الفيلم الأرجنتيني "اللاقط الهوائي"
جو 24 :
يعود المخرج الارجنتيني" استيبان سابير" في فيلمه "اللاقط الهوائي" (الانتين)، الذي يفتح على بحركة سريعة على لقطات لحروف اّلة كاتبة وأصابع يدين تطبعان، الى زمن السينما الصامتة، زمن سينما الصورة الخالصة، ليقدم حكاية عن مدينة فقد الناس أصواتهم فيها، والصوت الوحيد الذي يسمع فيها هو الصوت الذي تبثه محطة التلفزيون الوحيدة، وهو صوت امرأة يعمل على تخدير الناس وتنويمهم. وهو اختيار ذكي ليعبر به عن فكرة الفيلم الرئيسية، المتمثلة بالهيمنة على عقل الناس واستلاب الوعي، وتغييبهم عن واقعهم، والتي يعبّر عنها من خلال شخصية صاحب المحطة التلفزيونية "مستر تي في"(السيد تلفزيون)، وهو تاجر جشع، يريد تمرير وتسويق البضاعة التي ينتجها بأقصى ما يستطيع، ولن يقدر على ذلك الا في التحالف ما بين رأس المال، وسلطة الإعلام.
والد الطفلة "اّنا" الذي يعمل فنيا لتصليح البث التلفزيوني، ومطلقته الممرضة، وابنتهما الطفلة" اّنا" يقررون الدخول بمغامرة إعادة الاصوات للمدينة، بمساعدة الجد، خاصة بعد ان فوجئت" اّنا" بوصول طرد بريدي لها عن طريق الخطأ، مرسل الى الطفل الأعمى "توماس" والذي هو ابن السيدة "فويس" التي تعمل بالمحطة لتخدير الجمهور، بعد ان عقدت صفقة مع "مستر تي في" بحيث يعيد البصر الى ابنها" توماس"، والذي هو جار " اّنا"، فتقرر أن يعيد له الطرد البريدي، وحينها تكتشف انه ما يزال يحتفظ بصوته.
تبدأ مغامرة الوصول الى "اللاقط الهوائي" المهجور والقديم، الموجود في الجبال، حيث ينظمّ " توماس" إليهم، وذلك حتى ينطلق صوته من محطة البث ويوقظ المدينة، في الوقت الذي تبث فيه محطة" مستر تي في" مباراة للملاكمة، وعندما يعرف ان هناك من يحاول استخدام اللاقط الهوائي، يقوم بإرسال سائقه، ومنفذ العمليات القذرة لديه الملقب " الرجل الجرذ"، واثناء العراك مع والد "اّنا"، تخرج رصاصة تصيب الفتاة التي تشرف على انتاج الأغذية المخدرة، واثناء موتها تتحول الى امرأة عجوز، ويتوقف خط انتاج الاغذية.
وينطلق صوت "توماس" من المحطة، وتتعالي الاصوات، فقد عادت للمدينة اصواتها.
فيلم" اللاقط الهوائي" مغامرة فنية مدهشة، باستخدام اسلوب يعود الي بدايات السينما الصامتة، حيث الصورة تحكي، مع الاعتماد على الترجمة بالحد الادنى، مع توظيف للموسيقى التي تضع المتلقي في اجواء السينما الصامتة، وببراعة يستطيع المخرج "ستيبان" ان يقدم فيلما فيه مرجعيات الفيلم الكلاسيكي الصامت، مع التقنيات المعاصرة،ويقدم حكايته التي تبدو بسيطة من حيث مضمون الصراع بين الخير والشر، لكنها في العمق رثاء للانسان المعاصر، الذي لم يعد ممتلكا لأدوات خصوصيته، واصبح جزءا من اللعبة، حيث وسائل الاتصال الحديثة التي اخضعتهم لإرادتها، واصبحوا مجرد دمى بايدي من يسيطر على هذه التقنيات.
ويقدم الفيلم ذلك التواطؤ ما بين رأس المال الجشع، وما بين وسائل الاعلام، حيث كل منهما يغذي الاخر للهيمنة بالقوة على الانسان، وتغييب الصوت، وسرقة الكلمة، فإن "اللاقط الهوائي" هو رمز للفاشية وتحالفها مع الاحتكارات الرأسمالية، وهناك الكثير من الرموز في الفيلم، لكنها ليست لغايات خارج إطار فكرة الفيلم، انما ضمن الدلالات التي تعبّر عن توحش هيمنة الاعلام ورأس المال، في فيلم يمثل ابداعا بصريا مدهشا، يبدو كأنه نوع من التحدي للسائد من السينما التي تطورت واستفادت من كل التقنيات والفنون المعاصرة، فيعيدنا المخرج بفيلم " اللاقط الهوائي"، الى السينما الخالصة.