الهاشميون والفلسطينيون والاحتلال الإسرائيلي : القدس العربية ، إلى أين؟
الحديث الدائر في الأوساط السياسية الأردنية ، بمناسبة وبدون مناسبة ، والمتمحور حول العلاقة الأردنية – الفلسطينية أصبح مع مرور الوقت جزءاً من الحياة السياسية في الأردن. تلك العلاقة تعرضت لرياح السموم مرات عديدة إلى أن استقرت بعد التقارب الذي حصل مؤخراً على مستوى القيادات ، التي كانت أصلاً من أبرز أسباب تسميمها . ولقد فاضت تلك الحقبة من العلاقات المتوترة وتداعياتها بالعديد من المصطلحات الفضفاضة التي تعكس وجود أزمة ما ، لم يرغب أحد بالاعتراف بوجودها، مثل : "الأصول والمنابت"، "الوحدة الوطنية" ، "الحقوق المنقوصة" ، "الحقوق المكتسبة" ، "الوطن البديل" ، "المكون الفلسطيني"، "المحاصصة" ، "المواطنة" ، إلى آخر ذلك من مصطلحات تتعلق تحديداً بالأردنيين من أصل فلسطيني، وكذلك الفلسطينيين عموماً ، لكن دون الإقرار بذلك . وقد جاء توقيع اتفاقية الوصاية الهاشمية على الأماكن المقدسة في القدس بين ملك الأردن ورئيس السلطة الفلسطينية على خلفية هذا الوضع السائد في الساحة السياسية الأردنية بمثابة مفاجئة للعديدين.
وقد أثار ذلك تساؤلات عن سبب عدم إعطاء محمود عباس الوصاية للأردن وهو البلد الشقيق والتوأم عوضاً عن إعطائها للهاشميين وهم العائلة المالكة الحاكمة في الأردن . والفرق بين الإثنين كبير، خصوصاً وأن الوصاية لها مدلولات عديدة منها الدينية ومنها السياسية وتغوص في أعماق مفاهيم أساسية أهمها السيادة الوطنية، مما كان يستوجب أن تُعطى للأردن كبلد شقيق وليس لعائلة حاكمة تسعى إلى تعزيز شرعيتها الدينية ، هذا إذا كان لا بد من حصول ذلك التنازل أصلاً .
كان لتوقيع محمود عباس رئيس السلطة الفلسطينية بإسمه وإسم الفلسطينيين (من خلال إشارته إلى صفته كرئيس لمنظمة التحرير الفلسطينية) على اتفاقية الاعتراف بالوصاية الهاشمية على الأماكن المقدسة في القدس وقع الصاعقة على رؤوس معظم الفلسطينيين. ولم يستطع أحد أن يفهم نقطتين أساسيتين: الأولى، لماذا أصلاً وما هي الأسباب الموجبة ؟ والثانية ، لماذا الآن؟ خاصة أن هذا الإعلان جاء عقب زيارة أوباما للمنطقة ، وعشية زيارة وزير الخارجية الأمريكي جون كيري الأخيرة مبشراً باستئناف مفاوضات التسوية وليس الحل العادل أو السلام العادل. وحتى الآن لم يتبرع أحد بالإجابة على هذين السؤالين أو أي منهما، سواء من الجانب الفلسطيني أو من الجانب الأردني، وكأن هنالك اتفاق بينهما على أنه في مثل هذه الحالات فإن الصمت هو سيد الأحكام .
ومن بين الأسئلة الأخرى التي أثارها التوقيع سؤال حول ما إذا كان محمود عباس يملك سلطة توقيع مثل هذه الاتفاقية بصفته الأخرى كرئيس للسلطة الفلسطينية التي لا تتمتع بالسيادة على الأراضي الفلسطينية المحتلة ومنها القدس . وإذا كان الوضع كذلك فإن فاقد الشيء لا يعطيه ومن لا يملك السيادة لا يستطيع التنازل عنها للآخرين حتى ولو كانت سيادة دينية ، اللهم إلا إذا كانت الغاية تبرر الوسيلة وبموافقة كل الأطراف بما في ذلك أمريكا وإسرائيل والعرب بهدف تنازل الفلسطينيين مبكراً عن حقهم في السيادة على القدس.
ولو أن توقيع مثل هذه الاتفاقية جاء في ظروف أخرى وتحت نور الشمس بدلاً من عتمة الظلام ، ولو تم إيضاح الأسباب والمسببات والأهداف الحقيقية ، لربما رحّب البعض بها واعتبروها خطوة لتوفير دعم إضافي لحماية الحقوق الفلسطينية وليس تشتيتها وسلبها. لكن الحال ليس كذلك .
الهمس الدائر الآن في أوساط سياسية أردنية رفيعة المستوى يتعلق بالتحضيرات التي تجري في الأردن لصرف جوازات سفر أردنية بأرقام وطنية لسكان القدس العرب بالإضافة إلى جوازات سفرهم الإسرائيلية. ويجيء ذلك بعد قرار القمة العربية العجيب الغريب المريب الذي لا يمكن تفسيره بحسن النية ، والقاضي بتأسيس "صندوق القدس" برأسمال قدره مليار دولار، وكأن القادة العرب اكتشفوا فجأة أن هنالك قدس عربية محتلة. ذلك القرار كان مدعاة لقلق الكثيرين نظراً لتوقيته وحصره بمدينة القدس المحتلة وليس بالأراضي الفلسطينية المحتلة، بالإضافة إلى أنه جاء بناء على مبادرة قطرية، مما أثار مخاوف الكثيرين من أن هنالك أمراً ما لا يمكن وصفه بالجيد أو الايجابي يجري التحضير له للإطاحة بالحقوق الفلسطينية في القدس.
وهكذا تتضح بعض ملامح ما يمكن أن ندعوه بالعدوان الجديد على القدس. القدس هي عنوان المرحلة المقبلة ، وتصفية الحقوق الفلسطينية في القدس ستكون المدخل لتصفية القضية الفلسطينية تماماً ، كما ستكون اتفاقية الوصاية الدينية بمثابة حصان طروادة الذي سيتم من خلاله إعطاء القيادة الأردنية دوراً فاعلاً وعلنياً في تحديد مستقبل القدس وبالتالي مستقبل وطبيعة التسوية بشكل عام .
إن إدخال الأردن كطرف في المعادلة يعني تقليصاً فعلياً للدور الفلسطيني وانتقاصاً من وحدانية حق منظمة التحرير الفلسطينية في تمثيل الشعب الفلسطيني والمطالبة بالحقوق الوطنية الفلسطينية كاملة . ودخول الحكم الأردني حلبة التفاوض يعني أن هنالك أكثر من طرف يفاوض الإسرائيليين إلى جانب الفلسطينين . وبالرغم من الحقيقة المرًّة بأن كل الأطراف تعمل تحت المظلة الأمريكية وبتوجيهاتها ، إلا أن هذا الوضع يجب أن لا يشكل مبرراً للتنازل المبكر والمجاني عن الحقوق الوطنية الفلسطينية أو أجزاء منها. كما أن الأموال العربية في صندوق القدس قد تستعمل لتسهيل هذه المهمة من خلال تطويع أو تليين الإرادة الوطنية لسكان القدس العرب وصمودهم ومحاولة ضمان تعاونهم مع أي مخطط خفي لتسوية موضوع القدس ضمن الرؤيا الإسرائيلية والأمريكية خصوصاً وأن عرب القدس سوف يكونوا رعايا إسرائيليين ورعايا أردنيين في الوقت نفسه . أما السلطة الفلسطينية فستبقى في أحسن الأحوال من سكان ضواحي القدس وضيفاً غير مرحب به .
إن فتح الباب أمام دور أردني نشط وعلني في التفاوض على تسوية ما للأراضي الفلسطينية المحتلة قد يكون هو السبب وراء اتفاقية الوصاية والتي قد تتبعها اتفاقيات أخرى يجري الإعداد لها الآن بصمت . والوصاية الأردنية على الأماكن المقدسة سوف تجعل أي تسوية لموضوع القدس تسوية عامة تهدف إلى تحويل الحقوق السياسية للفلسطينيين في القدس إلى حقوق دينية للأردن وتحويل سكان القدس من فلسطينيين إلى أردنيين . وهكذا تخرج فلسطين ومعها الفلسطينيون من المعادلة المقدسية تماماً وبأيدي عربية. وهذا سوف يسهل الحل على إسرائيل لأنه قد يحصر الحق الفلسطيني والعربي والإسلامي في القدس في الأماكن المقدسة فقط، والحق السياسي للفلسطينيين في ضواحي القدس والكل يستطيع أن يعطي سكان القدس العرب الصفة التي يريد. فالإسرائيليون سوف يصنفونهم أحياناً كأردنيين وبالتالي هم ضيوف لا حقوق سياسية لهم، وأحياناً أخرى كإسرائيليين عندما يتعلق الأمر بالضرائب ورخص البناء والتملك. وفي النهاية تبقى الحقيقة المُرّة بأن لا أحد سوف يدعوهم بصفتهم الأصلية كفلسطينيين . فالأردن يريدهم أردنيون، وإسرائيل تريدهم تحت أي صفة إلا الصفة الفلسطينية. وهويتهم المقدسية الفلسطينية سوف يتم سحقها بين الجواز الإسرائيلي والجواز الأردني.
نحن إذاً أمام تقاسم وظيفي له مدلولات سياسية خطيرة والمدخل هو القدس. أما مفتاح المؤامرة والتآمر على مستقبل الأمة العربية والقضية الفلسطينية فهو إمارة قطر التي تقود المسيرة الآن برعاية أمريكية لخدمة القضية الإسرائيلية.
التقاسم الوظيفي في الحالة الفلسطينية يهدف إلى الالتفاف على مفهوم وحدانية السيادة الفلسطينية على الأراضي الفلسطينية من خلال تقاسم مهام السيادة ، إن وجدت، بين أكثر من طرف ، إما على طريق تقسيم الأدوار والمهام أو عن طريق الإلحاق . فالتقاسم الوظيفي هو أحد الأشكال المتطورة للحكم الذاتي وهو نقيض السيادة والاستقلال. واستعمال هذا الاصطلاح يُجَنِّبْ من يستعمله فخ الوقوع في مسميات قد تكون غير دقيقة أو قد يكون من المبكر حسم طبيعتها وصفتها مثل الفدرالية أو الكونفدرالية.
من هنا تبرز خطورة التنازل عن السيادة على الأماكن المقدسة ، لأنها تعطي آخرين الشرعية من قبل صاحب الحق والولاية (وهو الطرف الفلسطيني) للعب أدوار قد لا تكون منسجمة مع التطلعات والأهداف الوطنية الفلسطينية .
تأتي اتفاقية الوصاية على الأماكن المقدسة في القدس منسجمة تماماً مع ما ورد في اتفاقية وادي عربة وهي بذلك لا يمكن أن تكون في صالح الحقوق الفلسطينية أو منسجمة معها . فالنص الوارد في اتفاقية وادي عربة والذي يقبل الأردن بموجبه اعتراف إسرائيل بدوره ، أي الأردن، في الإشراف على الأماكن المقدسة في القدس يشكل بحد ذاته اعترافاً أردنياً ضمنياً بسيادة إسرائيل على القدس العربية . وانسجاماً مع ذلك نحن الآن بانتظار مباركة إسرائيل العلنية أو الصامتة للاتفاقية الموقعة بين الملك عبدالله الثاني ومحمود عباس حتى تستكمل تلك الاتفاقية مداها الحقيقي وتصبح منسجمة تماماً مع اتفاقية وادي عربة. وبذلك يصبح مصير القدس بين ثلاثة أطراف هم الأردن وفلسطين وإسرائيل وتحت مظلة اتفاقية وادي عربة وضمن سقفها ومحدداتها .
إن أكثر ما نخشاه هو أن يتم تنفيذ خطط مثل الفدرالية أو التقاسم الوظيفي أو الوطن البديل بإرادة الحكام وليس بإرادة الشعوب ورغباتها . وهذا يعني أن على كل من يريد أن يحارب هذه الأفكار التي سوف تدمر الحقوق الفلسطينية عليه أن يعرف لمن يوجه سهام النقد. فالشعوب غير معنية بتسهيل مهمة الاحتلال الإسرائيلي وتسهيل مهمة القضاء على الحقوق الوطنية الفلسطينية ، مثلما أن الفلسطينيين غير راغبين بل وغير قادرين على تنفيذ مؤامرة الوطن البديل . القادرون على ذلك هم الحكام وليس الشعوب، ومحاولة إلصاق هذه التهمة بالشعوب هي اجتهاد خطير يخفي نوايا أقل ما يمكن وصفها بأنها عنصرية وظالمة. الفلسطينيون هم الضحايا الحقيقيون لمؤامرة التقاسم الوظيفي أو الوطن البديل ومحاولة إلصاق هذه التهم بهم إنما هي في الواقع محاولة لتبرئة تورط آخرين في هذا المسار.
مرة أخرى يركض العرب والسلطة الفلسطينية إلى الحضن الإسرائيلي سواء عن وعي أو بدون وعي.
عروبة القدس في خطر، والقضية الفلسطينية في خطر أكبر، وعلى الجميع الانتباه.
القدس العربي