ماذا لو لم يكن قتلى حادث العقبة من الفقراء؟
جو 24 :
قراءات تنموية -أحمد أبو خليل -
مساء الاثنين، أول من أمس، وفي بلدة غور الصافي، وفي اللحظة التي كان فيها السيد سهم الشمالات يحدثنا عن الحالة الخطيرة لابنه الذي كان يرقد في المستشفى، لم يكن يعلم أن الابن (أحمد) يلفظ أنفاسه الأخيرة ليكون الضحية السادسة لحادث العقبة، والرابعة من بلدة غور الصافي.
كان أول ضحايا البلدة قد دفن يوم الخميس، ثم دفن الآخران يوم الأحد، كان أفراد أسرة أحمد يتمنون ويرجون الشفاء، غير أن الأب الذي كان قد عاد للتو من زيارة ابنه ولم يتمكن من رؤيته إلا من خلف زجاج عازل في المستشفى، يعرف أنه بانتظار الاتصال الذي يحمل الخبر المؤلم، فالابن مصاب بحروق تتعدى 90 % وبالفعل ساعات قليلة وتلقى ذلك الاتصال.
ليسمح لي القارئ بأن أصف له ما جرى معي:
فقد لفت انتباهي أن أغلب الضحايا من غور الصافي تلك المنطقة التي تحجز لنفسها موقعاً دائما في قائمة جيوب الفقر، ولفت انتباهي أيضاً ندرة المادة المنشورة حول الحادثة من زاوية نظر ضحاياها (أي أهاليهم)، فلماذا اجتمع هذا العدد من شباب بلدة واحدة ليلاقوا هذا المصير المؤلم؟
في الطريق إلى غور الصافي، وبعد أن تجاوزت عمان بقليل، أشار لي شاب يقف في الشارع طالبا الركوب، فتوقفت وحملته معي. سألته مباشرة إلى أين؟ قال: إلى غور الصافي. سألته هل أنت من هناك؟ قال: نعم.
كان هناك متسع من الوقت، حوالي ساعتين، شرح لي مرافقي مجمل الصورة في البلدة، وأراني صور القتلى والجرحى على هاتفه النقال، وسألته عن كل منهم وعمله وحالة أسرته.
عند الوصول استأذنته بأن يتجول معي على بيوت الضحايا، ثلاثة منها بيوت عزاء، وهناك مؤشرات تدل على ذلك عند الأبواب، لكن الوقت غير مناسب للدخول في أجواء حارة جداً بعد الظهر، وفي رمضان.
كان قد أبلغني عن حالة الجريح أحمد، فقدّرت أن هذه الحالة قد تكون مناسبة أكثر من غيرها للزيارة، على الأقل يمكن مشاركتهم الدعاء.
بيت صغير بلا أسوار، على شكل مربع من الطوب وطبقة قصارة خشنة وغير مدهون، مساحته لا تتجاوز مائة متر مربع، تتقدمه مسطبة، وشجرة تحتها بضعة كراس بلاستيكية.
جلسنا تحت الشجرة؛ الأب واثنان من أبنائه وطفلة صغيرة وأنا.
سألته عن أحمد فقال فيما قاله: هو الابن الثالث (شق توم) عمره حوالي 23 عاماً، ترك المدرسة كأغلب أقرانه في غور الصافي، اشتغل في أعمال مؤقتة في الغور، وتقدم للالتحاق بالأمن العام أو الجيش، وينتظر دوره، وقبل أسبوع قرر الذهاب إلى العقبة للعمل بعد أن نصحه أصدقاؤه بالالتحاق بهذه الفرصة، وهي عمل بالمياومة (15 دينارا في اليوم). ومع اكتمال الأسبوع الأول حصل الحادث.
سألته: كيف علمت بالحادث؟ قال من الناس! أولاً كإشاعة، ثم أبلغني والد أحد الجرحى الذين غادروا المستشفى نقلاً عن ابنه بأن أحمد (ابني) في المستشفى مع آخرين من غور الصافي.
تحركنا إلى هناك، وكان الوضع في المستشفى فوضى، وعلمنا أن المستشفى في العقبة غير مؤهل لمعالجة مثل هذه الحالات الحساسة، وبقينا عدة أيام، ثم عدنا، وبدأت أخبار الوفيات، إلى أن توسط "ناس" فنقلوا جريحَيْن إلى المدينة الطبية أحدهما أحمد.
هل زاركم أحد من أي جهة رسمية وهل أبلغتم بما جرى من أي طرف رسمي؟
بأسى ولكن ببساطة قال إن "أحدا لم يزرهم ولم يسمعوا رواية رسمية، ولكنه استدرك وقال لي: أنت أول شخص يزورنا! تذكرت أن المواطنين في المواقع الفقيرة يعتقدون ان الباحث أو الصحفي هو جهة رسمية! وبالطبع كنت مقدما قد أوضحت له صفتي ومهمتي.
والد أحمد هو الآن في التاسعة والأربعين من عمره، وهو يعاني من إعاقة واضحة في ساقيه ولا يستطيع التنقل مشيا لمسافة طويلة. ويتلقى معونة متكررة من صندوق المعونة الوطنية، وقد اشتق لنفسه صنعة خاصة ينفرد بها في البلدة منذ 18 عاماً: فقد وضع ماكنة تصليح أحذية يدوية على مدخل محل لبيع الأحذية في سوق البلدة الصغير، يتبادل مع صاحب المحل المنفعة، فهو يجلب "رِجِل" الزبائن إلى المحل، فيما يتعامل معه صاحب المحل باحترام ومودة. إن معظم زبائنه من عمال المزارع الذين يستخدمون احذية قوية وكبيرة، ويثقون بالخياطة اليدوية التي يقوم بها السيد سهم. يقول: كنت سابقا أقوم باستخدام خيوط عقال الرأس المجدول من خيوط سوداء قوية فأستخدمها في الخياطة ثم تعرفت على باعة خيوط قوية في عمان.
والدة احمد مصابة بسرطان الثدي وقد خرجت من عملية استئصال ثدي منذ شهر ولا تزال تتلقى العلاج.
تركته وغادرت وتجولت في الشوارع، وزرت إسكان الفقراء على مدخل البلدة المكون من 30 وحدة سكنية يسمونه "حي المكرمة"، جميع سكانه من أصحاب الإعاقات الجسدية أو العقلية.
انتظرت لساعتين حتى "تنكسر" حدة أشعة الشمس، ثم اقتربت من بيت عزاء لأحد الشباب الذين دفنوا في اليوم السابق.
كان بعض المواطنين يجهزون أربعة صفوف متراصة من الكراسي في الشارع العام من دون إغلاقه بالكامل، تعرفت على والد الضحية، يعاني من إعاقة ويمشي على "ووكر" كان قد ركنه بجانبه وجلس على كرسي.
في الواقع يصعب على صحفي أو الباحث أن يتخلى عن انفعاله وعن خجله، وخاصة في عمر متقدم نسبيا كحال كاتب هذه السطور. ولكن من قال إنه مطلوب من الصحفي أو الباحث أن لا يخجل أو ينفعل؟
وبعد..
تفتح الحادثة سؤالا عن موت الفقراء! فماذا لو كان قتلى الحادث من غير الفقراء؟ هل كان مشهد الاستهتار والإهمال والتأجيل والغموض سيتكرر؟
وإذا ابتعدنا قليلا عن الجانب المأساوي المتمثل في فقدان ستة شباب، لعلها فرصة للنظر في خلل التعامل مع قضية شمولية كالتنمية ومكافحة الفقر. بشكل خاص ما يتعلق بفقدان الإحساس الإنساني لدرجة تقترب من البلادة في أجهزة الدولة.
يحمل الأرشيف تجربة حوالي 15 عاما من "مكافحة الفقر في غور الصافي" والنتيجة ان نسبة الفقر ارتفعت من 34 % عند بدء المكافحة إلى 61 % في آخر إحصاء رسمي.
تفاصيل الفهم الرسمي لقصة الفقر والفقراء والموقف الممارس منهم، تحمل الكثير من "المخازي التنموية"، مع أنه في بلدنا في عقود سابقة تجربة من الحس التنموي الإنساني العالي، جعلت من الفقراء مواطنين منتمين ومضحين رغم فقرهم. إن طريقة التعاطي مع الشق الإنساني من الحادثة، قد تضع غور الصافي في رأس قائمة "جيوب القهر" مع بقائها طبعاً في مقدمة "جيوب الفقر".
(الغد)