ما يجب أن تتعلمه من تجربة نسرين طافش
جو 24 :
"كُن كما أنت، واظهر كما تكون"
1
تعرّفت عليها قبل سنواتٍ خلت، كانت الأيام تحمل تلك الصدف الغريبة التي تجعلك تعتقد أن هذا اللقاء كان مُحتّماً، أمراً كان يجب عليه الحدوث، وليس لنا سوى أن نقبل به، فمن نحن لنرفض شيئاً خُطط له من خارج هذا العالم، خارج نطاق فهمنا، هذا ما يجعل للعلاقة سحراً خاصاً، والكلّ يفعل ذلك؛ يقوم بنسج قصصه الخاصة عن صدفٍ ما، جعلت ما حدث، لا مفرّ منه. لم يكن حسابها على الفيسبوك يملك لها سوى صورتين، وعندما أحاول قراءة الصورتين بعد مرور الوقت أجد أن الإحساس لم يتغيّر قط، فتاة خجولة، تنظر إلى الكاميرا بعداءٍ غريب، وكأن الكاميرا لم يكن مرحّباً بها، وهذا الأمر كان قادراً على الدوام على أن يخترقني حاملاً معه إحساساً بالجمال غير المفهوم، إحساساً بالنقاء لا يُمكن تفسيره، جمال لا يُدرك ذاته، خالٍ من كل شيء مُخطط له مُسبقاً، جمال لم يُشوّه بعد. الجمال الذي لا يحمل الثقة بذاته، عندما يقدم نفسه بتردّد، ينسلّ إلى نفس المتلقي بسلام خفيف، لا توجد إشارات أخرى، جرعة من الجمال الصافي، والصور التي رأيتها بعد ذلك الوقت كانت تضاعف هذا الإحساس، جمال يتراكم، لا يفرض نفسه عليك، ولا يقول لك شيئاً، يدعك تحكم بما تريد، ولا تستطيع إلا أن تقدّر ما تراه حقّ قدره. بعد مرور فترة ليست بالقصيرة انقطع التواصل فيما بيننا، واستمرّ انقطاع الأخبار والأحوال زمناً ليس بالقصير، تفاجأت بعدها برؤية صورةٍ لها، لم تُكن كباقي الصور، نظرة العين إلى الكاميرا كانت تحمل شيئاً ما لتقوله، تُخبرك بأنها تُريد أن تنال إعجابك، وتُريد منك بالمقابل أن تحكي لها "أنت جميلة"، وهذا الأمر بالذات جعل الجمال يفقد جزءاً كبيراً من ذاته، لم تُكن لي حاجة لرؤية تعليق صديقة لها على صورة أخرى بعدها "وأخيراً كسرت حاجز الخوف من الكاميرا"، كُنت أعرف مُسبقاً أن شيئاً ما كُسر، والوضوح الذي كان يتسلل بخفّة إلى النفس أصبح ثقيلاً، يقترب من الابتذال من فرط الوزن. قديما كانت رؤية صورة جديدة لها شيئاً يدفع للفرحة، مثل اللقاء بالصدفة في الطريق، أما اليوم فهو أمر عادي، يحدث يومياً، ولا يدفع إلا للحزن. هنالك خيط رفيع بين الثقة والمرض، الثقة هي أن تكون قادراً على الظهور المتّزن حينما يحين الوقت لذلك، أما المرض هو أن يُصبح الظهور بالنسبة لك هو الهدف، والآخرون بطبيعة الحال قادرون على التمييز بين الاثنين، بين أن تكون الكاميرا تحت تصرفّك، أو أن تكون أنت تحت تصرف الكاميرا، وفي هذه الأيام، تحت تصرّف الجمهور أيضاً.
2
ميلان كونديرا في روايته الرائعة "كائن لا تحتمل خفّته" يتحدث عن أنواع العيون التي تلاحق الناس، أو تلك التي نُريد لها أن تلاحقنا، تلك التي نتخيّل دوماً أنها تنظر إلينا وهي مفتوحة عن آخرها. النوع الأول من الناس يعتقد أن عيناً واحدة تلاحقه، عين محبوبة، أو شخص مقرّب، تجعلنا نراقب أنفسنا دائماً، وتجعلنا في وفاءٍ دائم تجاهه، حتى لو انقطع التواصل مع الشخص، لا ينقطع الإحساس بأنه في مكانٍ ما، يشعر بما نقوم بفعله الآن، وهذا ما يفسّر الوفاء للمحبوب الغائب، أو الميّت. النوع الثاني من الأشخاص يعرّف العيون بتلك التي يهتم لها، العائلة أو الأصحاب، لا يهمّه سوى أن ينال اهتمامهم ورضاهم. أصحاب النوع الأول والثاني يملكون نوعاً من السكينة، فتلك العيون التي تراقبهم ليست كثيرة، ومن السهل التعامل معها، فهي بكلّ الأحوال علاقات حيّة، حقيقية، ملامح يعرفونها جيّداً. النوع الثالث يهتم للعيون المجهولة، يعتقد دوماً أن هنالك مجهولين ينظرون إليه، ويهتمّون بما يقوم به، وهو بكلّ أفعاله حتى لو كانت شديدة الخصوصية، يفعلها وهو يتخيّل تلك الأعين تراقب ما يقوم به، اللاوعي لديه يُحرك تصرفاته لتتجه نحوهم، وكأنّ حياته هي عرض مستمر على المسرح، يُشعره بالحاجة لهذه العيون التي تنظر إليه، فهو بحاجة إليهم لكي تكتسب أفعاله معنى ما، فإذا قمنا بإسقاط الكاميرا من أمامه سقط المعنى من عينه. هؤلاء يعيشون حياة متوتّرة، متقلّبة، وبتسارع ملهوف لإملاء رغبة أعين من التلصص، رغبة لا تنتهي.. بل تستمر إلى الأبد، حتى لو كانت هذه الرغبة داخل عقولهم فقط.
3
عندما أقوم بتجربة وسيلة جديدة من وسائل التواصل الاجتماعي أجلس فترة أراقب الناس فيها؛ كيف يقومون باستخدامها ولماذا؟ كلّ وسيلة من وسائل التواصل تملك شيئاً خاصاً يدفع لإشباع شيء معين، مثلاً التويتر بتصميمه الذكي يُركّز على مُربع واحد، يدفعك لكتابة 140 حرفاً، يقول لك انظر إلى الأسفل، كلّ هؤلاء يتحدّثون، أنت أيضاً، عليك أن تكتب، أن "تغرّد"، هيّا.. اكتب، اكتب. عندما تقوم بفتح السناب شات، أوّل ما يظهر لك هو الكاميرا؛ لتقول لك التقط صورة. الموقع الرسمي للسناب شات يقول إن إحدى ميّزات التطبيق هي إظهار الشخص على حقيقته بدون أية تعديلات، لكن هل فعلاً هذا ما يحدث؟ إنه لا يتيح لك إمكانية نشر صورة قمت بالتقاطها سابقاً، يتيح لك فقط نشر الصورة التي ستقوم بالتقاطها الآن فحسب، وأخذ الصورة يدفع الأشخاص للتعديل من أنفسهم وليس من التعديل في الصورة، إذا كانت تهيئة الصورة من قبل غير ممكنة، فإن تهيئة النفس ممكنة لالتقاط الصورة، فالأمور التي يفعلها الشخص يُقوم بها بما يُناسب نشرها على السناب شات، فقط راقبوا أصدقاءكم وستلاحظون، هل سيقومون بما يقومون به بنفس الطريقة، لو أن الكاميرا لا تراقبهم؟
4
عندما اصطدمت بحساب نسرين طافش على الإنستغرام والسناب شات، قُلت لنفسي لولا العيب لقمت بمتابعة الحساب، ومن ثم استدركت فقلت ليس عيباً! لنتابعها. نسرين طافش التي ببالي هي صُبح في ربيع قرطبة وجميلة في التغريبة وغيرها من المسلسلات الأخرى التي جعلت من نسرين في مُخيلتي شيئاً باذخ الجمال واللطافة، واعتقدت أن الاقتراب منها سيكون فُرصة للاقتراب من المنبع أكثر. لكن ما وجدته هو امرأة تحمل الكاميرا أينما ذهبت، تصوّر كلّ شيء أمامها، يستحق أو لا يستحق، تجدها الوحيدة في المجلس التي تحمل الهاتف في يدها، كلّ شيء في حياتها تجده في حسابها. فكرة مخاطبة الجمهور والأعين الخفيّة التي تُراقب، تطلب منها أن يُبدوا آراءهم في حاجاتٍ تخصّها وهواياتٍ تريد فعلها، تتحوّل الشخصية من مؤثّر على الجمهور إلى شخصية تتأثّر بالجمهور، كُنا نجلس على التلفاز نُراقب ولا نستطيع أن نتحكم بما يحدث أو بالشخصية التي أمامنا، بينما على السناب شات يُمكننا أن نؤثر على هذه الشخصية، بل يمكننا القول إن الشخصية تتغيّر وتلبس السيناريو الذي نُريده نحن، الذي تتوقعه منّا. وسائل التواصل تتيح لنا الاقتراب من أشخاص لم نكن لندنو منهم بهذا القرب، أن نرى أدقّ التفاصيل، طريقة التفكير، ماذا يُحب وماذا يكره، ردّة الفعل، كلّ شيء. أصحاب الشخصيات المتوازنة تجد ظهورهم على هذه الشبكات قليلاً جدّاً، وفي حال كانوا من الفاعلين عليها تجدهم متوازنين أيضاً، بينما من يملكون مشاكل ما في تكوين شخصيتهم؛ يقوم العالم الافتراضي بفضحهم تماماً وتبيان عوراتهم، تعمل هذه الوسائل كمجهر تسلّط الانتباه على هذه المشاكل، وتجعلها تظهر كما لم تظهر من قبل.
5
فُلان في الواقع هو شخص خجول، محبوب ومتقبّل للآخر، لكن على الفيسبوك فُلان نفسه نجده متعصباً، عُنصرياً، يقوم بشتم الجميع ونفي الآخر، أيهم فُلان الحقيقي؟ الفيلسوف سلافوي جيجك في حديثه عن "الشخصية" يقول إن الإنسان عندما يقوم باختراع شخصية وهمية، فهو يُعبّر عن ذاته الحقيقية، فعندما يضع الشخص القناع يكون هو فعلاً! وعندما يكون الشخص على مواقع التواصل فهو يكون متحرّراً من بعض القيود وبذلك يُمكنه من التعبير عن شخصيته الحقيقية بما لا يمكنه في الواقع. لكن هل فعلاً كل الأشخاص يملكون قيوداً في العالم الافتراضي أقل من الواقعي؟ بعض الأشخاص أجدهم على العكس تماماً، القيود تزداد ثقلاً في عالم السوشيال ميديا، وبذلك يحسبون حساب كلّ ما يقومون بنشره، فتصبح شخصيتهم مُكبّلة، غير حقيقية بالمرّة. معرفة الوجه الحقيقي تكون من خلال معرفة مبدئية عن الشخص، والقيود المحيطة به، هل تزداد في العالم الافتراضي أم تقل؟ بالنسبة لي إن مراقبة الأشخاص عملية ممتعة، ومُمارسة ذهنية تساعدني على معرفة دواخل الأشخاص ومحاولة لفهم تصرفاتهم وأسبابها، فكل شيء بالنسبة لي له سبب؛ دُعاء يقوم بكتابته شخص غير متديّن في الوضع الطبيعي يعني أن أمراً سيئاً يحدث في حياته، محاولة زائدة لإظهار الحُب يعني مشكلة عاطفية بين الشخصين..أتخيّل نفسي في السينما حيث يمكنني معاينة كلّ ما يحدث، ربط العقد ببعضها البعض لاكتشاف القصّة الكاملة. قمت منذ فترة بمتابعة إيمّا واتسون رضي الله عنها وأرضاها، تلك العيون العسلية التي تميل إلى اللون البني أحياناً بهدف إعطاء غموضٍ/إغواءٍ ما على نظراتها، تجدها في العالم الافتراضي تُغريك بذات الفضول، ليس هنالك شيء مثير للاهتمام ستجده على حسابها، لن تعرف ماذا تُحب أو ماذا تكره، أو كيف تفضّل قضاء وقتها، صور قليلة جداً، بالإضافة إلى بساطتها تستطيع الإحساس بأنها لم تكن تحبّ نشرها، فتاة تعلم جيدّاً أنها مشهورة لكنّها لا تريد أن تتحوّل إلى مُمثل على السوشيال ميديا يرتدي سيناريو المتابعين، بل لها حياتها الخاصة التي لا نعلم عنها شيئاً، وهذا لعمري ما يزيدها جمالاً وكأنها تقول لنا: هنالك الكثير مما لا تعرفونه. إلى إيما واتسون نموذجنا الحي الذي لم ينكسر بعد، لك كلّ السلام.
عربي بوست