجل يتقاطر من عيونهن، فهما طالبتان مستجدتان في السنة الأولى من الشقاء، ليتعلمن سنوات ثم العودة للعمل مع الأهل، كقدرٍ كُتب عليهن لا مفر ولا مآل منه إلا إليه.
أسمى أمنيات سناء، ذات الجدائل، حقيبة مملؤة بالكتب والكراسات، ووسيلة توصلها إلى مدرستها، تتحدث عن أمنياتها بكل براءة، " أتمنى أن أكون في مدرسة، ولي معلمات وصديقات"، لكن يأبى القدر إلا أن يحرمها حتى من "نجمة"، تطبعها معلمتها على وجنتها.
محمد صديق سندي، مغترب باكستاني، لديه ثلاثة من الأبناء ومثلهم من الإناث، لم يبعث أحداً منهم إلى المدرسة، ويرد أسباب عدم التحاقهم بالمدارس الحكومية أو الخاصة إلى الواقع المعيشي الذي يعيشون فيه، فهم "مزارعون في الصيف والشتاء"، يزرعون في الأغوار في فصل الشتاء، ويرحلون في الصيف الى مناطق اربد والمفرق للعمل في الزراعة هناك.
ما يحدث لهؤلاء وغيرهم من الأطفال الذين يمكثون في بيوتهم، مخالفة لما ورد في المواثيق والعهود والاعلانات الخاصة بحقوق الأنسان، فقد نصت المادة 26 من الإعلان العالمي لحقوق الأنسان على أنه "لكل شخص الحق في التعلم، ويجب أن يكون التعليم في مراحله الأولى والأساسية على الأقل بالمجان، وأن يكون التعليم الأولي إلزامياً وينبغي أن يعمم التعليم الفني والمهني، وأن ييسر القبول للتعليم العالي على قدم المساواة التامة للجميع وعلى أساس الكفاءة".
يرى سفير النوايا الحسنة لحقوق الأنسان الحقوقي كامل المشرقي، أن الحق في التعليم "لا يمكن تصنيفه على أنه حقاً اقتصادياً أو اجتماعيا أو ثقافيا؛ بل يمكن تصنيفه على أساس إنه جزء مهم لا يمكن تجزئته لارتباطه بجميع أصناف حقوق الإنسان الأخرى، لأنه الأساس في إعمال جميع هذه الحقوق." داعياً إلى ضرورة أن يكون الحق في التعليم "متاح لجميع الفئات والطبقات من حيث النوعية والجودة وتلبية الاحتياجات، وكما يجب ان يعمل الحق في التعليم الى إعمال حقوق الانسان بشكل عام وحقوق الطفل بشكل خاص".
كما نصت الفقرة الأولى من المادة 13 للعهد الدولي الخاص بالحقوق الأقتصادية والأجتماعية والثقافية على "جعل التعليم الإبتدائي إلزامياً وإتاحته مجاناً للجميع"..
ويشكل مفهوم الإلزامية في التعليم بحسب المشرقي "عنصرا مهما للحق في التعليم، فهو قرار ليس خيارياً وانما قائم على الإجبار في تنفيذ مضمون هذا الحق، ويشدد على الغاء جميع أشكال التمييز القائم بسبب الجنس او اللون او العرق او الثروة أو الرأي أو أي ضرب من ضروب التمييز"
أما مفهوم المجانية في التعليم، فهو بحسب المشرقي، يضمن أن تقوم الدول بتوفير التعليم والتعليم المجاني بشكل عام بصورة مجانية، وفي تعليق اللجنة المعنية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية أشارت الى ان فرض رسوم من جانب الحكومة أو السلطات يشكل عاملا مثبطا وحائلا دون التمتع بالحق في التعليم، وقد يعرقل الحصول على هذا الحق، كما وله انتكاسه على الحق في التعليم."
ودعا المشرقي الدولة إلى العمل على إزالة وإلغاء الرسوم المفروضة على التعليم وخصوصاً التعليم الإبتدائي وهذا يتجسد بتوفير جميع المتطلبات الرئيسية ويحتاج إلى خطة وطنية والإهتمام بتيسير الأمور على الآباء بإعفائهم من الضرائب."
وبالنظر إلى تعليمات وأسس قبول الطلبة غير الأردنيين في مدارس وزارة التربية والتعليم للعام الدراسي 2012/2013، فقد أجازت قبول الطلبة غير الأردنيين، بشرط توفر "إذن اقامة"، وتنص اسس القبول في الصف الأول للعام الدراسي 2012/2013، على أن " يتم تسجيل الأطفال غير الأردنيين (إذا توفر لديهم إذن إقامة) بموجب ما يلي: 1- شهادة ولادة صادرة عن الدائرة المختصة في بلادهم أو صورة مصدقة عنها. 2- بطاقة التطعيم. 3- وثيقة الكشف الطبي من المركز الصحي."
كما وتستوفي المدرسة التي ينتظم فيها الطلبة غير الأردنيين رسوماً مقدارها 20 ديناراً لكل فصل من طلبة المرحلة الأساسية، بحسب ما ورد في كتاب وزير التربية والتعليم رقم 68/1/22903 تاريخ 21/6/2012، والمتضمن تعليمات قبول الطلبة غير الأردنيين وقبول الطلبة الأردنيين للعام الدراسي 2012/2013.
يتوزع أغلب الطلبة الباكستان ممن استوفوا شروط القبول في مدارس لوائيّ الشونة الجنوبية ودير علا، كون هذه المناطق زراعية، ويقطنونها أهاليهم في فصل الشتاء، إذ بلغ عدد العام الماضي 260 طالباً في اللوائين.
الخبير التربوي الدكتور عبدالناصر الراعي، يدعو إلى إيجاد تشريعات تربوية واضحة لقبول مثل هؤلاء الأطفال، وتذليل العقبات أمامهم، فهم " قطعوا نصف الطريق نحو العلم، فهم راغبون بالتعلم، وعلى الكل أن يتحمل المسؤولية تجاههم"، داعياً إلى دمج هؤلاء الأطفال مع أمثالهم من طلبة وزارة التربية والتعليم، وحتماً سيكونون الأكثر تفوقاً؛ لوجود الرغبة لديهم بالانتظام في الدراسة.
و بدأت هجرة العديد من العائلات الباكستانية إلى الأردن في بداية السبعينات من القرن الماضي، وتزايدت أعدادهم في الأعوام اللاحقة، ولجأوا إلى مناطق الأغوار ليعملوا في الزراعة.
السفارة الباكستانية في عمان وعلى لسان مستشار السفيرة، محمد رمان، قال :" قمنا بزيارة لهذه المدرسة في العام الماضي، ولا يوجد ما يمنع هؤلاء من التوجه لمدارس الحكومة الأردنية".
وأمام هذا الواقع المأساوي للمدرسة، قال رمان " لا يوجد ميزانية لدى السفارة لدعم هؤلاء، ومع هذا خاطبنا المعلم وطلبنا منه كشفا بأسماء الطلاب لدراسة اوضاعهم لهم، لكن لم يردنا أي شيء"، ويرد رمان أسباب عدم توجه هؤلاء الى المدارس الحكومية هو "عدم تصويب أوضاعهم في الإقامة، وهذه مسؤولية وزارتي الداخلية والعمل وليست السفارة".
ويضيف :" السفارة على استعداد لدعم أي مدرسة بشرط أن تكون رسمية ومرخصة لأبناء الجالية الباكستانية الذين يقدر عددهم بحوالي 12000 فرد".
ما بين رحلتي الصيف والشتاء تتبخر أحلام هؤلاء الأطفال بالتعليم والتعلم، فالفقر هو العنوان الأبرز لعدم التحاق هؤلاء بمدارس تليق بطفولتهم، وهو الذي يلدغهم مرات ومرات سواء أكان لديهم "أذن إقامة" أو لا؛ فالمدارس بعيدة والطلبة بحاجة لمواصلات ووسائل تقلهم، وهذا ما يفتقده هؤلاء، الذين ولدوا على واقع مرير لا مآل لهم منه إلا بالعلم والمعرفة، ولا يمتلكون خيارهم بأيديهم، تتبخر أحلامهم بوجود مدرسة تؤويهم، و فيها "سبورة"، يتدرجون فيها وصولاً إلى حياة هانئة ومستقبل يليق بالإنسان كجنس بشري.