بانوراما الحراك.. بين انتخابات مجلس الدوائر الوهميّة وبرلمان القوائم العبثيّة
كتب تامر خرمه
كعادتها، وبعيداً عن أي اعتبار للإرادة الشعبيّة، بدأت السلطة بتوزيع أوراق اللعبة السياسيّة على أعضاء المجلس النيابي السابع عشر، في مشهد ينتقل من دورة برلمانيّة إلى أخرى عبر محاولة بائسة لتسويق الوهم، سواء فيما يتعلق بالدوائر أو بالكتل النيابيّة الوهميّة.
ورغم تجدّد المطالبة بإسقاط البرلمان، والتي تعبّر عن الرفض الشعبي لهذا التماهي الغريب بين السلطتين التشريعيّة والتنفيذيّة، إلا أن المشهد الآن أكثر تعقيداً مما كان عليه الأمر إبّان تشكيل المجلس النيابي السادس عشر في العام 2010.
المطالبة بإسقاط البرلمان خلال فعاليّات الجمعة كانت أوّل رسالة وجّهها نشطاء الحراك لصنّاع القرار، رغم أن هذا المطلب لم يعد يشكّل الأولويّة لدى الحراك، الذي يمكن القول أنّه فقد خياراته المتعلّقة بالإصلاحات السياسيّة التجميليّة، ولم يعد أمامه إلاّ المطالبة بالتغيير الجذري الشامل، فيما كانت المطالبة بحلّ البرلمان وتعديل قانون الانتخاب تعبّر عن أقصى التطلّعات السياسيّة التي طرحتها النخب الحزبيّة بعد تشكيل برلمان الدوائر الوهميّة.
البرلمان المنحلّ لم يجابه في بداية تشكيله بأية معارضة سياسيّة قادرة على التأثير باستثناء حزبيّ جبهة العمل الإسلامي والوحدة الشعبيّة، اللذين شكّلا الهيئة الوطنيّة للإصلاح تتويجاً لقرار مقاطعة الانتخابات النيابيّة آنذاك، حين كانت مقدّمات الحراك تقتصر على القضايا المطلبيّة لشريحة المعلّمين وعمّال المياومة والموانئ، قبل اندلاع الثورة في تونس، التي قرعت أجراس الربيع العربي.
انتخابات المجلس النيابي السادس عشر، التي عُقدت في شهر تشرين الثاني للعام 2010، جاءت في ظلّ حالة من السخط الشعبي التي كانت ماتزال محصورة في نطاق شرائح محّددة، فقد سبق هذه الانتخابات حراك المعلمين الذي بدأ باعتصام السادس من آذار في ذلك العام، وبلغ ذروته خلال المسيرة التي انطلقت من عمان إلى الكرك تحت شعار "أخت النشامى أدما زريقات" في السادس والعشرين من حزيران.
كما سبق تلك الانتخابات بيان الأول من أيّار الذي أصدره المتقاعدون العسكريّون، ليعكس انتقال حالة السخط الشعبي إلى القوى المجتمعيّة التي طالما استند إليها النظام في بناء ركائزه الأساسيّة، حيث كان ذلك البيان بمثابة انحياز لذات الخندق الذي اصطف فيه عمّال المياومة في مواجهة سياسة الخصخصة وتصفية المؤسّسات الوطنيّة، فقد شهد مطلع ذلك العام أوّل اعتصام لعمّال المياومة احتجاجاً على فصل 256 عاملا من عمّال "الزراعة"، ليستمرّ الحراك العمّالي الذي بدأه عمّال الموانئ في شهر تموز للعام 2009.
في ظلّ تلك الأجواء، جرت انتخابات المجلس النيابي السادس عشر في شهر تشرين الثاني للعام 2010، وما ان استقرّ البرلمان على توليفة السلطة التنفيذيّة، حتى وجد نفسه في مواجهة الحراك الشعبي الذي انطلق من ذيبان يوم السابع من كانون الثاني للعام 2011.
أمّا أولى مسيرات "الحسيني" التي انطلقت في الرابع عشر من كانون الثاني لذلك العام، فلم يكن لها علاقة بما تحاول السلطة تصويره على أنّه صراع ثنائيّ مع الاخوان المسلمين، بل على العكس من ذلك، حالت المخاوف دون المشاركة الرسميّة لأيّ من القوى الحزبيّة في تلك المسيرة، التي بادرت إليها القوى الناشئة دون أي غطاء سياسيّ.
قوى المقاطعة آنذاك، والتي تمثلت بحزبيّ جبهة العمل الإسلامي والوحدة الشعبيّة، وجدت في تطوّرات الأوضاع مدخلاً للضغط على السلطة وحملها على تغيير قانون الانتخاب، من أجل تمكين الأحزاب السياسيّة من الوصول إلى البرلمان.. وهكذا استلمت القوى الحزبيّة زمام المبادرة، لتنخرط كافة أحزاب المعارضة في الصراع من أجل تحقيق المشاركة السياسيّة، بعد تغيير الأولويّات التي كانت قد حدّدتها مقدّمات الحراك ضمن البعد الاقتصادي- الاجتماعي.
وبعد دخول الحراك الشعبي عامه الثالث، يتكرّر مشهد البرلمان المجرّد من جوهر الديمقراطيّة، ليستقبل الشارع المجلس النيابي السابع عشر بشعار "الشعب يريد إسقاط البرلمان"، غير أن واقع الأمر يختلف جذريّاً عمّا جسّده شعار "الحلّ هو الحلّ" خلال مواجهة قرارات المجلس السابق، التي ترجمت كافّة توجيهات المركز الأمني- السياسي على أكمل وجه.
ويبرز الاختلاف بين مشهد الأمس وواقع اليوم، بدفع الحراك -عبر تعنّت السلطة- إلى خارج الإطار الذي حدّدته القوى الكلاسيكيّة عبر محاولة استثمار التطوّرات الإقليميّة، المتمثلة بالربيع العربي، من أجل تحقيق إصلاحات سياسيّة تتمحور حول مشاركة قوى المعارضة في اللعبة الديمقراطيّة.. فمن جهة أدت التطوّرات الإقليميّة ذاتها إلى نسف التحالف الذي كان قائماً بين أطراف لجنة التنسيق الحزبي، بالإضافة إلى تراجع دور وحضور القوى المنظمة، ناهيك عن تفاقم الخلاف الداخلي لدى الحركة الإسلاميّة وانعكاس ذلك على تحالفاتها، مقابل تبلور حراكات وقوى ناشئة بدأت تفرض معادلة أخرى لا يقتصر فيها الأمر على المطالبة بتغيير قانون الانتخاب.. ومن جهة أخرى اتسعت دائرة السخط الشعبي لتشمل الغالبيّة العظمى من مختلف الشرائح الاجتماعيّة التي أضنتها القرارات المتتالية لرفع الأسعار.
ومن هنا يمكن تفسير سبب انحسار فعاليّات الجمعة -التي تمحورت حول المطالبة بإسقاط البرلمان- لتنحصر في بعض المسيرات المتواضعة والاعتصامات الخجولة، حيث بدأت الحراكات الشبابيّة والقوى الناشئة، بتغيير أشكال وآليّات العمل الجماهيري، في محاولة لاستنهاض الشارع عبر إعادة طرح الأولويّات الاقتصاديّة- الاجتماعيّة التي سبقت مسيرات "الحسيني"، لتتجاوز هذه القوى سقف قانون الانتخاب، وتبدأ العمل بشكل جدّي بين الناس، بعيداً عن الصخب الإعلامي الذي استندت إليه النخب السياسيّة لفرض حضورها في بداية الربيع الأردني.
ولكن، لا يزال أمام الحراكات الناشئة الكثير مما ينبغي عمله لاكتساب الشرعيّة الشعبيّة واستنهاض الشارع في مواجهة قرارات السلطة، أضف إلى ذلك أنه لا يمكن لهذه القوى أن تحقّق أهدافها المنشودة بمعزل عن القوى المنظّمة، فغياب الأحزاب السياسيّة -رغم كلّ ما يمكن إبداؤه من ملاحظات على أدائها- لن يوصل الحراك الشعبي إلى أهدافه المنشودة.. كما أن توجهات السلطة التي عبّرت عنها تصريحات رئيس الحكومة د. عبدالله النسور، والمتعلقة باستمرار سياسة رفع الأسعار، والإصرار على التأزيم الذي عكسه قرار تعيين فايز الطراونة رئيسا للديوان الملكي، وتفاقم حالة الاحتقان الشعبي، كلّ هذا ينذر بمقدّمات مرحلة صعبة لن يكون فيها الصدام مضمون النتائج، سواء في حال بقي الحراك مقتصراً على القوى الطليعيّة في مواجهة السلطة التي تستهدف تصفيته، أو في حال اندلاع هبّة شعبيّة عفوية، دون ان تتمكن هذه القوى من تنظيمها وتحديد بوصلتها في معركة التغيير السلمي.