jo24_banner
jo24_banner

بعمر المكنسة !

بعمر المكنسة !
جو 24 :

الكثير من المهمّشين في مجتمعاتنا المحليّة يسعَدون بالقليل، كلماتٌ طيّبة قد تغسل قلوب الكثيرين مما علق بها من همّ أو حزن، "أفشوا السلام بينكم" هي سنّةٌ كان الأحرى بمُسلِمي الأرض كلّها أن يطبّقوها فيما بينهم.
راحَ يجرُّ غبار الشارع، تارةً يمُدُّ المكنسةَ أمامه، وكنوع من تغيير روتين التنظيف يجعلها تارة أخرى خلفه، يجرّها هويناً هويناً، تجاعيد يديه الممزوجة بالغبار تنبئ عن باعٍ طويل في غدوّ ورَواحِ في هذه الزّقاق.
في حيّ الصنوبر وعلى طول الطّريق المُسيّج بأشجار السّرو، تتناقض ظروف الحياة مع "أبو بسّام"، يبدأ صباحَهُ بأن يُفرِج عن أمنياته التي ما فتئت تنخرُ تلافيفَ مُخيّلته، ليعودَ ويدفنها مساءً في المقبرة المجاورة، حاملاً صندوقه الكرتونيّ المهترئ، بقدرِ الغبار الذي تجمّع به، ركدت ذراتُ أخرى على قلبه، فمنعته من إتمام الفرَح. "هل من سَلام؟"، هي الأمنية الوحيدة التي تجول في خاطر هذا المُسنّ، المئات يمرّون بجانبه كل يوم يُكمّمون أفواههم استياءً من غُبار المكنسة، حين عجز في كثير من الأحيان أن يرسلَ ابتسامة لمن حوله كيْ يقابلَ بمثلها، عمَدَ إلى الحائط متكئاً ومتأمّلاً طابور النّمل الأشقر الذي جاهد نفسه للصعود.
"ما حدا بسلّم عالثاني، أنا داري؟ ما هو السلام لله"، ويستدير مُطأطئاً رأسَهُ لائماً نفسه على شكواه هذه، يُشغل نفسهُ بلملمةِ أعقاب السجائر التي اتخذت لها أصعب مكانٍ يمكن أن تصِلَهُ مكنسة عامل النظافة هذا، لتزيد همّه همّاً.
"قليل ما أسمع الله يعطيك العافية يا خِتيار"، يُطلق عينيهِ بعدها في الأنحاء كأنه يلوم بنظراته صغار هذا الشارع وشبّانه، "شو بدو يخسر الواحد لو ردّ السّلام مش أنا بقد جدُّه؟"، يصمتُ برهةً ويتابعُ التقاط أعواد الثقاب التي راح يلهو بها الصغارُ ويلقونها هنا وهناك.
أكثر من خمسةَ عشرَ عاماً، حفظَ خلالها أبو بسّام الأمكنة التي يمكن أن يُلقي بها أطفال الحيّ ما ملّته أيديهم، وأين تكمن أعقاب سجائر ذاك الشّاب الذي ما عرفَ أين تقوده علبة الموتِ هذه، مع كلّ نفثةٍ ينفث بها الشباب دخان سجائرهم، يتنهّد أبو بسّام محاولاً نفثَ شيءٍ واحد فقط، أرهق مسامعه ولم يسمعها؛ "سلامُ عليك".
على تنكةِ الزّيت التي رَمتها تلك المرأة أمام بقّالةٍ لا يرتادُها أحد، جلسَ أبو بسّام يتأمّل نَعله الذي بدأ بالتّشقّق، لم يتأفّف الرّجل أو يهمس ببنت شفةٍ فتشققات الأمنيات في حياته أكبر من هذا الشقّ الذي يسهل رقعه.
"السّلام لله"، قالها عامل النظافة التي أثقلت كاهله أغبرة الزّمن قبل أغبرة الحيّ هنا، راح يتمتم علّ أحداً من المارّة تستوقفه العبارة، لم يشاركه أحد هُمومه كهذه المِكنسة التي كُسِرت عصاها مرةً تلو الأخرى فأصلحها وأكمل بها رحلة التنظيف الصباحيّة. حين تسأله عن عمره الذي قضاه في هذه المهنة؛ يلهو قليلاً بما التصق بثيابه من قشّ وغيره ويجيب: "بعُمرِ هذه المِكنَسة".

تابعو الأردن 24 على google news