لبنان: لماذا على المواطن احراق نفسه من أجل تعليم أولاده؟!
لم نسمع أن والد تلميذ في المدرسة الرسمية قد احتجّ، أو استعطى، أو عانى لأسباب مالية تتعلق بتعليم ابنه أو ابنته. هذا يحصل في المدارس الخاصة التي أنشئت أساساً بهدف الربح. والمواطن الغبي هو الذي يصدق أنها مؤسسات لا تبغي الربح. لكن هل هذا حق لها؟ نعم. لقد استثمر أصحابها أموالاً في بنائها وتأهيلها، ومن حقّهم جني ربح مقابل ذلك، لكن ليس من حقهم الكذب على الناس بأنهم لا يبغون الربح. (أعرف صاحب مدرسة خاصة في الجنوب يدفع كل قسط مكسور عن أي تلميذ. لكن أمثاله ندرة نادرة). لكن السؤال الذي على كل مواطن طرحه: أين المدرسة الرسمية التي لا يدفع الأهالي مقابل تسجيل أولادهم فيها سوى بضع ليرات؟ تلك المدرسة التي خرّجت أجيالاً متعلمة ومثقفة في الستينات والسبعينات من القرن الماضي، أين اختفت (كمستوى)؟! ولماذا ما زالت تعاني آثار الحرب بكل سلبياتها؟ كون الوزارة رأس الهرم الإداري، فهي المسؤولة الأولى عن تدني مستواها التعليمي وفوضى إدارتها. فالمدرسة الرسمية التي كانت تضم أكثر من 40% من تلامذة لبنان في بداية التسعينات أصبحت تضم 29% فقط منهم. لماذا؟ هل أزعج المسؤولون التربويون أنفسهم وسألوا: لماذا؟ لا. لن يفعلوا ذلك لأنهم هم المساهمون في تدمير المدرسة الرسمية، لذلك لن يزعجوا أنفسهم بالدفاع عنها.وهذه هي الأسباب:
- لقد حوّل النافذون وأصحاب القرار السياسي المدرسة الرسمية ليس إلى معهد تربوي، بل إلى مكان لتوظيف الأقارب والأنصار والمحازبين. وعندما يتمّ توظيفهم فمن الصعب أن تتمّ مساءلتهم لأن مرجعياتهم السياسية أعلى وأقوى بكثير من أولياء الأمور أو مشرف تربوي أو مفتش. وأحدهم كان يصدر قرارات يومية يعفي بموجبها معلمين من التدريس لسنة كاملة!
- لقد أُنفق الكثير من المال على تحسين أداء المدرسة الرسمية بعد الطائف، وحصل أن مبلغاً شاركتُ في التوقيع عليه مع البنك الدولي في واشنطن عام 2001 يساوي 106 مليارات ليرة لبنانية مخصصة لتحسين الإدارة المدرسية، وتدريب المعلمين، وتجهيز المدارس الثانوية بالكومبيوترات، وتدريب عدد من المسؤولين الإداريين في الوزارة. لقد صُرف المبلغ من دون أي مراقبة، والنتيجة: تراجع مستوى المدرسة الرسمية ونسبة المنتسبين إليها (من 35% إلى 29%)، ولم تتم مساءلة أي فرد من الذين أشرفوا على صرف هذا المبلغ أو استفادوا منه. فهل تجرّأ التفتيش وسأل سؤالين فقط: أين ذهب المال؟ وكيف؟ وقد شجّع إنفاق هذا القرض بهذه الطريقة اللامسؤولة على صرف مبالغ طائلة أخرى تمّ التبرع بها إلى التربية ما بين 2005 و2008، من البنك الدولي والدول الأوروبية، وأيضاً لم يزعج مسؤول واحد نفسه بمساءلة من صرف المال: كيف صرفه، وما هو الفرق الذي حققته هذه المبالغ في مستوى التعليم الرسمي.
- يتم تعيين مديرين في المدارس بحسب انتماءاتهم الحزبية- الطائفية لأن الأحزاب عندنا والحمد لله أصبحت دينية. وتلك غير الدينية لا مكان لها في التربية وغير التربية. وهذا المدير يدين بولائه لحزبه وليس لمصلحة المتعلم في مدرسته، وليس للعمل التربوي المفترض مشاركة الهيئة التعليمية فيه. ومعظم إدارات المدارس الرسمية باتت على هذا الشكل.
- الجميع ينسى من أعلى الهرم إلى أسفله أن هذا التلميذ (أكان غنياً أم فقيراً) هو سبب وجود المدرسة والمعلم والمدير والمفتش والمدير العام والوزير. لكن هذا التلميذ الموجود في المدرسة الرسمية -لظلم القدر- هو أخر من يُفكَّر فيه وبمصلحته من قِبل الجميع. هذا واقعنا، ودعونا من الخطابات الرنانة التي يتحفنا بها المسؤولون في كل مناسبة تربوية.
هل يعلم المسؤولون أن من يرسل اولاده إلى المدرسة الرسمية إنما يفعل ذلك لأن ليس لديه مال لدفع القسط في المدرسة الخاصة؟ أي باتت هذه المدرسة خياره الوحيد حيث تتلقف معدومي الحال الذين إذا تحسن وضعهم الاقتصادي قليلاً أسرعوا بنقل أولادهم إلى المدرسة الخاصة. وقد يعلق أحدهم بأنني أبالغ وأن هناك مدارس رسمية جيدة. نعم. هناك من أصل 1400 مدرسة رسمية 100 مدرسة جيدة أو 200. لكن ماذا بشأن المدارس الباقية؟ هل سيلتفت إليها أي مسؤول؟ نعرف أن المسؤولين التربويين وغير التربويين لا يرسلون أولادهم إلى المدرسة الحكومية، لكن واجبهم الأخلاقي والوطني ألا يساهموا في جعلها فاشلة.
متى تصبح المدرسة الرسمية مكانَ استقطاب لأبناء الشعب كافة كما في كوريا الجنوبية وماليزيا وسنغافورة وغيرها من دول العالم مثلنا؟ لا أعتقد أن ذلك سيحصل في المدى المنظور لأننا نسير من سيء إلى أسوأ، والمحاسبة تمّ حذفها من قاموسنا الوظيفي. فليفرح ويبتهج من حوّل المدرسة الرسمية إلى ألعوبة خدمت مصالحه وأنانيته لفترة محددة، لكنها قدمت الجهل لعدد هائل من أطفال الوطن، وجعلت كثيرين من الأهالي يبحثون بأي وسيلة لإدخال أطفالهم إلى مدرسة خاصة. ولننتظر مواطناً آخر يحرق نفسه لأن المدرسة الخاصة لم ترحمه، والمدرسة الرسمية غائبة عن "الوعي" مع كل المسؤولين عنها.