ماجد عبدالهادي: لا يمكن أن تكون صحافيا متميزا إذا لم تكن عاشقا للمعرفة حاملا للهم العام شغوفا بالقراءة
جو 24 :
نلتقي اليوم في حوار مع موقع "تواصل" الداخلي لشبكة الجزيرة مع زميل نبت في حضن القضية الفلسطينية، وعاش أحوالها، وشرب من مشاربها. تنقل بالعيش بين عدة دول عربية بعد نكبة 1948، وهو يعتقد بأن الصحافة تقوم على عشق المعرفة والقراءة والالتحام مع هموم وأحلام الناس. عايش انتفاضة فلسطين، وسقوط بغداد، وموقعة طورا بورا، وحمل الزميل طارق أيوب شهيداً إلى أهله.
الزميل ماجد عبد الهادي، المنتج التنفيذي للأخبار بقناة الجزيرة، يحدثنا عن تفاعله مع الحدث عند تغطيته من الميدان وصوغه من غرفة الأخبار.
حدثنا عن طفولتك والمكان الذي ترعرعت فيه!
هذا سؤال صعب إلى درجة تجعلني أظن بأني لا أملك جواباً واضحاً عليه. إنه يستدعي أولاً تحديد الزمن أو الفترة التي كنت فيها طفلاً، وهو أمر ممكن دونما شك إذا اكتفينا باحتساب سنوات العمر ومراحله مقياساً، لكنه يغدو مستحيلاً في حال اعتبرنا ظروف الطفولة معياراً. ما أريد قوله إني كنت واحدا من جيل فلسطيني صودرت طفولته، بفعل النكبة، ومنذ أبعد لحظة في ذاكرتي، كان مطلوباً مني أن أتصرف كرجل، لديه مسؤوليات عن أشقائه الأصغر سناً، وينعقد عليه رهان الأسرة، لإنقاذها حين يكبر.
ولدت في مخيم الدهيشة قرب مدينة بيت لحم، وقادني ترحال أهلي، من بعد، إلى العيش في مناطق عدة من فلسطين والأردن وسورية ولبنان. ذلك على قسوته، وفر لي كما أظن فرصة معرفية مبكرة، تمثلت أساساً بتوافر الصحف والمجلات السياسية، وأحياناً الكتب، التي ازدهرت إصداراتها مع ظهور وتمدد المقاومة الفلسطينية بعد حرب حزيران 1967. هناك، في الحقيقة، تشكلت بواكير وعيي، ومن تلك التجربة المبكرة ما زلت أستمد حتى الآن إصراري على الدفاع عن المظلومين والمضطهدين، ما استطعت إلى ذلك سبيلا.
حدثنا عن مسيرتك التعليمية والمهنية قبل الجزيرة؟
بدأت حياتي الجامعية بدراسة الطب، وبعد مرور سنتين اكتشفت أني ما لهذا خُلقت، فتحولت إلى علم الاجتماع، بالتزامن مع انفتاح الأبواب أمامي للعمل في إحدى المجلات الأسبوعية الفلسطينية. وقد كان ذلك بداية مشوار تخللهم لاحقاً اكمال دراستي للحصول على دبلوم الصحافة، وهو مشوار مهني امتد خمسة عشر عاماً، عملت خلالها في الصحافة المطبوعة، محرراً، ومراسلاً، وسكرتير تحرير، ثم رئيس تحرير، كما عملت لفترة وجيزة مراسلاً ومعداً للبرامج في قنوات فضائية عربية. أما الجزيرة فقد انضممت إلى مكتبها في رام الله عام 1999 وأنجزت من هناك عدة أفلام وثائقية، كما شاركت بتغطية الانتفاضة الفلسطينية الثانية، في الضفة الغربية وقطاع غزة، قبل أن أنتقل عام 2001 إلى المقر الرئيس في الدوحة.
قمت بتغطيات هامة وحساسة في تاريخك المهني، حدثنا عن أبرزها واذكر لنا أحد المواقف التي كان لها عظيم الأثر عليك؟
لكل تغطية ميزاتها المختلفة عن سواها، وسؤالك يجعلني أحس كما لو أنني ذلك الأب الذي سئل يوماً؛ "أي أولادك أحب إليك؟"، فأجاب بالقول: "الصغير حتى يكبر، والمريض حتى يبرأ، والغائب حتى يعود".
نعم شاركت في تغطية كل الأحداث الكبرى التي عصفت بالعالم خلال العقود الثلاثة الماضية، وأبرزها الانتفاضة الفلسطينية عام 2000 والحرب في أفغانستان عام 2001 والحرب على العراق عام 2003، إضافة إلى ثورات الربيع العربي خلال السنوات الثمان الماضية. وإن أنسى من هذه التجارب وسواها شيئاً، فلن أنسى ما حييت لحظة سقوط بغداد أمام الغزو الأميركي البريطاني. كان زميلنا طارق أيوب قد استشهد يوم السابع من مارس عام 2003، ومع تهاوي آخر أسوار العراق، في اليوم التالي، كنت أحمل جثمانه وأغادر إلى عمان، في ظروف أمنية مروعة، وإحساس هائل بالهزيمة التي سنكتشف لاحقاً أن تداعياتها لن تقف عند ذلك الحد، وسنراها تتكرر بأشكال مختلفة على مدى خمسة عشر عاماً لاحقة.
ما أكثر شيء تستمتع به وتحبه في عملك والتحديات التي قد تواجهك في عملك وكيف تتغلب عليها؟
في بداية عملي مع الجزيرة لم تكن تشدني وتستنفر طاقتي مهمة مثل العمل الميداني، لاسيما تغطية الحروب التي شهدتها المنطقة والعالم خلال العقد الأول من الألفية الجديدة، وأعني على وجه الخصوص الانتفاضة الفلسطينية الثانية، وبعدها الحرب في أفغانستان، ثم الحرب على العراق، لكني عرفت في زمن لاحق متعة مهنية تضاهيها، إن لم تتفوق عليها، وذلك حين أسهمت، من داخل غرفة الأخبار، في تغطية ثورات الربيع العربي. هناك، أي في غزة ورام الله وطورا بورا وبغداد، كنت ألهث وراء الخبر، وتحت القصف، يغمرني شعور بأني شاهد على منعطفات تاريخية خطرة، وهنا في هذه القاعة التي تطل نوافذها مجازاً على ميادين تونس والقاهرة وطرابلس وصنعاء ودمشق، توفرت لي فرصة رسم صور الأحداث، على مهل، وبما أستطيع من عمق يربط الحاضر بسياقه، ليستشرف آفاقه، على وقع هتافات ملايين العرب الذين حلموا بالانعتاق، وديسوا بجنازير دبابات الثورات المضادة. أما الآن، حيث أتولى الإشراف على البرامج السياسية الإخبارية في قناة الجزيرة، فأجد نفسي يومياً أمام تحد أساسي أعشقه، ويتلخص في محاولة استثمار كل ما سبق من خبراتي ومعارفي للوصول إلى إنتاج متميز في أهميته وعمقه ورشاقته.
ما هي الرسالة التي تود توجيهها لزملائك في الجزيرة؟
لست في موقع يؤهلني لتوجيه سوى رسائل الود لهم جميعاً، والاعتزاز بإسهامي المتواضع إلى جانبهم، في بناء هذا الصرح العملاق، وما أحرز من إنجازات دفاعاً عن حقوق الإنسان، وفي مقدمتها حق الحرية، خلال ما يزيد على عشرين سنة مضت. أما إن كنت تلح على أن تنتزع مني إيجازاً لخلاصة تجربتي الشخصية والمهنية، فإن أول ما يخطر على بالي هو أن هذه المهنة تعطيك بقدر ما تكون مخلصاً لها؛ أنت لن تكون صحافياً متميزاً إذا لم تكن في الأصل عاشقاً للمعرفة، مهموماً بالهم العام، شغوفاً بالقراءة، وقادراً على تذوق الكلمات، وهضمها كي تجري من بعد مثل الأوكسجين في دمك، ثم تعيد صوغها مجدداً، وقد تضمّخَت ببعض روحك، وبكثير من هموم وأحلام الناس الذين تكتب عنهم.
كثيرون يقولون حين يسمعون رأيي هذا: "كأنك تتحدث عما هو أكثر من احتياجات تقرير صحفي، لتقترب من حدود الأدب" وذاك في الحقيقة استنتاج صحيح، لا أنفيه، بل يهمني أن أؤكده، بقدر ما يهمني أن أؤكد جدواه أيضاً، بناء على خبرة شخصية تقول إن هذا النمط من العمل الصحفي يلامس حاجات وحساسيات غالبية الناس المطحونين بالفقر والقمع والاضطهاد في بلادنا، ناهيك عن قناعتي بأن الكلمة مسؤولية، وأن الصحافة ينبغي أن تضطلع بدور تنويري، يتجاوز حدود النقل البارد للأحداث، من دون أن يحيد بالطبع عن شروط الدقة والنزاهة والموضوعية