الشهيد "مصبّح".. طفل بعقل الكبار
عم الصمت أرجاء الفصل وبدت علامات الصدمة والحزن على وجوه نحو 30 طفلًا داخله؛ فصديقهم "الطيّب" ناصر عزمي مصبّح لم يحضر اليوم، وحلّ محله إكليل ورد يحتضن صورته، ومُصحف شريف، بعد أن أنهت حياته رصاصة إسرائيلية أمس أثناء تظاهره سلميًا قرب الحدود الشرقية لخانيونس جنوبي قطاع غزة.
كان جميع الأطفال يُحدّقون بصورة زميلهم، التي وضعها مُعلمه على مقعده في الصف السادس بمدرسة "عبد الكريم الكرمي" ببلدة عبسان الكبيرة، بعدما علّق الدراسة، وخط على السبورة: "حداد على روح الشهيد ناصر مصَبح".
واستُشهد سبعة مواطنين أمس برصاص قوات الاحتلال خلال مشاركتهم في مسيرة العودة شرقي القطاع، بينهم الطفل "ناصر"، الذي أصيب برصاصة في رأسه، والطفل محمد الحوم (14عامًا)، ليرتفع عدد الشهداء الأطفال منذ انطلاق المسيرات في 30 مارس/ آذار الفائت إلى 34، من بين 193 شهيدًا.
الطفل الهادئ ذو الوجه البشوش كان يحفظ القرآن الكريم كاملًا، وماهر في رياضة "الكونغ فو"، وعُرف عنه مشاركته في مسيرات العودة، ومساعدته شقيقاته اللواتي يعملنّ مُسعفات متطوعات، لعلاج المُصابين.
"الصديق الأخ"
ضياء أبو خطي (12عامًا)- صديق الشهيد- لم يصدق حتى اللحظة أنه لن يَر زميله في الفصل بعد اليوم، فهو بمثابة شقيقه الذي يساعده في دروسه، وكان بينهما موعد في بيت "أبو خطي" اليوم، لكن القَدَر كان له رأي آخر.
ويقول "أبو خطي" لمراسل وكالة "صفا": "ناصر أخي وصديقي، اخترته لأنه كان يحفظ كتاب الله ومتفوق دراسيًا. كان يُساعدني. صوته جميل في القرآن، وجريء في الحديث، ولديه علم ودين، ويجيد الخطابة، وكان كريمًا يتبرع دائمًا للمحتاجين في المدرسة".
"الاحتلال يقتل الأطفال لأنه يخشى أن نكبُر ونتعلم ونطور من أنفسنا ونمتك تكنولوجيا نحاربه بها؛ لا ذنب ارتكبه صديقي ليُقتل بهذه الطريقة، لكن ردنا على الاحتلال هو التمسك بأرضنا وحقنا التي ذهب صديقي لاستعادتها"، يضيف الطفل.
"الصديق الوحيد"
شارك الآلاف في تشييع جثمان الشهيد، وكان مُسجًا على "حمّالة" طبية يتدافع الشبان لحمل جسده النحيل، وكانت الورود تغطي جثمانه، ويعلوه مُصحف شريف.
بين حشود المُشيعين وقف الطفل محمد جهاد (12عامًا) يبكي بحُرقة، فهو جاء لرؤية صديقه الوحيد للمرة الأخيرة، لكنه لم يتمكن من ذلك بسبب كثافة الحضور، فحمله أحد الشبان للأعلى لرؤية صديقه من بعيد، وزاد في بكائه عندما لم يتمكن من وضع قُبلة على جبين "ناصر" كما أراد.
ويقول "جهاد" لمراسل وكالة "صفا" وهو يُكفكف دموعه: "ناصر صديقي الوحيد لأنه صاحب أخلاق ومؤدّب. لم أره منذ يوم الأربعاء حينما عُدنا إلى البيت على دراجتي من المدرسة. رأيت صورته شهيدًا على مواقع التواصل، لكنني لم أُصدق وجئت إلى هنا لأتأكد".
متفوق ومُسعف
دعاء مصبح (18عامًا) شقيقة الشهيد تقول وهي تستقبل النسوة المُعزيات إنّ شقيقها ذكي ومتفوق يحفظ القرآن، ولديه عديد شهادات التقدير، وله نشاطات عديدة في المدرسة "لأن عقله يكبر سنه".
وتوضح دعاء- التي تعمل مسعفةً متطوعةً في مسيرات العودة- أن شقيقها رافقها أمس، كما كل جمعة، وكان يحمل بيده عبوة "محلول ملحي"، لمساعدة الجرحى، وعند انتهاء المسيرة انتظرته ليعودا سويًا إلى المنزل فلم تجده.
في تلك الأثناء، تردد في مخيم العودة شرقي خانيونس حديث عن طفل شهيد مجهول الهوية، وعندما شاهدت صوره، لم تتمالك نفسها، فأخذت في البكاء وهي تجري باتجاه المستشفى لرؤيته.
وتضيف لمراسل كالة "صفا"، "لم نُصدق ما حدث، لأن ناصر طفل، ولا يحمل سوى المحلول بيده، وهو ظاهر بالعين المجردة للاحتلال أنه طفل أعزل".
وتتابع شقيقته "هو كأي طفل سلبوا طفولته، وحرموه الحياة الآمنة الكريمة، هناك الكثير من أمثاله على الحدود يطلبون الإحساس بطفولتهم بعيدا عن الاحتلال".
أما والدة الشهيد فلم تتمالك نفسها، وتردد على لسانها كلمات: "حسبنا الله ونعم الوكيل، الله ينتقم من اليهود اللي أخذوه مني".
لم يُمسك الطفل خلال عُمره القصير سلاحًا بيده، لكنه كان يحلم بالعودة إلى وطنه السليب، وهذه تهمة تستحق القتل في عُرف الاحتلال.