فشل التقدميين على أبواب دمشق
كتبت رانيا الجعبري:
لم نكن ندرك - ونحن نسترشد بروح البوعزيزي الطاهرة أنها غير كافية لاستبانة الطريق، فثمة أبجديات سياسية تجهلها المعارضة، وعلى رأسها صياغة خطاب سياسي، مما مهد للقطيعة بين المعارضة التقدمية والشعب بعد الثورة السورية.
ونحن نتحدث عن المعارضة العربية، لا بد من الحديث عن المعارضة الأردنية بصورة خاصة، ومنها قد يكون التعميم ممكناً في بعض الحالات المشابهة.
ونعود بذاكرتنا إلى 14 كانون الثاني 2011، يوم توحدت القوى المعارضة، ورقص أبناؤها على أبواب السفارة التونسية، وبعد ذلك بأقل من شهر، فعلوا على أبواب السفارة المصرية؛ فرحاً بسقوط مبارك، لكن لبنات المعارضة – التي تبدو متماسكة – سرعان ما تفتت على أسوار السفارة الليبية، ومن بعدها السورية.
فما الذي جد، لتتفسخ المعارضة الأردنية وتمنح النظام فرصة ذهبية، باستغلال التفكك في زمن الربيع العربي، ويقطف ثمار الخلاف بين صفوف المعارضة الذي أينع في ربيع العام 2011؟
ما الذي جد ليفشل التقدميون في الأردن على أبواب دمشق؟
الرحمة على أنغام التدخل الخارجي
قبل التعرض بالنقد للخطاب السياسي للمعارضة، لا بد من التأكيد، بأن ما تداوله القوميون وبعض اليساريين، من مخاوف التدخل الأجنبي في ليبيا بعيد ثورتها، وسوريا كذلك، هي مخاوف مشروعة، وقد اثبت الوقت أنها واقع.
فمن غير الممكن للدول الاستعمارية أن تترك ليبيا، الدولة العربية صاحبة الحصة الأغنى والأنقى من الغاز في المتوسط، وكذلك صاحبة الموارد النفطية حالياً، والشمسية مستقبلا، لذا فإن أبناء ليبيا الذين عانوا من قتل وإبادة القذافي في ثورتهم، ومن التجهيل قبل الثورة، وبالتالي الحرمان من ثروات بلادهم، هم يعانون الآن من ذات الحرمان، لأنهم قاموا بدفع خيرات بلادهم؛ ثمناً للمستعمر، الذي هرع لـ “نجدتهم” من أنياب القذافي، واليوم يقدم الليبيون مستقبل بلادهم؛ ثمناً لتلك “النجدة الدولية” التي قادها الناتو، بحجة “الرحمة الدولية” لشعب ليبيا.
ذات القصة كان من المفترض أن تحاك في سوريا، إذ تتأهب منذ ما يزيد على العامين دول الاستعمار، منتظرة من النظام السوري الدموي أن يزيد في بشاعة قمع مواطنيه، لتنقض هي الأخرى، وتبيع الرحمة لشعب لن يتغير عليه الحال، في حال رضي بابتياع تلك الرحمة المكلفة، ليصبح لدينا “عراق” جديد.
لكن – ولا نعلم من هو المحظوظ في هذه المعادلة – فإن كلا من روسيا (كقوة عالمية عائدة) والصين (كقوة أخرى ناهضة) إضافة إلى إيران، قاموا بحفظ التوازن في المسألة السورية، لكن في النهاية ثمة شعب وأبرياء يدفعون ثمن صراع، وصفه مدفيدف في إحدى لقاءاته مع الإذاعات الروسية “بأنه سيكلل القوة العالمية المنتصرة على الأرض السورية”.
في نهاية المطاف، ورغم وجاهة الموقف الذي يتبناه قوميون ويساريون في الأردن، لكن لماذا لم يتمكنوا من حشد الناس خلف فكرتهم، ولماذا نجح الإسلاميون في خطابهم العاطفي لاستمالة الناس، كي تبرر كل التحالفات المريبة للجماعات الدينية المواجهة لنظام الأسد على الأرض السورية؟
الآن تبرر الحركات الإسلامية كل حالات القتل البشع، الذي يتم على الهوية في سوريا، والتي يقوم بها من يسمون أنفسهم ثواراً، من باب أنني أضع يدي بيد الشيطان لأنقذ سوريا، كيف تمكن الإسلاميون من صياغة خطابهم المريب، وإيصاله للناس، رغم عمليات القتل الممنهج على الأرض السورية، والتي تقوم بها بعض الحركات الاسلامية مدعية دعمها للثورة السورية؟
الخطاب السياسي هو الحل!
لو حاولنا موازنة أطراف المعادلة، لتبين أن صاحب الفكرة السليمة إن لم يتمكن من حشد الناس حولها، فهو بالتأكيد يجهل صياغة خطاب سياسي، وهذه هي المهارة الأهم التي تفتقر لها المعارضة الأردنية، ممثلة بالقوميين واليساريين، وهنا نستثني الإسلاميين، كونهم لم يكونوا من المعارضة في تاريخ الأردن الحديث، بل إنهم كانوا جزءا مهما من النظام، ونشطوا في إضعاف اليسار الأردني، تطبيقا للاتفاقيات الثنائية التي جمعت الأردن وأمريكا في هذا الشأن، منذ خمسينيات القرن الماضي.
نعم، لقد فشل قادة المعارضة الأردنية في صياغة خطاب سياسي يواجهون به الشعب الأردني في المسألة السورية والليبية، بل إنهم نسوا أنهم يقفون مع سوريا العربية، شقيقة العراق، وتجاهلوا كل الدماء السورية الطاهرة التي سفكها نظام بشار الدموي، وراحوا يمجدون الأسد، فماذا ينتظرون من الأردنيين وهم يرون أشقاءهم يواجهون الموت على يد نظام لا يختلف عن باقي الأنظمة إلا في برنامجه الممانع “البراجماتي” وليس النضالي تماما؟
كان من الممكن ببساطة أن يصغي الأردنيون للقومي واليساري وهما يخوفان من بغداد جديدة، لكن عندما يتضمن هذا الخطاب السياسي احتراما للدم السوري المراق، واحتراما لحق السوري في الحرية التي يسلبها نظام الأسد، كان من الممكن أن يفهم الأردنيون كل تلك المخاوف لو لم ينبرِ كثير من القوميين وبعض اليساريين لتمجيد قاتل اخوانهم “الأسد”، لتصبح المخاوف الحقة من تدخل أجنبي في سوريا مجرد تبرير لذلك التمجيد الفارغ.
بوضوح، ثمة مؤامرة على سوريا، وثمة قوى تنتظر انهيار سوريا، وإن السعادة بتراجع الثورة، لا يعكس إقرار النظام السوري على دمويته وقمعه الدائم، ولا تأييدا لشخص الأسد، بل هو مطالَب بأن يتغير للأفضل أو أن يرحل، وعلى العموم فإن القوى الثورية في أي بلد عربي يجب أن تنحاز لسوريا ومصالحها، المتلخصة بحرية حقيقية، بعيدة عن الانتهازية الدولية، وهذا يستدعي دعم الثورة بشرط أن لا تحيد عن درب الحرية الحقة، فلا معنى لحرية تصنع لحساب استعمار جديد، رأس حربته قطر والسعودية، لكن من دون تنصيب بشار الأسد آلهة للعروبة، كما فعل كثيرين!
إذ أن “قائد سوريا الحالي” فتح أبواب سوريا في السنوات الماضية للاستثمار التركي تحديداً، كما فتح الأبواب لشركات عالمية لم تحلم يوماً أن تقتحم أسوار دمشق، وفي عهده سنت قوانين زراعية أضرت بالفلاحين، إضافة إلى افتتاح الجامعات الخاصة ونظام الموازي في جامعة دمشق.
فهذا النظام، وخلال السنوات الماضية تحديدا، لم يشكل نموذجا عربيا سليما للمشروع القومي المنتظر، وعندما نقف بمواجهة المؤامرة، فإننا لا نقف إلى جانب بشار الاسد، بل إلى جانب سوريا ومصلحة الشعب السوري.
وبناء على المعطيات السابقة نسأل؛ بماذا اختلفت المعارضة الأردنية عن النظام الذي لا يلتفت لمشاعر الناس وإرادتهم؟ لقد صاغوا خطابهم السياسي بمعزل عن مشاعر الشعب، فكان لا بد منه أن ينفض الشعب من حول معارضة لا تتقن الحديث باسمه.
ويبقى الأمل في جيل من الشباب اليساري والقومي ليتعلم من هذه الأخطاء، التي تكشف فشلا في أبسط دروس السياسة، وهو صياغة الخطاب السياسي الساعي لحشد الناس، ذلك الخطاب الذي يوازن بين مصالح الأمة العربية، وحق العرب في حرية تليق بهم، بعيدا عن تمجيد الأشخاص وقريبا من الوفاء للفكرة.
نقلا عن مجلة راديكال