بعدما ابتكرنا أفضل الوسائد والمفارش ما زلنا لا ننام جيداً.. علماء: الإرهاق التكنولوجي الزائد «يطيّر» النوم من العيون
جو 24 :
يعرف الأهالي جيداً أن الإرهاق الزائد يعطل النوم لدى الأطفال، ولكن ما بدأ الأطباء يتداركونه مؤخراً، أن هذه اللحالة تنطبق حرفياً على الكبار في عالم الاتصال الدائم بالتكنولوجيا. تتذكر نيرينا راملاخان عندما كانت ابنتها طفلة صغيرة، وكيف كانت لا تستطيع النوم إذا زاد إنهاكها. وتقول لصحيفة The Guardian: «كان هناك مستوى صحي من التعب. ولكن إذا تجاوزت هذا المستوى، عندئذٍ لا تستطيع النوم عندما تذهب إلى السرير». فالإرهاق الزائد عند الأطفال الصغار حالة يعترف بها جميع الأطباء حول العالم، ولكن يبدو أنها أكثر شيوعاً بين البالغين. نيرينا راملاخان أهلٌ لمعرفة ذلك؛ فهي اختصاصية نفسية في علم النوم، وترى بازدياد أشخاصاً يُذكِّرونها بابنتها الصغيرة عندما كانت أصغر.
دقائق الراحة المعدودة باتت معدومة
من مفارقات عالمنا الحافل المعقد عالي التقنية، أنَّنا نبدو أمام سلوكٍ نعرفه جيداً ونعرف كيف نتعامل معه في الأطفال، ولكننا نفشل بطريقةٍ ما في التعامل معه عند البالغين. يتفق خبراء النوم في أن الإرهاق الزائد يرجع إلى الانشغال الدائم.
إذ قالت راملاخان، مؤلفة كتاب The Little Book of Sleep، إنَّ أيامنا السابقة كانت تتضمن أوقاتاً ثابتة نتوقف فيها عن العمل طبيعياً؛ ومن ثمَّ تمنحنا أوقاتاً قصيرة لنرتاح. أمَّا اليوم، فقد اختفت أوقات الراحة تلك من حياة معظمنا. وقالت: «أصبحنا مجتمعاً مشغولاً دائماً، وهذا يثقلنا بالمزيد من المطالب عندما نذهب إلى النوم ليلاً». واعتبرت أن الإنسان المعاصر فقد الطقوس والممارسات التي كانت تمنحه راحات قليلة في أثناء اليوم.
عند أي فرصة نتفقد الهاتف الذكي ليلاً ونهاراً
ففي الماضي، كان المرء يذهب إلى المتجر، وفي حين يقف منتظراً بالصف، يحلم أحلام يقظة، أو يشعر بالقليل من الملل، أو ينظر حوله. أما الآن، فإذا حصل على أي فسحة مثل هذه، فسيملؤها بالنظر في هاتفه للرد على بعض الرسائل الإلكترونية.
قد تظنُّ أنك تستغل الوقت في شيء مفيد، ولكن العقل لا يترجم الأمر على هذا الأساس. فهناك وظائف عصبية معقدة تتطلب استراحات من المهام والتركيز، وإذا كان العقل في حالة تأهب مستمر، فإنه يصبح منهكاً. وتقول راملاخان إنَّ التأهب المستمر يُصيب الدماغ بحالةٍ تُسمى وضع النجاة، وفيها يفترض الدماغ دائماً أنَّ هناك شيئاً ما سيئاً على وشك الحدوث. يزيد عندها من إفراز الأدرينالين، ويصدر نداءً عاجلاً لتناول وجبات خفيفة غنية بالسكر، كي تمده بالطاقة السريعة.
وكلما شعر الدماغ بالتأهب صعب عليه النوم
ولا ينتهي الأمر هنا، فإذا كان دماغك مبرمجاً على التطلع إلى الشيء القادم ليفعله، وعلى عدم التوقف -ولو للحظات- من أجل الراحة، فسيزداد النوم في الليل صعوبةً بالتدريج. وكأننا تقريباً نفقد قدرتنا على التخلي عن المشاغل، والنوم هو التخلي الأكبر، وتصفه راملاخان بأنه سلوك قائم على الثقة.
وتقول: «هناك رغبة متزايدة في مواصلة العمل والمضي قدماً فيه، ويظهر هذا في أنماط نومنا كذلك. يقول لي أشخاصٌ إنهم يشعرون وكأنهم على حافة النوم طوال الليل. ويستيقظون في الصباح منهَكين. ويقولون إنهم يستيقظون باستمرار في الليل ولا يستطيعون العودة إلى النوم. من الطبيعي أن نستيقظ في الليل، ولكن في معظم الأحيان، نعود إلى النوم».
ما هي العلامات التي تشير إلى أنك منهَك؟
إذا كنت تستلقي على السرير ليلاً فتجد عقلك ما زال منشغلاً بما كان يحدث طوال اليوم، فقد يكون الإنهاك هو السبب.
أمَّا في أثناء النهار، فقد تواجه صعوبات في التركيز أو استيعاب الأمور ككل في حياتك العملية وحياتك الشخصية.
قد تصاب بالعديد من نزلات البرد.
تكون سريع الانفعال، وتجد نفسك تتوق إلى الوجبات السكرية لتتمكن من مواصلة اليوم.
القهوة ليست حلاً لاستكمال بقية اليوم بنشاط
فيك فير هو استشاري أنف وأذن وحنجرة ومتخصصٌ بمشكلة توقف التنفس في أثناء النوم. ولكنَّه أصبح نوعاً ماً خبيراً في النوم؛ لأن العديد ممَّن يستشيرونه يتضح أنهم يعانون مشكلات مختلفة في النوم، ومن بينها الإرهاق الزائد، على حد اعتقاده.
وقال فيك فير: «يتمثل الأمر في النضال من أجل العيش بمعدل نوم أقل مما تحتاج إليه حقاً». ويقصد فيك، الناس الذين يشربون القهوة بانتظام في الصباح ليوقظوا أنفسهم، والبعض قد يلجأ إلى الكحول في المساء؛ ليفصلوا عقولهم عن المشاغل من أجل النوم. أولئك هم الأشخاص الذين يبدو بالكاد يمضون يومهم بفاعلية؛ يعتقدون أنه إذا استهلكت كمياتٍ كبيرة من المادتين، فسيعتادها الجسم. لكن في نهاية الأمر، كل ما ينتج هو أناس منهكون ومتعَبون، وبالكاد ينجحون في استكمال نهارهم.
إذاً، مَن هُم الأشخاص الأكثر عرضة للإنهاك الزائد بالتحديد؟
من المهم تهذيب علاقتنا بالتكنولوجيا إذا ما أردنا النوم جيداً/ Istock
يقول فير إن الإنسان في الثلاثينيات والأربعينيات من عمره، على وجه التحديد، يكون أكثر عرضة للإنهاك. إذ عادةً ما يكون لديه الكثير من المشاغل في حياته، ويشعر بأنَّه مُطالَب بمواصلتها مهما كان الطريق عسيراً.
ويكون أقل قدرة من الأشخاص الأكبر في السن على أخذ فواصل وأوقات راحة في أيامه؛ ولديه سقف توقعات مرتفع لحياته الاجتماعية والمهنية كذلك. لذا يقضي نهاراً حافلاً في المكتب، يتبعه مساءٌ مشغول في مقابلة الأصدقاء أو استكمال ما بقي من العمل. وحتى عندما يذهب إلى النوم في المساء، يتذكر البرنامج التلفزيوني الذي يتحدث عنه الجميع، ولم تتح له الفرصة لمشاهدته عندما عُرِض على التلفزيون. لذا يقرر قضاء ساعة أخرى لمشاهدة البرنامج، ثم برنامج آخر، وقبل أن يطفئ الأضواء، يمسك بهاتفه مرة أخرى؛ للاطلاع على الرسائل والأخبار الجديدة سريعاً.
البشر قلبوا هرم الأولويات وقرروا الاستغناء عن النوم
لا عجب حينئذٍ في فشل كل محاولات النوم؛ إذ قالت آنا سيموندس، استشارية الأمراض النفسية السريرية البريطانية: «إننا نقلب تسلسل ماسلو الهرمي للاحتياجات». في عام 1943، وضع عالم النفس الأميركي أبراهام ماسلو المتطلبات الفسيولوجية، ومن بينها النوم والطعام والماء والمأوى، في قاعدة هرمه. ووضع تحقيق الذات، مثل السعي وراء السعادة ومطاردة الأهداف واستخدام المواهب، في قمة الهرم. واليوم تعتبر سيموندس أننا نقلب المثلث؛ إذ نضع الأولوية للعناصر الأعلى ولا نكترث بالعناصر الواقعة في الأسفل. وفي حين يصعب علينا مواصلة حياتنا من دون طعام أو ماء أو مأوى، قررنا الاستغناء عن النوم. ولكن، لا يمكن فعل ذلك، والإرهاق الزائد هو إحدى العلامات على أننا لا نسير في الإتجاه الصحيح.
رغم أننا نملك أفضل المفارش والوسائد على مر التاريخ لكن الإرهاق الزائد يعطل النوم
ومن التناقضات، أنَّ هناك عارضاً آخر منتشراً في المجتمع، يتمثل في الهوس المجتمعي بالنوم، على حد قول راملاخان. تقول: «ننام في ظروف أحسن من أي وقتٍ مضى، ونعرف عن النوم أكثر من أي وقت مضى، ولدينا مفارش أفضل، ووسائد أكثر راحة».
إذاً، فالمشكلة ليست بوسائل النوم المادية؛ بل في عدم قدرتنا على مجاراة وتيرة اليوم. والأساس هو في إدراك أن بعض أمور الراحة بالليل تتحدَّد بالفعل في أثناء اليوم، لا سيما وقت المساء.
ولتستعيد تلك الساعات الغالية من النوم، هكذا تتجنب الإرهاق الزائد؟
تقول سيموندس إننا نحتاج إلى النظر في كيفية تعاملنا مع هذه الحالة في الأطفال واستخدام الحكمة نفسها بحياتنا الخاصة. وأضافت: «نحن جيدون في معرفة ضرورة الحد من الوقت الذي يقضيه الأطفال أمام الشاشة، ولكننا لسنا جيدين في هذا بما يكفي مع أنفسنا». ويوصي فير باتباع أساليب النوم الصحية، خاصةً التوقف عن شرب القهوة في النصف الثاني من اليوم، وعيش حياة هادئة مثل الأطفال تماماً. وتقول راملاخان إنه يجب أن نشرب المزيد من المياه أيضاً، والتوجه إلى السرير مبكراً على الأقل 3 مرات في الأسبوع، وليكن في الساعة 9:30 مساءً على سبيل المثال. ومن المهم أيضاً تهذيب علاقتنا بالتكنولوجيا لتكون صحية أكثر. فنحن جميعاً رغم كل شيء، ما زلنا في سن الطفولة بالعالم الرقمي، مثلنا مثل الأطفال الذين لا يعلمون متى يتوقفون عن تناول الشوكولاتة. لَم نتعلم كمجتمع بعدُ متى نقول: «لا، لسنا متاحين دائماً»، والإرهاق الزائد ما هو إلا غيضٌ من فيض العواقب.