ألم الظهر.. كيف تتعايش مع أكبر مشكلة صحية يعاني منها ملايين البشر؟
جو 24 :
«إنها إحدى أكبر المشكلات الصحية في العالم»، لن تجد هذا الوصف في الأغلب مبالغاً لأنك على الأرجح تعرف أكثر من شخص يعاني من هذه المشكلة، فهي وباء قديم يزداد انتشاراً مع نمط الحياة الحالي.. ولكن هناك أسباب أخرى أخطر وراء انتشاره. تمثل الجراحة والمسكنات الوسيلتين المفضلتين في التعامل مع مشكلة آلام الظهر، ولكن تقرير للكاتبة مويا سانرنر في صحيفة The Guardian البريطانية، يكشف من خلال تجربتها الشخصية عن طرق أبسط وأكثر فاعلية لعلاج هذه المشكلة. ولكن أخطر ما يشير إليه التقرير، من خليط من ممارسات فاسدة وميول مزاجية ونفسية لدى المرضى تؤدي إلى تدهور الثقافة العامة في التعامل مع مشكلة آلام الظهر، خاصة في الولايات المتحدة.
لقد سلب مني طاقتي وكل متع الحياة
منذ حوالي 18 شهراً، دقَّ المنبه في صباح أحد الأيام، واستيْقظت لأدرك أنني في معاناة، هكذا تروي الكاتبة معاناتها. تقول «كان ظهري يؤلمني، وقد حاولت التحرك والاستلقاء والجلوس، بيْد أن كل الوضعيات كانت مؤلمة. بعد ذلك، زُرت أخصائية علاج طبيعي أوصاني بها أحد الأصدقاء. لا أتذكر ما قالته لي، لكنني شعرت بوجود شخص بصدد الاستماع لي. وعلى مدى الأيام والأسابيع الموالية، تراجعت حدة الألم، على الرغم من أنني كنت لا أزال أرتعب من التحرك. وكان الألم يشتد بصفة أكبر مباشرة فوق فخذي الأيسر، لكنه تسرَّب إلى جسمي بأكمله، وقد سلب مني طاقتي وكل متع الحياة. كان الشعور بالألم والقلق أمراً مرهقاً. وقد كنت أشعر بإحباط كبير، حيث انتقلتُ من ممارسة التمارين الرياضية أربع مرات في الأسبوع إلى العجز عن القيام بشيء على الإطلاق. أردت أن أتحسن بشكل سريع للغاية، حتى أتمكن من استعادة حياتي السابقة. يوجد شيء بشأن آلام الظهر يدفعك إلى حالة من اليأس للعثور على حل سحري. ولا يمكن تصور تحمل الألم مقترناً بانتظار التحسن.
في البدء كانت الاختبارات غير الملائمة هي المشكلة
نشرت مجلة The Lancet سلسلة تحتوي على ثلاث ورقات بحثية، أنجزتها مجموعة دولية كبيرة من الخبراء الذي اجتمعوا لرفع مستوى الوعي بمدى معضلة ألم أسفل الظهر، والدليل على العلاجات الموصى بها. وقد عبّر مؤلفو هذه الورقات عن سخطهم بشأن الاستخدام واسع النطاق «للاختبارات غير الملائمة» و»العلاجات غير الضرورية وغير الفعالة والضارة». في هذا الإطار، تخبرنا الورقات البحثية أن ألم أسفل الظهر يعتبر «عرضاً شائعاً للغاية يتعرض له الناس من جميع الأعمار»، على الرغم من أنه يبلغ ذروته في منتصف في العمر، ويعتبر شائعاً لدى النساء بصفة أكبر من الرجال. ويصيب هذا الألم 540 مليون شخص حول العالم في وقت واحد، كما أنه يعد السبب الرئيسي للإعاقة في العالم. وعلى الصعيد الأوروبي، يعتبر ألم أسفل الظهر السبب الأكثر شيوعاً للإجازة المرضية الموثقة بشهادة طبية والتقاعد المبكر. ووفقاً للمكتب الوطني للإحصائيات، خسرت المملكة المتحدة حوالي 31 مليون يوم عمل، بسبب مشكلات العضلات والعظام، بما في ذلك آلام الظهر. كما قُدّرت المصاريف التي تنفقها المملكة المتحدة على آلام أسفل الظهر بحوالي 12.3 مليار جنيه إسترليني سنوياً، منها 1.6 مليار تُنفق على العلاج.
صناعة فاسدة وخالية من الأدلة بقيمة 100 مليار دولار
لم تكن هذه النتائج مفاجئة بالنسبة لكاثرين جاكوبسون رامين، المراسلة الصحفية المتمرّسة والمُتعافية من آلام الظهر. وقد نشرت رامين خلال السنة الماضية انتقاداً مثيراً لمجال علاج آلام الظهر في الولايات المتحدة الأميركية. وتجدر الإشارة إلى أن قصة رامين بدأت منذ 10 سنوات، عندما وضعت ملاحظة مُفكرتها حول «العثور على جراح عمود فقري». وتقول الصحفية إنها بدأت هذا البحث بصفتها مريضة وكانت تسعى لإيجاد حل شأنها، شأن جميع الذين يعانون من هذه الآلام. وأشارت رامين إلى أنها عانت من آلام الظهر، منذ أن كانت تبلغ من العمر 16 سنة. وأضافت رامين قائلة: «لطالما كنت أتعامل مع الألم، ولكنني لم أقدر على مواجهة المزيد منه. فقد كنت أجد صعوبة في الجلوس والمشي لمدة تتجاوز بضع دقائق». كما جاء في كتاب رامين: «اعتقدت أن علاج ظهري سيكون بسيطاً على غرار علاج معصم مكسور، وسأجد جراحاً وسيكون الأمر على ما يرام». لكن مع انطلاق رحلة بحثها عن خيارات، أخبرتني رامين أنها بدأت تجد «نقصاً في الأدلة» و»غياباً للأدلة» و»ضعفاً في الأدلة»، عندئذ بدأت بالتساؤل عما يحدث بالفعل. استغرق التحقيق الذي أجرته المراسلة الصحفية 6 سنوات، حيث بدأ في إطار محاولتها إيجاد خلاص من آلامها، لينتهي بها الأمر بالكشف عن صناعة استغلالية وفاسدة وخالية من الأدلة، تقدر بحوالي 100 مليار دولار. وقد عمدت رامين إلى وصف هذه الصناعة بشكل ملائم في عنوان كتابها: «crooked».
لكن الوضع أسوأ في الولايات المتحدة الأميركية
يُعتبر انتشار التدخلات الخطرة وغير الضرورية أسوأ بكثير في الولايات المتحدة الأميركية، خاصة مع نظام رعاية صحية قائم على التأمين مقارنة بالمملكة المتحدة. ومع ذلك، لا تعد المملكة المتحدة في مأمن. فعندما يعمل نظام الرعاية الصحية على غرار السوق، ستكون هناك لا محالة دوافع لاتباع بعض العلاجات أكثر من غيرها، ومن أجل تقديم خدمات تزيد عن الحاجة. من جهتهم، يكافح المرضى والأطباء السريريون في كل مكان لمقاومة مسكنات الألم، التي تعتبر فعالة بشكل لا يصدق على المدى القصير، حتى ولو كانت ضارة بنفس القدر على المدى الطويل. وعلى صعيد آخر، قال مارتن أندروود، المؤلف المشارك في كتابة سلسلة ورقات The Lancet البحثية، والطبيب الممارس والبروفيسور في مدرسة طب ووريك: «يعاني الجميع تقريباً من ألم في الظهر خلال مرحلة ما في حياتهم». ويتابع أندروود قائلاً: «يمثل هذا الألم بالنسبة للبعض نوبة قصيرة المدى، تتبدد خلال أيام أو أسابيع دون الحاجة إلى علاج محدد. ويبدأ الأمر بإصابتهم بشيء أو وعادة ما يكون ذلك مروّعاً. بعد ذلك، يحدث التحسن».
المفارقة أن مشكلة آلاف الظهر في ذاتها ليست خطيرة في الأغلب
وبيّن أندروود أنه من بين أولئك الذين يعانون من نوبة جديدة من آلام الظهر، سيكون لنسبة تقل عن 1% منهم أسباب خطيرة لهذه الآلام، تستوجب علاجاً محدداً لمشكلات على غرار سرطان العمود الفقري أو الكسور أو الأمراض أو العدوى. في المقابل، توجد مجموعة أخرى من الأشخاص الذين يلازمهم الألم لأشهر وسنوات، أي يتخطون الفترة الاعتيادية للشفاء التي تمتد عادة لستة أسابيع بالنسبة لمعظم الأعضاء، وهو ما يمكن أن يشكل إعاقة كبيرة. وبسبب عدم تحديد السبب الأصلي وراء هذا الألم، فإن الأطباء يصنفون هذه الحالة على أنها ألم غير محدد في الظهر، نظراً لأن سبب الألم مجهول بكل بساطة، حسب أندروود.
يبدو الأمر قديماً للغاية، فقد أثار اهتمام البشر منذ عهد الفراعنة.. واندثار علاجهم أضرنا حتى اليوم
أزعجت مسألة كيفية علاج آلام الظهر البشرية طوال الوقت. ويُعتقد أن أول نص يتمحور حول الجراحة وبقي سليماً يتمثل في بردية إدوين سميث، التي يعود تاريخها إلى حوالي 1500 سنة قبل الميلاد (تعتبر هذه البردية أول وثيقة طبية في تاريخ البشرية، ومن المحتمل أن تكون قد كتبت بواسطة الطبيب المصري أمنحوتب). وقد اقتبس ديفيد بي آلان وجوردون وادال باستفاضة تعليمات البردية حول كيفية فحص المريض وتشخيصه، لإدراجها ضمن بحثهم الذي يحمل عنوان «المنظور التاريخي لآلام أسفل الظهر والإعاقة«. عندما يتعلق الأمر بالعلاج، تضمَّنت البردية الجملة التالية: «يجب عليك وضعه ممدداً على ظهره…». في المقابل، كانت بقية البردية فارغة. ويشرح مؤلفا البحث أن سبب عدم إتمام هذه الجملة يعود إلى أن الناسخ المصري المجهول الذي نسخ نصاً أقدم بكثير انقطع، في هذه المرحلة المثيرة، عن عمله وتوفّي عقب ذلك. واليوم، بعد قرابة ثلاثة آلاف وخمسمائة سنة من نسخ هذه البردية، ندرك مدى الضرر الذي تسببت فيه الفجوات العلمية التي يمثلها الفراغ الذي انتهت به الجملة. أما اليونانيون، فقد أرجعوا آلام الظهر إلى «الرشح المتمثل في الإفرازات المائية أو الأخلاط الأربعة المتدفقة من الدماغ، لتسبب ألماً إما في المفاصل أو في أجزاء أخرى من الجسم»، وذلك وفقاً لآلان ووادال. وفي هذا السياق، كتبت رامين أنه «كان يُعتقد أن عرق النسا ينتج عن النشاط الجنسي المفرط أو غير المدروس». ولم يُكتشف احتمال صلة ألم الظهر بالتعرض إلى ضرر جسدي سوى في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بالتزامن مع الثورة الصناعية وبناء السكك الحديدية. وقد نتج هذا الاكتشاف عن وقوع سلسلة من الإصابات الخطيرة آنذاك. ولكن كاتبة التقرير تقول «منذ أن أطلعتُ على كتاب رامين، تساءلتُ حول مدى التقدم الذي أحرزه البشر في هذا الشأن.
فحتى الرنين المغناطيسي يفاقم هذه المشكلة بدلاً من أن يعالجها
تبدأ المشكلة من التصوير بالرنين المغناطيسي، وهي عملية المسح التي تعتمد على المراوحة بين الحقول المغناطيسية وموجات الراديو، لإنتاج صورة لما يحدث داخل أجسامنا. إن هذه التقنية تمثل معجزة تكنولوجياً، ووسيلة لا تقدر بثمن بالنسبة للأطباء في بعض الحالات، ولكنها في حالات أخرى تحمل معها الضرر. يفسر الدكتور أندروود الأمر بالقول: «هنالك علاقة تأثير سلبي بين التغييرات التي تحدث في صور الرنين المغناطيسي وإمكانية حضور أو غياب ألم أسفل الظهر». ورغم أن الناس الذين يكون لديهم داء القرص التنكسي يظهر هذا الأمر في صور الرنين المغناطيسي، فإنه يظهر أيضاً لدى من لا يعانون من ألم أسفل الظهر. ويقول أندروود: «بالطبع صور الرنين المغناطيسي ضرورية لمن يعانون من الأعراض العصبية للألم، والذين يمكن أن يخضعوا لعملية جراحية. ولكن بالنسبة لألم أسفل الظهر الذي لم تحدد أسبابه، فإن صور الرنين المغناطيسي قد يكون ضررها أكثر من نفعها. إذ إن هذا المسح يمكن أن يغير من سلوك المريض، لأنه سيتم إخباره بأنه يحمل ضرراً أو تمزقاً في ظهره، رغم أن أغلب الناس لديهم نفس هذه الحالة، وهو أمر طبيعي خاصة مع التقدم في السن، والجميع يعاني من هذه الأضرار». كما أن هذه الصور بالرنين المغناطيسي يمكن أن تغير سلوك الطبيب المعالج، حيث إنها تدفعه لاعتماد علاجات أكثر خطورة، عندما تظهر له صور الرنين المغناطيسي وجود شيء يمكنه معالجته.
رغم كل هذه المشكلات فإن استخدام صور الرنين المغناطيسي بشكل مكثف.. والسبب هو الجيران
تخبرنا الدراسة التي نشرتها مجلة لانست، أنه «على الرغم من أن التصوير يلعب دوراً محدوداً جداً، فإن نسبة من يخضعون له مرتفعة، حيث إنها تبلغ 39% من مجموع المرضى الذين يعانون من ألم أسفل الظهر في دولة النرويج، و54% في الولايات المتحدة و56% في إيطاليا». وتقول رامين: «السبب هنا ليس أن الطبيب المعالج يتحرق شوقاً للقيام بصور الرنين المغناطيسي، بل لأن المريض بنفسه يصر على الخضوع لهذا المسح، لأنه سمع بأن جاره أو زميله قام بهذا المسح. وأنا عن نفسي أتذكر بكل خجل أنني أنا من طلب من الطبيب الخضوع للتصوير بالرنين المغناطيسي، عندما شعرت بألم خلال العام الماضي».
والأسباب التي تقف وراء الجراحة أكثر غرابة.. وهذا هو ما قاله الأطباء عندما طلب منهم أن يطبقوها على أنفسهم
أما مسألة العلاجات التدخلية مثل الحقن والعمليات الجراحية فهي أكثر غرابة. حيث يقول أندروود إن حقن مفاصل الظهر، وهي مزيج من المخدر والستيرويد يتم حقنها في المفاصل الصغيرة الموجودة في العمود الفقري، هي أمر شائع الاستخدام في القطاعين الطبيين العام والخاص، ولكن ليست هنالك أدلة واضحة تدعم هذا الاستخدام، ورغم ذلك فإن أعداد الحالات التي تستخدم فيها في بريطانيا تزداد عاماً بعد آخر. وتقول رامين إنه في مؤتمر للأكاديمية الأميركية لجراحي العظام في سنة 2010، تم توجيه سؤال لمائة جراح، حول ما إذا كانوا مستعدين للخضوع لجراحة على العمود الفقري، في حال معاناتهم من ألم أسفل الظهر غير المحدد. وقد كانت إجابة 99 منهم هي: «بالطبع لا». أما عملية جراحة الالتحام الشوكي، التي يتم القيام بها أحياناً عند تحديد وجود داء القرص التنكسي عبر صور الرنين المغناطيسي، فهي عملية يتم فيها إزالة القرص المتضرر، ثم إعادة ربط بقية الفقرات، إما بواسطة زرع العظم أو بمسامير ولوحات مصنوعة من مادة التيتانيوم. وتقول رامين: «في أحسن الحالات، فإن جراحي العمود الفقري يتحدثون عن نسب نجاح في تخفيف الألم وعودة الحركة الطبيعية للظهر، بنسبة 38%. ولكن لو أن هذه النسب الضعيفة حدثت مع التدخلات الجراحية في الورك أو الركبة، لكان الجراحون قد توقفوا عن هذه العمليات. والأخطر من ذلك هو أنني أعتقد أن نسبة نجاح 38% في حد ذاتها تنطوي على مبالغة».
فضيحة إجراء جراحات الظهر على المهاجرين نموذج واضح للمشكلة
وفي كتابها الذي ألَّفته، وصفت رامين ما اعتبرته «فضيحة مستشفى باسيفيك» في مدينة لونج بيتش ولاية كاليفورنيا، الذي أجريت فيه أكثر من 5 آلاف عملية التحام للعمود الفقري. وتقول رامين: «كان يتم إجراء هذه العمليات على أعداد كبيرة من المرضى الذين كان أغلبهم من المهاجرين، أو العمال الذين يتحدثون الإسبانية، ويتم إرسال الفواتير إلى شركات التأمين أو إلى مؤسسات التأمين الخاصة أو تأمينات وزارة الصحة. وهل هناك عمل أكثر فظاعة من هذه المجزرة التي ارتكبت في حق هؤلاء العمال اللاتينيين، الذين لا يفهمون ما يتم فعله بهم، ويقال لهم إنهم بصدد الحصول على رعاية صحية مجانية». تقول كاتبة التقرير «نحن نميل للاعتقاد أن هذا لا يمكن أن يحدث هنا في بريطانيا». كما أن أندروود يقر بوجود فرق كبير بين النظامين الصحيين بين الولايات المتحدة وبريطانيا. حيث يقول: «أغلب جراحي العمود الفقري في المملكة المتحدة سوف يتجنبون التدخل الجراحي على ألم أسفل الظهر غير المحدد، لأنهم على علم بكل هذه المشكلات. ولكن رغم ذلك، لا تزال هناك ضغوط من المرضى أنفسهم للحصول على شيء يُشعرهم بالتحسن، ولذلك يخضعون للتدخل الجراحي في هذه الحالات. والنصيحة التي أقدمها للجميع هي: لا تخضعوا للجراحة في حالة المعاناة من ألم الظهر، إلا إذا كانت هناك مؤشرات واضحة ومحددة». وفي سنة 2017، كان اتحاد الدفاع عن الأطباء، الذي يقدم التأمين الطبي للأطباء البريطانيين، قد أعلن أنه سوف يتوقف عن تقديم التعويضات المالية عن التدخلات الجراحية للعمود الفقري، بسبب كلفة هذا العلاج.
ولكن بعض الأساليب الخاطئة تنتشر في بريطانيا
وتعتبر أزمة المسكنات في الولايات المتحدة أمراً موثقاً ومعروفاً، ورغم ذلك فإن وصف الأدوية المسكنة للآلام المزمنة يتزايد سنة بعد سنة في بريطانيا أيضاً، ويعتقد أندروود أننا نحتاج لأخذ هذا الأمر على محمل الجد. حيث يقول: «هذه مشكلة خطيرة، إذ إن هذه الأدوية المسكنة ليست فعالة على المدى الطويل مع ألم الظهر، بل إنها تجعل الأمر أكثر سوءاً في النهاية، وتحمل آثاراً جانبية كثيرة، سواء على تفكير الإنسان أو جودة حياته واحتمالات الموت بجرعة زائدة».
الحل يجب أن يكون فهماً حقيقياً لآلام الظهر.. إن الأمر يتأثر بحياتنا الاجتماعية
ومن أجل فهم الألم المزمن في أسفل الظهر، تقول رامين إن الأمر يتطلب فهماً بيولوجياً ونفسياً واجتماعياً لهذه الظاهرة، من خلال استيعاب أن هذا الألم ليس فقط بيولوجياً، بل هو أيضاً تجربة متأثرة بحياتنا الاجتماعية والنفسية، حيث تقول: «إن الجسم والدماغ متداخلان بكل الأشكال، ولا يوجد أي فصل بينهما. وأغلب المرضى الذين يعانون لوقت طويل من الألم، يفقدون القدرة على السيطرة على أجسادهم، ويشعرون بأنهم منفصلون عنها، وبأن هذه الأجساد تقسوا عليهم وتعذبهم. والهدف من العلاج يجب أن يكون تغيير هذه النظرة».
عندما يكون الألم بديلاً عن الصمت
هنالك طريقة أخرى يمكن أن يؤثر بها العقل على آلام الظهر، وذلك في حال التعرض لصدمة نفسية. حيث يقول تيم كانت، وهو مستشار المعالجة النفسية في مؤسسة «تافيستوك أند بورتمان» التابعة لوزارة الصحة البريطانية: «في بعض الحالات، يصبح ألم الظهر، في عقل المريض مرتبطاً بشكل فظيع وصادم يؤدي لإعاقة أي تطور ويؤثر على الوعي». إذ إن الإنسان يمكن أن يتعرض في مرحلة من حياته لاعتداء أو صدمة نفسية، يمتنع عن الحديث عنها ويحاول قمعها في داخلها، ولكنها تتجسد في الألم الجسدي عوضاً عن العاطفي». ويرى تيم كانت، أن الألم في هذه الحالة يصبح وسيلة للتعبير، حيث يتكلم الجسد من خلال هذا الألم. إذ إن الظهر يمثل منطقة نشاط أساسي للبنية العضلية والعظمية للإنسان، وعند حدوث أي إصابات أو أمراض في هذه المنطقة، فإن الجسم يعبر عنها بعدة طرق». في أحد المشاريع، يعمل تيم كانت مع مجموعة نساء تركيات وكرديات في قرية فلاحية، حيث يتم القيام بأعمال البستنة والعلاج في نفس الوقت. ويقول تيم كانت: «في أحيان كثيرة يأتي الناس للحديث عن الألم الجسدي، ويقولون «لا ندري إن كنا نستطيع العمل في الأسبوع المقبل، إذ إننا نعاني من آلام كبيرة في الظهر»، ولكن بعد حوالي شهر يبدأ الشخص في الشعور بتحسن، لأنه محاط بالآخرين الذين يعانون من نفس المشكلة. وفي النهاية يبدأ الناس المشاركون في التجربة بالتحدث حول الأزمات والصدمات التي سببت لهم ألم الظهر. هذا يؤدي لخفض التركيز على الأعراض، ويجعل الناس يركزون أكثر على المضي قدماً، وعيش حياتهم بشكل طبيعي. وبالتالي التخلص من سطوة الألم الذي كان يخيم على حياتهم».
الخوف من الألم أصل الشرور.. والحلول بسيطة
فكرة الخوف من الألم تفسر كل التصرفات، إذ إن الشخص المصاب يبدأ بتجنب أي حركة أو المشاركة في أي نشاط، وذلك خوفاً من الألم، وهذا يجعل نشاط الجسم يقل، وبالتالي تزيد الآلام، وهكذا يبدأ الإنسان بالخوف من الحركة، ويجد نفسه عالقاً داخل دوامة سلبية. والخروج من هذه الدوامة، يكون من خلال تعلم تقنيات إدارة الحياة، وهي المساعدة التي يمكن تقديمها للمريض. ويقول أندروود إن البديل للجراحات والمسكنات يتمثل في تقديم الأطباء لدعم أكبر وخدمات أفضل للمرضى، من أجل التعايش مع الآلام، متمثلة في خدمات المساعدة الذاتية؛ مثل تشكيل مجموعات لتعلم تقنيات واستراتيجيات لمجابهة التحدي المتمثل في العيش مع الألم بشكل يومي. يقول أندروود: «إذا كان الناس يعانون من ألم فظيع يعيق نشاطهم اليومي، وإذا كانت الوسيلة الوحيدة المقدمة من الأطباء هي المسكنات قوية التأثير، فإن الاعتماد على هذا الحل سوف يتواصل. خاصة في ظل غياب أي استراتيجيات لتشجيع المرضى على التعامل بأنفسهم مع الألم، عوضاً عن المسكنات».
إذا كنت تعاني من ألم أسفل الظهر، هذا ما عليك فعله
تظهر رامين ثقة كبيرة في الدكتور ستيوارت ماكجيل، الذي ابتكر ثلاثة تمارين فعالة للحفاظ على توازن محور الجسم، قدمها بروفيسور البيولوجيا في جامعة ووترلو في أونتاريو بكندا. تقول: «هذه التمارين تمكنك من إراحة العمود الفقري، تحسين عمل العضلات وتحسين السيطرة على حركة العضلات من أجل ضمان استقرار العمود الفقري في كل الأنشطة اليومية، التي يقوم بها الإنسان. ويجب القيام بهذه التمارين بشكل يومي». كما تمارس رامين أيضاً طريقة «فيلدين كرايس»، وهو أسلوب يجمع بين الحركات والتنفس واستقامة الجسم وحضور الذهن. وقد ساعدها هذا على تحسن حالتها، وبعد أن كانت تكافح من أجل المشي لبضع دقائق، أصبحت تسير ميلين اثنين كل يوم. ولذلك تقول اليوم: «لست من النوع الذي يطلق الأحكام بسرعة، ولكنني أعتقد أن العلاقة التي استمرت طويلاً بيني وبين ألم الظهر انتهت اليوم».
لكن البعض يرى أن كثيراً من الأساليب لم تفعل شيئاً والحقيقة أن هناك سبباً أبسط وراء الشفاء
عندما سئل أندروود حول الأساليب النافعة، قال: «أي شيء تفعلونه مع المريض عندما يعاني من ألم الظهر الفظيع، فإنه على الأرجح سوف يجعله يشعر بتحسن بعد مرور 3 أسابيع. ولذلك فإننا نعالج الناس ونلاحظ تحسنهم، ونعزو ذلك التحسن للعلاج الذي قدمناه لهم، ولكننا في الواقع نعلم أن هنالك شفاء طبيعياً يحدث بمرور الوقت، وهو أكثر أهمية من العلاجات التي نقدمها. ولكن هناك أدلة قوية على فوائد بعض العلاجات التي يقدمها الطبيب، مثل أسلوب العلاج المعرفي السلوكي، والعلاج بالتمارين والعلاج الفيزيائي. كما اشتغل أندروود أيضاً على تجربة أظهرت أن تدريب الأطباء على تقديم العلاج المعرفي السلوكي بشكل جماعي، والمراوحة بين الحركات وتمارين إعادة الطمأنينة عند الحركة، هي أساليب تساعد المرضى، ويمكن لوزارة الصحة البريطانية تقديمها بكلفة منخفضة.
تظل أفضل وسيلة للعلاج هي تخليصهم من هذا الوهم
ولكن ربما يكون أفضل شيء يمكن تقديمه للمرضى، هو تحدي الافتراض القائل بأنه إذا كان ظهرنا يؤلمنا فإن هناك مصدراً لهذا الألم في أجسادنا، ويمكن كشفه وتحديده والتدخل جراحياً عن طريق الحقن لإصلاح المشكلة. إذ إن هذه الفكرة برمتها خاطئة تماماً، حيث تقول رامين، إن الحقيقة هي أن «ألم أسفل الظهر هو مشكلة متعدد الأوجه، ومصدره الحقيقي هو الوضعيات التي نواجهها في حياتنا، وحالة أجسادنا والعوامل الاجتماعية المحيطة بنا». وعوضاً عن البحث عن طبيب قادر على جعل الألم يختفي، نحن نحتاج لأن نكون على وعي بأن الألم أحياناً يجب أن يكون جزءاً من حياتنا، وأفضل حل له هو مواصلة النشاط البدني بالطريقة الصحيحة، من أجل التمكن من إدارة الضغوط والحفاظ على حياة طبيعية. ومثل كل أنواع الألم المعقد، فإن السعي لتجنب هذه الحقيقة أو البحث عن أدوية للهروب منها، وإيهام أي شخص بأن هذا الألم يمكن شفاؤه، هو مغالطة ستجعل الأوضاع أكثر سوءاً. ربما يكون هذا العلاج هو السر الذي لم يتمكن إدوين سميث من كتابته على ورق البردي قبل أن يفارق الحياة. ولكن حتى لو كتب هذه النصيحة، فإننا ما كنا لنستمع لها، حسب كاتبة التقرير. إذ تقول: «إنني أنظر للأشهر الثمانية التي عانيت فيها من ألم الظهر، على أنها فترة مظلمة من حياتي، كنت خلالها خائفة من ألا تنتهي، وأشعر باليأس، وبأنني على شفا الانهيار». وتضيف: «أنا اليوم ممتنة جداً، لأنه لا أحد قدَّم لي الحقن أو التدخل الجراحي أو المسكنات، لأنني في تلك الحالة كنت سأقبل بأي شيء يقدم لي، وأدفع أي مبلغ لأتخلص من الألم. لقد شفي ظهري، ولكن الأمر استغرق أكثر مما أخبرني به الجميع.