jo24_banner
jo24_banner

ما خفي من «جبل الجليد» وما ظهر

عريب الرنتاوي
جو 24 : تشبه مهمة جون كيري في المنطقة “جبل الجليد”، ما يظهر منها على سطح الإعلام، أقل بكثير مما يخفى..وهذا ما يصرح به المسؤولون الأمريكيون على أية حال..نحن لا نفتري على أحد، ولا نضرب بالرمل..فالفلسفة التي يعتمدها الرجل تستلهم على ما يبدو، منطوق الحديث الشريف: “استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان”.

كيري يريد مفاوضات مباشرة، تبدأ من عمان، وبمشاركة أردنية نشطة، وربما حول مائدة التفاوض هذه المرة، وليس من غرف المراقبة والتتبع..والدبلوماسية الأردنية لا تمانع في ذلك كما تشي بعض التسريبات والتلميحات، فالأردن على عجلة من أمره هو الآخر، وهو طالما حذّر من “نفاد الوقت والفرص”.

في سبيل استئناف المفاوضات، ومن دون شروط مسبقة، يجهد الوزير الأمريكي في الضغط على السلطة من أجل شطب “شرط وقف الاستيطان” لاستئناف المفاوضات..هذا التدهور الصادم في الموقف الأمريكي خلال الولاية الثانية للرئيس أوباما، يضع السلطة أمام خيارات صعبة، بل ويضع الأردن والعرب جميعاً، أمام خيار صعب..فهو تنازل مجاني / افتتاحي، تقدمه هذه الأطراف نظير مفاوضات عبثية، نعرف متى تبدأ ولكننا لا نعرف أبداً، متى تنتهي وما هي مآلاتها.

في المقابل، لا بأس من ممارسة “ضغوط رقيقة” على الجانب الإسرائيلي من مثل: تسهيل انسياب أموال الضرائب الفلسطينية إلى خزينة السلطة دون عوائق أو تأخير (رشوة الفلسطينيين من جيوبهم)..وربما الإفراج عن دفعة من المعتقلين والأسرى..وثمة تسريبات (عن تسيبي ليفني) تشي بأنه لا بأس من إسقاط شرط الاعتراف الفلسطيني بـ”يهودية الدولة”، وإن كنا لا نعرف حتى الآن، ما إذا كان إسقاط هذا الشرط، بغرض التمهيد لاستئناف المفاوضات أم لإنجاز “الاتفاق النهائي”، وثمة فارق جوهري بين الأمرين.

الضغوط الأمريكية لا تقف عند هذا الحد فقط..فمقابل “حفنة من إجراءات بناء الثقة” القابلة للسحب والإبطال في أية لحظة، والتي لا تسمن ولا تغني من جوع، ثمة “تنازل جوهري” يتعين على 57 دولة عربية وإسلامية، أن تقدمه لدولة العنصرية والاحتلال والاستيطان مقدماً..الاعتراف بإسرائيل وتطبيع العلاقات معها، و”ترشيق” مبادرة السلام العربية بإسقاط البند الخاص باللاجئين الفلسطينيين، على عجره وبجره..وسوف يستطلع وفد لجنة المتابعة العربية الذي سيزور واشنطن قريباً، ما الذي تريده واشنطن من إحياء المبادرة العربية، أو بالأحرى، أية بنود من المبادرة، سيجري إحياؤها.

والحقيقة أننا أُصبنا بـ”نقزة” ونحن نتابع الحماس المفاجئ الذي هبط على القادة العرب في قمة الدوحة، وهم يتحدثون في بيانها الختامي عن المبادرة الميتة وضرورة بعثها من جديد، كان ذلك قبل جولة كيري وزيارة أوباما..وقد قلنا في حينه، وفي هذه الزاوية بالذات، بأن مشروع “ترشيق” المبادرة العربية الذي سقط في قمة تونس قبل سبع سنوات عجاف، يُراد إحياؤه في الدوحة، وتحت ستار كثيف من دخان الأزمة السورية المشتعلة، وبمشاركة قادة دول الربيع العربي الذين أشبعوا إسرائيل وأنظمتهم المتخاذلة شتماً، وتركوا أمر الإبل للنظام العربي القديم والمتهالك.

إسرائيل التي نجحت في “طي الرئاسة الأمريكية تحت جناحها” في موضوع الاستيطان الزاحف على الأرض والحقوق والمقدسات، تنتقل اليوم إلى مستوى أعلى في توظيف الثقل الأمريكي الوازن، لتعبيد طريقها للتطبيع مع 57 دولة عربية وإسلامية، وإسقاط قضيتي القدس واللاجئين من جدول أعمال المفاوضات مع الفلسطينيين، مع إبقاء منفذ ضيق للغاية لمقاربة ملف القدس من زاوية المقدسات الإسلامية ورعايتها، لا أكثر ولا أقل..وهي استبقت جولة كيري الثانية للمنطقة، بالإعلان صراحة، أنها لا تنوي تسليم الجانب الأمريكي خرائطها للحل النهائي ولا جداول زمنية للجلاء عن الأراضي المحتلة.

إنها قصة نجاح إسرائيلية بامتياز، يجري تغليفها بكثير من الحديث عن “عملية السلام” و”خيار التفاوض” و”إنقاذ المقدسات”..إنها الأجندة العبرية، وقد جرت ترجمتها إلى الإنجليزية (بلكنة أمريكية) لا تخفى على أحد..أنه “أمر جلب” للفلسطينيين، يقوم “المُحضِر” جون كيري بتسليمه للأطراف الفلسطينية والعربية، والمؤسف أن ثمة دلائل كثيرة، تشير إلى أن هذه الأطراف ستوافق على ما يطلب منها، ودائما بمظلة عربية جاهزة لتوفير “شبكة أمان” وتعبيد الطريق ذي الاتجاه الواحد: طريق تقديم المزيد من التنازلات.

ولا تقف جهود السيد الأمريكي عند هذا الحد..فالمرحلة تستوجب بعث الحلف الاستراتيجي التركي – الأمريكي..ألم يقل كيري من أنقرة، بأن تركيا يمكن أن تكون وسيطاً في عملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين..في دلالة على رغبة الولايات المتحدة، في استنقاذ ما يمكن إنقاذه من تحالفاتها المستقرة في هذه المنطقة الهائجة بكل رياح التغيير والفوضى والحروب المتنقلة..وقد لا يمضي وقت طويل، قبل أن تنتقل موائد التفاوض، من عمان إلى أنقرة، بعد أن تكون الأولى قد مهدت الطريق، وجعلت الصعب ممكناً.

أما عقدة حماس و”المقاومة” عموماً، فلم تعد عصية على التذليل والاحتواء..فالمحور الذي كان بمقدوره أن يشهر”الفيتو” في وجه مثل هذه المحاولات والمشاريع، يترنح اليوم تحت طرقات الأزمة السورية الممتدة بامتداد الإقليم، والمقاومة التي غادرت محورها وخنادقها، ستجد في حلفائها الجدد من القاهرة إلى أنقرة مروراً بالدوحة، من سيدفعها في ـ”الاتجاه المعاكس”، تارة تحت عنوان “التهدئة الطويلة” وأخرى سعياً في البحث عن الشرعية، وثالثة تحت هاجس الانقسام الفلسطيني الداخلي وصراع الإخوة الأعداء..ورابعة لمواجهة تداعيات الضائقة المالية والحصار، وخامسة وسادسة وسابعة.

يبدو أن كيري “تفاجأ” باستعدادات بعض الأطراف العربية للقيام بما تعذر على واشنطن القيام به مع الفلسطينيين..فدفع طموحاته إلى الأعلى ورفع سقف توقعاته هو بالذات، مستفيداً من خروج سوريا من المعادلة، وعزلة إيران وحصار حزب الله..وبدل أن يأتي بـ”أقل من مبادرة..وأكثر من إجراءات بناء ثقة” كما قلنا ذات يوم، نراه يسعى في إغلاق هذا الملف نهائياً، وبما تشتهيه سفن إسرائيل وشهيتها المفتوحة لابتلاع الأرض والحقوق و”العاصمة الأبدية الموحدة”، وخمسة ملايين لاجئ فلسطيني.


(الدستور)
تابعو الأردن 24 على google news