حياتهم مقابل رغيف.. كيف يخاطر المتطوعون لإيصال الطعام إلى نصف مليون محاصر بالغوطة؟
في أحد أقبية الغوطة، تَحلَّق مجموعة من الأهالي المحاصَرين حول 3 شباب يوزعون عليهم ساندويتشات لبنة وشاي، ورغم بساطة الوجبة فقد بدت مثل وليمة فاخرة؛ نظراً إلى ظروف المحاصَرين الذين لم يأكلوا شيئاً منذ أكثر من 20 ساعة.
ساندويتش اللبنة، الذي يلتهمه الأطفال والشيوخ بنهم، كاد يكلِّف شابين حياتهما، فيما يشبه العملية الانتحارية استطاعا الخروج من الأقبية رغم قذائف الطائرات والمدافع، والتحرك وسط أطنان من الإسمنت والخراب حتى أحد المخازن؛ من أجل تأمين كيلوغرام من دقيق الشعير ولبنة وشاي، ثم العودة إلى مقرهم سالمين غانمين، كما تصف الناشطة بايان.
في القبو، خبزوا الشعير وأعدوا الساندويتشات. اعتقد المحاصرون أنهم سينعمون أخيراً بلحظة هناء، لكن ذلك كان من المحال؛ إذ على بُعد 100 متر فقط من مخبئهم ألقت طائرة قذائفها، رغم الهدنة التي اتفق عليها مجلس الأمن يوم السبت 24 فبراير/شباط 2018.
من لم يمُت بالقصف.. مات جوعاً!
"شو بدنا نطبخ اليوم؟"، السؤال يبدو لنيفين بعيداً جداً، تتذكر كيف كانت تسمعه كل يوم من جدتها وأمها، وكيف استخدمته هي فيما بعد مع أسرتها.
السؤال صار يُوجعها اليوم، كما تكتب على صفحتها بـ"فيسبوك". المحاصَرون في الأقبية صاروا يطرحون السؤال، ليس للاختيار، وإنما بسبب أن توفير لقمة قد أصبح شبه مستحيل، المخازن التي اعتادوا رؤيتها مملوءة بخيرات أراضيهم فرغت، والمحلات أقفلت، وتمر ساعات طويلة قبل أن تصلهم مساعدات أو تبرعات فيما يشبه المعجزة.
وكان مجلس الأمن الدولي قد وافق، مساء السبت 24 فبراير/شباط 2018، علىقرار بوقف الأعمال القتاليةفي سوريا بشكل فوري، مدة 30 يوماً.
ونصَّ القرار على وقف الأعمال القتالية بسوريا، وخاصة في مدينة الغوطة، التي يشن نظام الأسد، على مدار أكثر من 10 أيام، هجمات عليها، خلَّفت مئات القتلى والجرحى، وأيضاً على إدخال المساعدات الإنسانية لكلِّ المناطق المحاصَرَة في سوريا، ومن ضمنها الغوطة.
ورغم القرار الصادر، فإن نيفين وأهلها المحاصَرين لم تصل لهم أية مساعدات؛ لا أكل ولا تدفئة ولا ماء صالحاً للشرب، مما يصعب عليهم عملية البقاء على قيد الحياة، لتردِّد الناشطة السورية مقولة أحد الشعراء: "من لم يمت بالقصف مات بغيره".
ويتساءل سكان الأقبية في الغوطة كم من الوقت سيستطيعون تحمُّل الجوع والعطش والبرد، خاصة الأطفال والشيوخ منهم، "الساعة الثانية وسبع عشرة دقيقة بتوقيت الغداء العالمي.. صحة وهَنا"، تعلق نيفين على صفحتها بمرارة.
بعض الأمل وسط الخراب..
وإذا كان قبو نيفين وأهلها مظلماً وكئيباً، فإن الوضع كان مختلفاً بعض الشيء في قبو الناشطة الإعلامية ورد، شعَّ بعض الأمل بعد وصول تبرعات، شملت بطاريات مشحونة وطعاماً، وأيضاً أدوية وعلاجات أولية.
مع الضوء، شبعت البطون أخيراً، فقد أسهم الشباب في توزيع الدقيق المتبرَع به على النساء؛ لخبزه على مدافئ الحطب، وإطعام العائلات الجائعة في الأقبية.
كما تنقل بعض الأطباء بين الأقبية، وقاموا بجولات فحص عام للأطفال، رغم كثافة القصف وخطورة التنقل في الطرقات تحت القصف.
هذه المؤشرات جعلت ورد تشعر ببعض القوة والأمل، كما تقول: "استرجعت قوتي اليوم عندما علمت أن الطعام بدأ يصل للأقبية بهمة شباب غوطتي الأحرار".
وشارك العديد من سكان الغوطة، وحتى الأطفال، بحملة لتنظيف الأقبية ونظموا غرفة صغيرة لكل عائلة، أغلقوها ببعض الستائر والأقمشة التي تطايرت مع جدران منازلهم جراء القصف.. كانوا يصنعون من "موتهم حياة" تكتب ورد.
ضيوف الفجر
المساعدات التي أبهجت قبو ورد، أسهم في وصولها إليهم متطوعون يخاطرون بحياتهم في سبيل تنفيذ مهمتهم، فمع فجر كل يوم يخف القصف.. يتجمع الشباب المتطوعون في المقر الرئيسي، حيث يتم إعداد المواد الأساسية التي تحتاجها كل منطقة حسب المتوافر، لينطلق كل متطوع إلى منطقته.
رحلة المتطوع تكون محفوفة بالمخاطر؛ فطائرات النظام تتصيد تحرُّك المتطوعين، لتنهال عليهم بقذائفها، "في عنا (عندنا) متطوع انصاب بحروق بوجهو"، يقول متأثراً أحدُ المشاركين في عملية توزيع المساعدات.
المواد الموزعة على العائلات المحاصَرة لا تقتصر على الطعام والتدفئة، فقد يحدث أن يحصل الأطفال المحظوظون على بعض البسكويت واللعب، كما يحكي الفاعل الجمعوي عاطف نعنوع، فقد استطاعوا التغلب على الخوف الذي يسكنهم من القصف والموت، والوصول إلى أقبية أطفال لم يغادروها منذ أيام، ووزعوا عليهم قطع الحلوى واللعب معهم، "نوزع عليهم بسكويتاً ونلعبن شوي وننسيهن الأسى اللي عايشينو".
ورغم أن الغوطة محاصَرة منذ 5 سنوات، فإن الكثير من المنظمات استطاعت أن تفتح فروعاً لها في المنطقة؛ من أجل مساعدة المحاصَرين، كما أن بعض التجار استطاعوا عقد صفقات مع النظام؛ من أجل الحصول على مواد غذائية مختلفة، عبر تقديم عمولات ورشى عن كل كيلوغرام من هذه المواد، مما يجعل سعرها يصل إلى 10 أضعاف السعر الأصلي أو أكثر، "مين قادر منا نحن اللي عايشين حياة طبيعية يشتري كيلو الرز مثلا بـ10 دولارات أو 20 دولاراً؟!"، يتساءل عاطف نعنوع.
مشاغل الكبار وهمومهم هذه لا تعني طفلة عمرها 5 سنين في القبو.. استغلت جو الهدوء وانقطاع القصف للحظات، لتسأل أمها: ماما مابدك تتنفسي؟
لم تعرف أمها بماذا تردُّ عليها، كانت تعرف أن طفلتها تطلب منها بذكاء الأطفال وبراءتهم أن تخرج معها لباب القبو حتى ترى الدنيا ونور الشمس، والأم ما بيدها حيلة.. تخاف من عودة شبح الموت المخيم فوقهم، فالهدنة الموعودة كانت مجرد.. "كذبة"، تختم نيفين بمرارة.