سوريا على عتبات «حرب أهلية ثانية»
دخلت معادلة “تغيير موازين القوى” على قاموس “أصدقاء سوريا”، بعد أن ظلت تنحية النظام وإسقاطه، هي مبتدأ الجملة الغربية وخبرها..ما يعني أن الحوار الذي تجمع مختلف القوى الدولية والإقليمية على ضرورة إنطلاقه قريباً، سيصبح نوعاً من “التفاوض بالنار”، فالمتفاوضون الفعليون هم الفاعلون في ميادين القتال، وليس السياسيون وخبراء التفاوض في الغرف المغلقة.
السوريون إذن، على موعد مع جولات جديدة من القتل والتدمير، قد تسير (وقد لا تسير) جنباً إلى جنب مع جولات أكثر دموية وأشد سخونة في ميادين القتال وجبهاته، ما ينذر بإستطالة أمد الأزمة وانفتاحها على أكثر السيناريوهات “كابوسية” بالنسبة لسوريا والمنطقة.
حتى الآن، لا يبدو أن ثمة جديد في مواقف ومقررات “أصدقاء سوريا”، سوى المزيد من ضخ المال والسلاح والعتاد و”الوسائل غير الفتّاكة”، سواء بصورة مباشرة، ومن أموال دافعي الضرائب الأمريكيين والأوروبيين، أم بصورة غير مباشرة، من خلال إعطاء الأوامر، وأحياناً الاكتفاء بالضوء الأخضر، لعواصم الرمل والملح، لتقوم بالمهمة نيابة عن الجميع.
لكن الجديد هذه المرة، هو التحضير لمرحلة جديدة في الحرب الأهلية السورية التي اشتعلت منذ عامين..فبعد أن أزهقت الحرب الأولى حيوات عشرات ألوف السوريين، وشردت ما يقرب من خمسة ملايين سوري، وأحالت المدن السورية إلى ما يشبه “مدن الحرب العالمية الثانية”، يبدو أن التخطيط “الإقليمي / الدولي” قد دخل طوراً جديداً من أطوار التحضير لمرحلة ثانية من الحرب الأهلية، أو ما يمكن تسميته بـ”الحرب الأهلية الثانية”، ولكنها هذه المرة بين السوريين العلمانيين والإسلاميين المعتدلين من جهة، وجبهة النصرة والسلفية الجهادية والتيارات الأكثر تشدداً من الإخوان من جهة أخرى.
الحرب الأهلية الأولى، أنهكت نظام الأسد، الذي نظرت إليه قوى إقليمية ودولية، بوصفه “نظاماً مارقاً”، وعضواً فاعلاً في محور طهران وهلالها الشيعي، فوجب العمل على إسقاطه بشتى السبل والوسائل، ولقد كان لهم ما أرادوا، فالنظام إن لم يسقط هذه السنة، فلن يبقى في موقعه في السنة المقبلة..وفي مطلق الأحوال، فإنه سيظل حتى إشعار آخر (بفرض بقائه المديد)، نظاماً هشاً ضعياً، لا حول له ولا قوة، عبئاً على حلفائه لا ذخراً لهم.
أما الحرب الأهلية الثانية، فمطلوب منها القضاء على “جبهة النصرة” و”السلفية الجهادية”، وكل الأسماء والمسميات التي تنتهي عند القاعدة..هؤلاء الذين تقاطروا زرافات ووحدانا إلى سوريا، بعد أن باتت أرض الحشد والرباط والجهاد، وبدعم وتشجيع وتسهيل وتمويل وتسليح من دول المحور ذاته، من خصوم النظام السوري، جاء دورهم اليوم ليصعدوا إلى “المقصلة”، ولقد كان تجميعهم في الأصل، “مؤامرة” عليهم..أولا بهدف استخدام “بأسهم الشديد” لتكسير رأس وأذرع وأقدام النظام السوري..وثانياً، من أجل الاستدارة عليهم، فتكون بذلك حلقة جديدة وكبرى في مسلسل الحرب على الإرهاب، قد أنجزت أغراضها.
استراتيجية تغيير موازين القوى التي باتت لها الأولوية في حسابات المحور المدعوم من واشنطن ولندن وباريس، ليس المقصود بها تعزيز مكانة ونفوذ قوى المعارضة العلمانية والإسلامية المعتدلة في مواجهة النظام فحسب، بل وفي مواجهة جبهة النصرة كذلك..أما ترتيب الأولويات، فهو كما كان عليه الحال من قبل، ضرب النظام بالنصرة، وضرب النصرة بالعلمانيين، فيتحقق ضرب عصفورين بحجر واحد.
الحرب الأهلية الثانية، لن تكون نزهة قصيرة أبداً، بل قد تتعدى مخاطرها وتداعياتها وانعكاساتها، ما ترتب على الحرب الأهلية الأولى..فالنصرة في سوريا، وامتداداتها وتحالفاتها، ليست مجرد مجموعة من “الخلايا النائمة”، إنها بمثابة “طالبان” في مرحلة صعودها، حين قضت على الأخضر واليابس من معارضات أفغانستان وحركاتها الجهادية والسياسية..ولقد اقتضى الأمر، حرباً كونية على أفغانستان، من أجل استئصال شأفة طالبان، ومن دون جدوى..والنصرة في سوريا، تجذّر نفوذها، وتعززت قواها العسكرية وشبكاتها الاجتماعية، والأرجح أن حرباً من طراز “داحس والغبراء” هو ما ينتظر الحرب الأهلية الثانية في سوريا.
بعض دول الإقليم والغرب، يسعده أن يخوض الآخرون الحرب ضد الإرهاب نيابة عنه، ويسره أكثر أن يهزم “نظاماً مارقاً” و”تنظيماً إرهابياً” من دون أن يريق قطرة دم واحدة من دماء جنوده..وربما هذا ما يميز إدارة أوباما عن إدارتي بوش الأب والإبن..إدارتا بوش الأب والإبن، خاضتا حربين كونيتين مكلفتين (مال ورجال)، لتأتي نتائجها لصالح إيران بالكامل، ومن دون أن تذرف طهران حبة دمع أو تنزف قطرة دم..اليوم، اختلفت الصورة، إيران تنزف في سوريا، وسوريا تنزف من دماء أبنائها، والمنطقة تنزلق إلى المجهول، من دون أن ينزف الآخرون قطرة دم أو دمع واحدة، أقله في المدى المنظور.
(الدستور)