حديث في مستقبل مصر..
الحديث عن مصر هذه الأيام يمس أوتار القلب رغم أنه يخاطب العقل . فما يجري في مصر ولمصر أمر لا يخص المصريين فقط كونه سوف يتجاوز في آثاره حدود مصر ليشمل العالم العربي بأسره. وكل حاكم مصري لم يفهم ذلك أو يقبل به ساهم في إضعاف مصر وتقزيم دورها العربي والإقليمي . فعظمة مصر الكامنة تظهر فقط عندما تلعب الدور الذي اختاره لها التاريخ وعززته الجغرافيا كمرجع للحضارة ورائدة للتقدم وحامية للوطن العربي وليس أي شيء آخر.
إن ما يجري الآن في مصر هو صراع حقيقي بين مفهوم الشرعية الدستورية واستقلال وحيادية هوية الدولة ومؤسساتها وبين المحاولات المستترة والمعلنة لنظام الحكم الحالي لأخونة الدولة وليس لأسلمتها في المفهوم العام، وتحويلها بالتالي إلى امتداد لحركة الإخوان المسلمين الحاكمة في مصر الآن من خلال ذراعها السياسي وهو حزب الحرية والعدالة .
الشرعية الدستورية في الأنظمة الديمقراطية تفترض تداول السلطة بالوسائل السلمية ولكنها لا تسمح بتداول الدولة ومؤسساتها من خلال قيام الحزب الحاكم بصبغ الدولة ومؤسساتها باللون العقائدي الخاص به . إن أي محاولة لاستعمال الشرعية الدستورية كعذر لتغيير هوية الدولة وتحويل مؤسساتها إلى امتداد لمؤسسات الحزب الحاكم تُعتبر في أصولها محاولة لاستعمال تلك الشرعية كأداة انقلابية للاستيلاء على الدولة نفسها وكخطوة تؤدي بالنتيجة إلى إلغاء التداول السلمي للسلطة وحصره في حزب معين أو اتجاه سياسي بعينه . إن الشرعية الدستورية تعطي مالكها حق تطبيق السياسات والبرامج الاقتصادية والاجتماعية المعلنة والتي تعبّر عن نهجه الذي انتخب بموجبه، ولكن ذلك لا يعطيه بالمطلق حق المساس بهوية الدولة ومؤسساتها.
الشرعية الدستورية سلاح قوي جداً في يد من يحمله خصوصاً في بلد مثل مصر التي طالما عبّر شعبها عن احترامه لتلك الشرعية. وهذا الموقف ساهم إلى حد كبير في استقرار الحكم في مصر ومكّن حكاماً مثل أنور السادات من هزيمة معارضيه الأقوياء والمتنفذين كونه يتمتع بالشرعية الدستورية . ولكن ما من أحد من حكام مصر منذ عام 1952 حاول أن يستعمل الشرعية الدستورية كوسيلة لإعادة تشكيل هوية الدولة ومؤسساتها باعتبارها امتداداً لحزب ما . والأحزاب المفتعلة في حقبة عبد الناصر مثل الاتحاد القومي والاتحاد الاشتراكي العربي وحقبة السادات ومبارك مثل الحزب الوطني الديمقراطي ، كل تلك الأحزاب كانت هامشية في الحياة السياسية المصرية ولم تشكّل في أي مرحلة من مراحلها خطراً حقيقياً على هوية الدولة وحياد مؤسساتها .
إن اعتبار بقاء نظام الحكم واستمراره كهدف أسمى للدولة حتى لو أدى ذلك إلى انهيار تلك الدولة، هو الفلسفة التي ميزت حقبة ما قبل الربيع العربي . أما تكييف هوية الدولة والاستيلاء عليها من قبل الحزب الحاكم فهو ممارسة سمة لا تبتعد كثيراً عن ما كان في حقبة ما قبل الربيع العربي اللهم إلا باستبدال القائد الفرد الملهم بالحزب الواحد الملهم .
إن الأنظمة الديكتاتورية التي سادت في معظم أرجاء العالم العربي تحولت مع الوقت من أنظمة حكم إلى عصابات سلب ونهب وقتل إلى أن أدت ثورات الربيع العربي إلى التخلص من معظم تلك الأنظمة، ما يجعل العودة لها من الشباك أمراً مناقضاً لتطور الأمور ومعادياً للمزاج الشعبي العام الطامح إلى التغيير الديمقراطي .
ممارسة السياسة بالتسلل صفة لازمت السلوك السياسي لحركة الإخوان المسلمين في نشاطهم السياسي الخفي والمعلن في أكثر من بلد عربي . ونتيجة لذلك نجح الإخوان المسلمون في اختطاف ثورات وحراكات الربيع العربي في مصر وليبيا وتونس والأردن. والأكثر من ذلك أن هذا قد مكنّهم من تزوير التاريخ من خلال الإدعاء بأنهم هم من قاموا بتلك الثورات أصلاً . وقد تميَّزت الإدارة الإخوانية للحكم في مصر باللجوء إلى القرارات المفاجئة المبنية كوسيلة للتسلل السياسي . وفي الحالات التي تغيب فيها القدرة على استغلال الشرعية الدستورية ، يصبح التسلل السياسي أداة هامة خصوصاً إذا ما كانت الأهداف المنوي الوصول إليها لا تحظى بقبول شعبي عام أو لا تنسجم مع أسس الإجماع الوطني بما في ذلك رغبة الرئيس في الحكم بمرسوم متجاوزاً بذلك الحدود والضوابط الدستورية .
تُرى هل تسير الأمور في مصر الآن وضمن المعطيات المنظورة نحو مأزق يؤدي إلى أحد خيارين: أخونة الدولة أو انقلاب عسكري؟ الثورة قامت أصلاً للتخلص من ديكتاتورية العسكر والنظام السياسي الممثل للمؤسسة العسكرية، ومن غير المعقول أن يكون الطريق الوحيد للخلاص من دكتاتورية إسلاموية إخوانية ، يجري العمل الآن على مأسستها وشرعنتها ، فقط عن طريق عودة ديكتاتورية المؤسسة العسكرية من خلال انقلاب. خياران أحلاهما مر .
ولكن هل ينتظر الجيش المصري قراراً من جهة ما حتى يتحرك ؟ من المستبعد أن يتدخل الجيش المصري وأن يقود انقلاباً على حكم الإخوان إلا استجابة لمطالب شعبية قوية وصريحة وواضحة تطالبه بذلك . وهذا على ما يبدو لن يتم إلا عندما يتأكد الشعب من أن نظام الحكم الإخواني مُصِّرٌ على الاستمرار في استغلال الشرعية الدستورية وأساليب التسلل السياسي من أجل اقتناص الدولة ومؤسساتها. الجيش المصري لا يريد انقلاباً دون غطاء شعبي قوي وواضح لئلا يصبح الجيش هو العدو المستهدف . الإخوان المسلمون يعلمون ذلك ولا يحاولون الاستفادة من الفرصة الزمنية التي يوفرها هذا الجمود المفروض على موقف الجيش للبدء في حوار وطني كونهم لا يؤمنون بذلك .
واستمر الإخوان في برنامجهم الخاص بهم دافعين الأمور أكثر وأكثر في اتجاه الإقصاء والتأزيم السياسي وتغيير هوية الدولة . وهذا الوضع يعني أن بقاء الإخوان في حكم مصر قد يكون مناسباً بل ومناسباً جداً للقوى الدولية المهتمة بإنهاك الدولة المصرية وإضعافها .
مشكلة الإخوان المسلمين أنهم لا يؤمنون بفكرة المشاركة السياسية مع الآخرين ويعتبرون ذلك انتقاصاً من حقهم وحصتهم . فالإخوان لا يبحثون عن حوار وطني ، فهم يتخذون القرارات ثم يدعون إلى حوار وطني لمناقشتها. ومن هنا رفع المصريون شعار "الحوار قبل القرار". كما أن الإخوان المسلمين في مصر لا يريدون حواراً إسلامياً – إسلامياً والدليل على ذلك موقفهم السلبي من شريكهم في الانتخابات حزب النور السلفي. الإخوان يريدون ويقبلون فقط بحوار إخواني – إخواني ، أي حوار مع الذات وفي هذا قمة الانغلاق السياسي والنهج الأحادي والإقصائي للآخرين .
إن استحالة تقسيم مصر إلى دويلات نظراً لعدم توفر الأرضية اللازمة لذلك قد أعطى هدف إنهاك وإضعاف الدولة المصرية أولوية واضحة لدى القوى الراغبة في ذلك . وهذا الهدف لا يمكن الوصول إليه إلا من الداخل وبأيدي مصرية لأن أي تدخل أجنبي لتحقيق هذا الهدف سوف يثير قوى الشعب المصري المختلفة ويوحدها لمقاومته . وسياسة أخونة الدولة وإقصاء القوى الأخرى يخلق التربة المثالية لإضعاف الدولة المصرية. فالخلافات الداخلية قد أدت إلى احتجاجات وقلاقل أضعفت الاقتصاد المصري إلى حد الخطر . كما أن سياسة الإقصاء والمحاولات المتكررة للاعتداء على مدنية الدولة المصرية وإعادة صياغة دستورها بما يتناسب ورغبات الإخوان المسلمين، والتشكيل الإقصائي لمجلس الشورى جعل من الخلافات السياسية وتفاقمها أمراً محتوماً.
الإخوان المسلمون كما هو معروف لا يهتمون بالهوية الوطنية والقومية لأنها لا تنسجم مع فلسفتهم الأساسية. وهذا ينسحب على الوطن أرضاً ومصادر وعلى رموز التراث التاريخي والثقافي والإنساني فيه . وهكذا ، فإن ما يدور من أحاديث عن سياسات وقرارات واقتراحات تتضمن في الحقيقة تفريطاً بالوطن أو أجزاء منه لا يمكن تفسيرها إلا إذا من خلال فهم الموقف السلبي لحركة الإخوان المسلمين من الهوية الوطنية والقومية . وما يُشاع الآن عن توجه الحكم في مصر لتأجير مواقع أثرية هامة مثل الأهرامات إلى مستثمرين أجانب أبرزهم قطر ، والحديث الغامض عن عدم قدرة الدولة المصرية على تنمية صحراء سيناء وحفظ أمنها والاقتراح القاضي بتأجير أجزاء منها إلى مستثمرين أجانب، وكذلك الحديث الدائر الآن عن بيع أيقونة الإعلام المصري وهي مبنى الإذاعة والتلفزيون لدولة قطر ، كل هذا يأتي في سياق ذلك . واستعمال الفيروس القطري لإنهاك جسم الدولة المصرية يبدو أنه يأتي منسجماً مع أهداف وخطط دولية لإضعاف مصر تتقاطع مع مرونة واضحة من قبل حركة الإخوان المسلمين الحاكمة تجاه العديد من القضايا المتعلقة بالهوية الوطنية خصوصاً وأن إيمان حركة الإخوان المسلمين بعالم إسلامي يفوق بدرجات أي إيمان لها بعالم عربي .
إن حركة الإخوان المسلمين التي تضم في قيادتها مجتمع رجال الأعمال الإسلاميين تؤمن بأولوية المصالح الاقتصادية على المصالح الوطنية ، ولا تعتبر أن هنالك أي محرمات وطنية بل محرمات دينية فقط . وهكذا ، فإن المرونة التي يظهرها نظام الحكم الإخواني في مصر تجاه إسرائيل ، وتساهله تجاه القضايا الوطنية ، يقابلها تشدد واضح في التزامه بالقضايا الشرعية . وقد ساهم ضعف وتشتت القيادات المصرية المُمَثلِة لقوى المجتمع المدني وأهمها جبهة الإنقاذ الوطني في تقوية عزيمة حركة الإخوان المسلمين في سعيها لأخونة الدولة المصرية وبسرعة .
lkamhawi@cessco.com.jo